الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 39 ] وسئل رحمه الله ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين ؟ هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد ؟ وهل جاء في ذلك نص في القرآن أو الأحاديث أم لا ؟ أجيبونا مأجورين .

                التالي السابق


                فأجاب شيخ الإسلام والمسلمين ناصر السنة تقي الدين : الحمد لله . الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك . هذا هو الأصل الجامع . فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم .

                " والتقوى " هي : ما فسرها الله تعالى في قوله : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } إلى قوله : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله . وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان . فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل : إذا كان مجاهدا في سبيل الله بيده أو لسانه آمرا [ ص: 40 ] بالمعروف ناهيا عن المنكر بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته ولم يكن فيها مجاهدا وإن كان أروح قلبا . وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع .

                ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء ; فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج كما قال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله } الآية { وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله قال : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور }

                . وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة ; لكنها هناك أشق عليه . فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما ; وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم فقالوا : كنا عند البغضاء البعداء وأنتم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم جاهلكم ويطعم جائعكم وذلك في ذات الله .

                [ ص: 41 ] وأما إذا كان دينه هناك أنقص فالانتقال أفضل له وهذا حال غالب الخلق ; فإن أكثرهم لا يدافعون ; بل يكونون على دين الجمهور . وإذا كان كذلك : فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره . هذا أمر معلوم بالحس والعقل وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان وقد دلت النصوص على ذلك : مثل ما روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم } وفي سننه أيضا عن عبد الله بن خولة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنكم ستجندون أجنادا : جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق فقال ابن خولة : يا رسول الله اختر لي فقال : عليك بالشام ; فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من خلقه فمن أبى فليلحق بيمنه وليتق من غدره فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله } . وكان الخوالي يقول : من تكفل الله به فلا ضيعة عليه . وهذان نصان في تفضيل الشام .

                وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة } قال الإمام أحمد : أهل المغرب هم أهل الشام وهو كما قال ; فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك [ ص: 42 ] الزمان كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق ويسمون أهل الشام أهل المغرب ; لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل مكان له غرب وشرق ; فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك في المدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غربة وما تشرق عنها فهو شرقة .

                ومن علم حساب البلاد - أطوالها وعروضها - علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات - كالبيرة ونحوها - هي محاذية للمدينة النبوية كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحران وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة . شرفها الله . ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها وما يغرب ذلك فهو غربها .

                وفي الكتب المعتمد عليها مثل " مسند أحمد " وغيره عدة آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأصل : مثل وصفه أهل الشام " بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم " . وقوله { رأيت كأن عمود الكتاب - وفي رواية - عمود الإسلام أخذ من تحت رأسي فأتبعته نظري فذهب به إلى الشام } وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه وهم حملته القائمون به . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم { عقر دار المؤمنين الشام } ومثل ما في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 43 ] أنه قال : { لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة } . وفيهما أيضا عن معاذ بن جبل قال : " وهم بالشام " وفي تاريخ البخاري قال : " وهم بدمشق " وروي : " وهم بأكناف بيت المقدس " وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام } .

                والآثار في هذا المعنى متعاضدة ولكن الجواب - ليس على البديهة - على عجل .

                وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين : أن الخلق والأمر ابتدآ من مكة أم القرى فهي أم الخلق وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض وهي جعلها الله قياما للناس : إليها يصلون ويحجون ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم . فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم ودلت الدلائل المذكورة على أن " ملك النبوة " بالشام والحشر إليها . فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر . وهناك يحشر الخلق . والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام . وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها . وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى [ ص: 44 ] الشام كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو بالشام . فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم .

                وقد دل القرآن العظيم على بركة الشام في خمس آيات : قوله : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } والله تعالى إنما أورث بني إسرائيل أرض الشام . وقوله : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } وقوله : { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها } وقوله : { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } وقوله تعالى { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } الآية . فهذه خمس آيات نصوص . و " البركة " تتناول البركة في الدين والبركة في الدنيا . وكلاهما معلوم لا ريب فيه . فهذا من حيث الجملة والغالب .

                وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له كما تقدم . وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم . وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي - رضي الله عنهما - يقول له : هلم إلى الأرض [ ص: 45 ] المقدسة فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله . وهو كما قال سلمان الفارسي ; فإن مكة - حرسها الله تعالى - أشرف البقاع وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها وقد كانت الشام في زمن موسى - عليه السلام - قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين وفيها قال تعالى لبني إسرائيل : { سأريكم دار الفاسقين } .

                فإن كون الأرض " دار كفر " أو " دار إسلام أو إيمان " أو " دار سلم " أو " حرب " أو " دار طاعة " أو معصية " أو " دار المؤمنين " أو " الفاسقين " أوصاف عارضة ; لا لازمة . فقد تنتقل من وصف إلى وصف كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم وكذلك بالعكس .

                وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم } الآية . وقال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه } الآية . وقال تعالى : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } . وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه . كما قال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } وقال : { فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى : { عليه توكلت وإليه أنيب } .

                ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته واتباع شريعته ومنهاجه . فأفضل الخلق أعلمهم وأتبعهم لما جاء به : علما وحالا وقولا وعملا وهم أتقى الخلق . وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه ; وإن كان الأفضل في حق غيره شيئا آخر . ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل في حقه فإن تساوت الحسنات والمصالح التي حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما .

                وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب " المساجد الثلاثة " علما وإيمانا ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم . فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا ; بل يعطى كل ذي حق حقه ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو [ ص: 47 ] ذلك . وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا : مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه لا لأجل عمل صالح . فالأعمال بالنيات .

                وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الهجرة فقال : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه } قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها : أم قيس وكان يقال له : مهاجر أم قيس .

                وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد كتفضيل القرن الثاني على الثالث وتفضيل العرب على ما سواهم وتفضيل قريش على ما سواهم . فهذا هذا . والله أعلم .




                الخدمات العلمية