الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما النفاق الأصغر : فهو النفاق في الأعمال ونحوها : مثل أن يكذب إذا حدث ويخلف إذا وعد ويخون إذا اؤتمن أو يفجر إذا خاصم . ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان } وفي رواية صحيحة { وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم } وفي الصحيحين [ ص: 436 ] عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب . وإذا وعد أخلف . وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر } .

                ومن هذا الباب : الإعراض عن الجهاد . فإنه من خصال المنافقين .

                قال النبي صلى الله عليه وسلم { من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق } رواه مسلم . وقد أنزل الله " سورة براءة " التي تسمى الفاضحة ; لأنها فضحت المنافقين . أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال : هي الفاضحة ما زالت تنزل ( ومنهم ( ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها . وعن المقداد بن الأسود قال : هي " سورة البحوث " لأنها بحثت عن سرائر المنافقين . وعن قتادة قال : هي المثيرة ; لأنها أثارت مخازي المنافقين . وعن ابن عباس قال : هي المبعثرة . والبعثرة والإثارة متقاربان .

                وعن ابن عمر : أنها المقشقشة . لأنها تبرئ من مرض النفاق . يقال : تقشقش المريض إذا برأ : قال الأصمعي : وكان يقال لسورتي الإخلاص : المقشقشتان ; لأنهما يبرئان من النفاق .

                [ ص: 437 ] وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك عام تسع من الهجرة وقد عز الإسلام وظهر . فكشف الله فيها أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد . ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال . وهذان داءان عظيمان : الجبن والبخل . قال النبي صلى الله عليه وسلم { شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع } حديث صحيح ; ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله : { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى . { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } .

                وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } { لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون } . فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم ; ولكن يفزعون من العدو . ف { لو يجدون ملجأ } يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو ( مغارات وهي جمع مغارة . ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر ; كما يغور الماء . ( أو مدخلا [ ص: 438 ] وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك . أي مكانا يدخلون إليه . ولو كان الدخول بكلفة ومشقة ( لولوا عن الجهاد { إليه وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام . وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها .

                وكذلك قال في " سورة محمد " صلى الله عليه وسلم { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } أي فبعدا لهم { طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } وقال تعالى . { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد .

                وقال تعالى : { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } . فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد ; وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن فكيف بالتارك من غير استئذان ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى .

                [ ص: 439 ] وقال في وصفهم بالشح : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } . فهذه حال من أنفق كارها فكيف بمن ترك النفقة رأسا وقال : { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } وقال : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } .

                وقال في السورة : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .

                فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه أو منعه من مستحقه من جميع الناس ; فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد . وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون . يقال : صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا .

                وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل : من وقف أو عطية على [ ص: 440 ] الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك . فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين .

                ثم قال : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله . والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك . وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها : مصالحهم - أولى وأحرى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية