الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فإن الناس أربعة أقسام : القسم الأول : يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض وهو معصية الله وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه . وهؤلاء هم شرار الخلق . قال الله تعالى : { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من [ ص: 393 ] في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله : إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا . أفمن الكبر ذاك ؟ قال : لا ; إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس } فبطر الحق دفعه وجحده . وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد .

                والقسم الثاني : الذين يريدون الفساد بلا علو كالسراق والمجرمين من سفلة الناس .

                والقسم الثالث : يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس .

                وأما القسم الرابع : فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } وقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } .

                فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد ; وذلك لأن إرادة العلو [ ص: 394 ] على الخلق ظلم ; لأن الناس من جنس واحد فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه ; لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورا لنظيره وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر ثم إنه مع هذا لا بد له - في العقل والدين - من أن يكون بعضهم فوق بعض كما قدمناه كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس . قال تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم } وقال تعالى : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } .

                فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل الله .

                فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا . وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح كما في الصحيحين { عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } . ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف [ و ] صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم : رأى كثير من الناس أن الإمارة [ ص: 395 ] تنافي الإيمان وكمال الدين . ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك . ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك ; فأخذه معرضا عن الدين ; لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل . لا في محل العلو والعز . وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدين العجز عن تكميل الدين والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء : استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها .

                وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الذين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين - هما سبيل المغضوب عليهم والضالين . الأولى للضالين النصارى والثانية للمغضوب عليهم اليهود .

                وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيلهم . وهم { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه ; فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات : لم يؤاخذ بما يعجز عنه ; فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية