الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال رحمه الله " قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك " فصل : بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب : وواجبها ينقسم إلى فرض على العين وفرض على الكفاية . فأما ما يجب من التبرعات - مالا ومنفعة - فله موضع غير هذا . وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام مذكورة في الحديث المأثور : { أربع من فعلهن فقد برئ من البخل : من آتى الزكاة وقرى الضيف ووصل الرحم وأعطى في النائبة } .

                ولهذا كان حد البخيل : من ترك أحد هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا اختاره أبو بكر وغيره .

                فالزكاة هي الواجب الراتب التي تجب بسبب المال بمنزلة [ ص: 186 ] الصلاة المفروضة وأما الثلاثة فوجوبها عارض فقري الضيف واجب عندنا ونص عليه الشافعي وصلة الأرحام واجبة بالإجماع كنفقة الأقارب وحمل العاقلة وعتق ذي الرحم المحرم . وإنما الاختلاف فيمن تجب صلته وما مقدار الصلة الواجبة . وكذلك الإعطاء في النائبة مثل الجهاد في سبيل الله وإشباع الجائع وكسوة العاري . وقد نص أحمد على أنه لو صدق السائل لما أفلح من رده .

                وأما الواجبات المنفعية بلا عوض : فمثل تعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصر المظلوم وهي كثيرة جدا . وعامة الواجب في منافع البدن ويدخل فيها الأحاديث الصحيحة من حديث أبي ذر وأبي موسى وغيرهما { على كل سلامى من ابن آدم صدقة } " . وتدخل أيضا في مطلق الزكاة والنفقة في مثل قوله : { ومما رزقناهم ينفقون } كما نقل مثل ذلك عن السلف : الحسن البصري وغيره . وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { كل معروف صدقة } " ويروى ما تصدق عبد بصدقة أعظم من موعظة يعظ بها أصحابا له ; فيتفرقون وقد نفعهم الله بها ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعه .

                وأما المنافع المالية وهو كمن اضطر إلى منفعة مال الغير كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه وثوب يستدفئ به من البرد ونحو ذلك فيجب بذله ; لكن هل يجب بذله مجانا أو بطريق التعوض [ ص: 187 ] كالأعيان ؟ فيه وجهان .

                وحجة التبرع متعددة . كقوله تعالى : { ويمنعون الماعون } ففي سنن أبي داود عن ابن مسعود قال : كنا نعده عارية القدر والدلو والفأس . وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار إذا احتاج إليه على أصلنا المتبع ; لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من المواضع .

                ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفعته أو منفعة البدن بلا عوض له تفصيل في موضع آخر . ولو كان كثير من المتفقهة مقصرين في علمه بحيث قد ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه . ويعتقد الغالط منهم { أن لا حق في المال سوى الزكاة } " أن هذا عام ; ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة { : إن في المال حقا سوى الزكاة } .

                ومن قال بالأول : أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال فيكون راتبا وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع : مثل الجهاد بالمال عند الحاجة والحج بالمال ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك من الآدميين والبهائم . ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة [ ص: 188 ] وهدي كفارات الحج وكفارات الأيمان والقتل وغيرها . وما يجب من وفاء النذور المالية إلى أمثال ذلك ; بل المال مستوعب بالحقوق الشرعية الراتبة أو العارضة بسبب من العبد أو بغير سبب منه . وليس هذا موضع تفصيل هذه الجملة .

                وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات : مثل المبايعة والمؤاجرة وما يشبه ذلك . ومثل المشاركات : كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك . فإن هذا كثيرا ما يغلط فيه الغالطون لما استقر في الشريعة أن الظلم حرام وأن الأصل أن هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي إلا في مواضع استثناها الشارع وهو الإكراه عليها بحق : صار يغلط فريقان : قوم يجعلون الإكراه على بعضها إكراها بحق وهو إكراه بباطل . وقوم يجعلونه إكراها بباطل وهو بحق . وفيها ما يكون إكراها بتأويل حق فيدخل في قسم المجتهدات ; إما الاجتهادات المحضة أو المشوبة بهوى وكذلك المعاوضات .

                ونحن نعلم قطعا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا ; لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ حق الغير بغير حق [ ص: 189 ] فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبا في مواضع أولى وأحرى ; بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر . فهو أوسع منه قدرا وصفة .

                ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين وجبت فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال المكافية لحاجة المعتاض فرب المال أولى ; فإن الضرر لا يزال بالضرر والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين . " وابدأ بنفسك ثم بمن تعول " .

                وهذه قاعدة حسنة مناسبة ولها شواهد كثيرة في الشريعة . وأنا أذكر منها بتيسير الله تعالى . وجماع المعاوضات أربعة أنواع : معاوضة مال بمال : كالبيع . وبذل مال بنفع كالجعالة . وبذل منفعة بمال كالإجارة وبذل نفع بنفع كالمشاركات من المضاربة ونحوها فإن هذا بذل نفع بدنه وهذا بذل نفع ماله . وكالتعاون والتناصر ونحو ذلك .

                وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين ; إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه وهذا لهذا ما [ ص: 190 ] يحتاج إليه لفسد الناس وفسد أمر دنياهم ودينهم فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة وصلاحها بالعدل الذي أنزل الله له الكتب وبعث به الرسل . فقال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } .

                ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه لم يشرع الإكراه ورد الأمر إلى التراضي في أصل المعاوضة وفي مقدار العوض . وأما إذا لم يبذل فقد يوجب المعاوضة تارة وقد يوجب عوضا مقدرا تارة . وقد يوجبهما جميعا وقد يوجب التعويض لمعين أخرى .

                مثال الأول : من عليه دين فطولب به وليس له إلا عرض فعليه أن يبيعه ليوفيه الدين فإن وفاء الدين واجب ولا يتم إلا بالبيع وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وللحاكم أن يكرهه على بيع العرض في وفاء دينه وله أن يبيع عليه إذا امتنع ; لأنه حق وجب عليه فقبل النيابة فقام ذو السلطان فيهم مقامه كما يقوم في توفية الدين وتزويج الأيم من كفئها إذا طلبته وغير ذلك وكما يقبض الزكاة من ماله وسواء كان الدين الذي عليه برضا الغريم كثمن مبيع وبدل قرض أو بغير رضاه كقيم المتلفات وأروش الجنايات .

                [ ص: 191 ] ومن ذلك ضمان المغصوب إذا تعذر رد عينه ومن المغصوب الأمانات إذا خان فيها ومن الأمانات ما اؤتمن عليه من مال المسلمين كالعمال على الفيء والزكاة والصدقات الموقوفة ومال اليتيم ومال الموكل كالشريك والمضارب ونحوهما . ومال الفيء إذا خانوا فيها . وتعذر رد عين المال وكذلك بيع ماله لأداء ما يجب عليه من النفقات الواجبة لزوجته أو ولده أو نفسه .

                وبالجملة فكل من وجب عليه أداء مال إذا لم يمكن أداؤه إلا بالبيع صار البيع واجبا يجبر عليه ويفعل بغير اختياره .

                ومثال الثاني : المضطر إلى طعام الغير إذا بذله له بما يزيد على القيمة ; فإن له أن يأخذه بقيمة المثل فإنه يجب عليه أن يبيعه وأن يكون بيعه بقيمة المثل فإذا امتنع منهما أجبر عليهما وإن بذل أحدهما أجبر الآخر . والمسألة مذكورة في " كتاب الأطعمة " حتى إنه لو امتنع عن بذل الطعام فله أن يقاتله عليه ; لأنه بمنزلة المقاتل عن نفسه .

                ولهذا نضمنهم ديته لو مات كما روي أن رجلا استسقى قوما فلم يسقوه حتى مات فضمنهم عمر ديته وأخذ به أحمد فإنه إذا وجب إطعام المضطر بلا عوض عند عجزه عنه فلأن يجب بالمعاوضة أولى وأحرى وهكذا إذا اضطر الناس ضرورة عامة وعند أقوام فضول أطعمة [ ص: 192 ] مخزونة فإنه يجب عليهم بيعها وعلى السلطان أن يجبرهم على ذلك أو يبيعها عليهم ; لأنه فعل واجب عليهم يقبل النيابة فيجب إلزامهم بما وجب عليهم شرعا وهو حق للمسلمين عندهم فيجب استنقاذه منهم . وهكذا كل ما اضطر الناس إليه : من لباس وسلاح وغير ذلك مما يستغني عنه صاحبه فإنه يجب بذله بثمن المثل .

                وقد كتبت قبل هذا حديث سمرة بن جندب في صاحب النخلة لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ببيعها فلم يفعل وذكرت ما فيه من وجوب المعاوضة التي يحتاج إليها المبتاع من غير ضرر البائع .

                ولهذا نهى الشارع عن الاحتكار الذي يضر الناس في قوله صلى الله عليه وسلم { لا يحتكر إلا خاطئ } " رواه مسلم . وغير ذلك . والمحتكر مشتر متجر ; لكن لما كان يشتري ما يضر الناس . ولا يحتاج إليه حرم عليه والبيع والشراء في الأصل جائزان غير واجبين ; لكن لحاجة الناس يجب البيع تارة ويحرم الشراء أخرى . هذا في نفس العقد .

                وأما في مقدار الثمن فنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع حاضر لباد لما فيه من إضرار المشتري إذا توكل الحاضر للقادم بسلعته في البيع مع حاجة الناس إليها وقد يستدل بذلك على [ ص: 193 ] وجوب بيعها بثمن المثل ; ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } .

                وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر في ما لا ينقسم ; فإن الشريك محتاج إلى البيع ; ليأخذ نصيبه ولا ضرر على الآخر فيه . وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه فإن العتق يحتاج إلى تكميل لما في تبعيض العتق من الضرر من غير ضرر على البائع في بيع نصيبه أو فيه ضرر دون الحاجة إلى تكميل العتق .

                وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله كمن له في ملك الغير عرق محترم من غراس أو بناء أو بئر كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب وكان الثمن عقارا وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة فإن لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه أو يبقيه بأجرة المثل وكلاهما معاوضة : إما على العين أو على منفعة أرضه .

                وكذلك إجبارنا لأحد الشريكين على الكري مع الآخر أو العمارة معه هو إجبار على المعاوضة ; فإن العمارة تتضمن ابتياع أعيان واستئجار عمال فهي إجبار على شراء وإجارة ; لأن الشريك محتاج إلى ذلك ولا ضرر على الباذل في ذلك فتجب عليه المعاوضة معه . تارة لأجل القسمة . وتارة لبقاء الشركة . وعلى هذا فإذا احتاج المسلمون إلى [ ص: 194 ] الصناعات : كالفلاحة والنساجة والبناية : فعلى أهلها بذلها لهم بقيمتها كما عليهم بذل الأموال التي يحتاج إليها بقيمتها ; إذ لا فرق بين بذل الأموال وبذل المنافع ; بل بذل المنافع التي لا يضر بذلها أولى بالوجوب معاوضة ويكون بذل هذه فرضا على الكفاية . وقد ذكر طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم : أن أصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والبناية : فرض على الكفاية . والتحقيق : أنها فرض عند الحاجة إليها ; وأما مع إمكان الاستغناء عنها فلا تجب . وهذه حكينا بيعها ; فإن من يوجبها إنما يوجبها بالمعاوضة ; لا تبرعا . فهو إيجاب صناعة بعوض ; لأجل الحاجة إليها . وقولي عند الحاجة . فإن المسلمين قد يستغنون عن الصناعة بما يجلبونه أو يجلب إليهم من طعام ولباس .

                والأصل أن إعانة الناس بعضهم لبعض على الطعام واللباس والسكنى أمر واجب . وللإمام أن يلزم بذلك ويجبر عليه ; ولا يكون ذلك ظلما بل إيجاب الشارع للجهاد الذي فيه المخاطرة بالنفس والمال لأجل هداية الناس في دينهم : أبلغ من هذا كله . فإذا كانت الشجاعة التي يحتاج المسلمون إليها والكرم الذي يحتاج المسلمون إليه واجبا فكيف بالمعاوضة التي يحتاج المسلمون إليها .

                ولكن أكثر الناس يفعلون هذا بحكم العادات والطباع وطاعة [ ص: 195 ] السلطان غير مستشعرين ما في ذلك من طاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر فيما أمر الله بطاعتهم فيه .

                ولهذا يعدون ذلك ظلما وعناء ولو علموا أنه طاعة لله احتسبوا أجره وزالت الكراهة ولو علموا الوجوب الشرعي لم يعدوه ظلما .

                وكذلك إذا احتاجوا إلى القتال والجهاد بالنفس وبذلوا أموالا من بيت المال أو من غيره ; فإن الجهاد وإن كان فيه مخاطرة بالنفس ويخاف فيه الضرر ; لكنه واجب بالشرع إذا بذل للإنسان المال ; فإن مصلحة الدين لا تتم إلا بوجوبه وعلى الإنسان أن يجاهد بمال نفسه فإذا بذل له المال كان أولى بالوجوب . فمن كان من أهل صناعات القتال : رميا وضربا وطعنا وركوبا وجب عليه ذلك وأجبر عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { وإذا استنفرتم فانفروا .

                } ولهذا قال الفقهاء : إنه يجب عينا إذا أمر به الإمام وكذلك إذا احتاج المجاهدون إلى أهل الصناعات والتجارات كصناع الطعام واللباس والسلاح ومصالح الخيل وغير ذلك وطلبت منهم تلك الصناعة بعوضها وجب بذلها وأجبروا عليها .

                وكذلك التجار فيما يحتاج إليه في الجهاد : عليهم بيع ذلك وإذا [ ص: 196 ] احتاج العسكر إلى خروج قوم تجار فيه لبيع ما لا يمكن العسكر حمله من طعام ولباس وسلاح ونحو ذلك . فالتجارة كالصناعة . والعسكر بمنزلة قوم في بلد فكما يجب على بعض إعانة بعض على حاجاتهم بالمعاوضة التي لا ضرر فيها فإن ذلك واجب في العسكر .

                وكما للإمام أن يوجب الجهاد على طائفة ويأمرهم بالسفر إلى مكان لأجله فله أن يأمر بما يعين على ذلك ويأمر قوما بتعلم العلم ويأمر قوما بالولايات .

                والإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية