الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال : فصل : الذي يكره من شراء الأرض الخراجية إنما كان لأن المشتري يشتريها فيرفع الخراج عنها وذلك إسقاط لحق المسلمين كما كانوا أحيانا يقطعون بعضها لبعض المحاربين إقطاع تمليك ; لا إقطاع استغلال كإقطاع الموات ، فهذا الانتفاع والإقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعته دائمة للمسلمين فإذا قطعت منفعته عن المسلمين صار ظلما لهم ; بمنزلة من غصب طريق المسلمين أو بنى في منى ونحوها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد .

                فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع فهو كما لو ولاه إياها بلا حق وكما لو ورثها ; فإن الإرث مجمع عليه : أن الوارث أحق بها بالخراج ; وذلك لأن إعطاءها لمن أعطيته بالخراج قد قيل : [ ص: 205 ] إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقوله بعض الكوفيين . وقد قيل : إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة كما يقوله أصحابنا والمالكية والشافعية وكلا القائلين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات .

                والتحقيق : أنها معاملة قائمة بنفسها ذات شبه من البيع ومن الإجارة تشبه في خروجها عنهما المصالحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع الجذع ونحو ذلك بعوض ناجز فإنه لم يملك العين مطلقا ولم يستأجرها وإنما ملك هذه المنفعة مؤبدة .

                وكذلك وضع الخراج لو كان إجارة محضة وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين وأكروها ; لكان ينبغي إكراء المساكن أيضا ; لأنها للمسلمين إذا فتحت عنوة . ولكان قد ظلم المسلمين ; فإن كراء الأرض يساوي أضعاف الخراج . ولكان على المشهور عندهم لا يستحق الآخذ إلا ما في الأرض من الشجر القائمة من النخيل والأعناب وغير ذلك كمن استأجر أرضا فيها غراس . ولكان دفعها مساقاة ومزارعة - كما فعل المنصور والمهدي في أرض السواد - أنفع للمسلمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر ; فإنه لا فرق إلا أن ملاك خيبر معينون وملاك أرض العنوة العمرى مطلقون وإلا فيجوز كذلك أن يؤاجر ويجوز له في الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة .

                [ ص: 206 ] وأما بيعها : فلو كان كذلك لباع المساكن أيضا . ولا بيع يكون الثمن مؤبدا إلى يوم القيامة فالمستخرج أصل دلت عليه السنة والإجماع فلا يقاس بغيره - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها } . واتفق الصحابة مع عمر على فعله .

                يوضح ذلك أن أصل الخراج في قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } فإن هذا فرق بين العقار والمنقول ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم فعلم اختصاصهم بها .

                وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج وعاوضه على ذلك عوضا لم يكن في ذلك ضرر أصلا فلا وجه لمنعه ; لأنه إن قيل : إنه وقف فهذا لا يخرجه بهذه المعاوضة عن أن يكون وقفا ; بل مستحق أهل الوقف باق كما كان وبيع الوقف إنما منع منه لإزالة حق أهل الوقف . وهذا لا يزول ; بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها فكأنه قال : أكريتك هذه الأرض بما علي من الخراج وبالزيادة التي تعجلها إلي ; ولهذا ينتقل إلى ورثة من هي في يده ; والوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان - والهبة مثله - فكذلك المعاوضة سواء سميت بيعا أو إجارة . ولهذا جوز أحمد إصداق الأرض الخراجية وما جاز [ ص: 207 ] أن يكون صداقا جاز أن يكون ثمنا وأجرة . وما كان ثمنا كان مثمنا . فهذا باب ينبغي تأمله .

                يبقى إذا أخذه المسلم : هل يكره لما فيه من الصغار أو لما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة . فهذه مواضع أخر - غير كونه وقفا - تختلف باختلاف المصالح والأوقات كما { أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على خيبر لقلة المسلمين فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وصار المسلمون يعمرونها } فكذلك الأرض الخراجية إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج والكفار يستغلون الأرض بالخراج اليسير ; فإنهم كانوا زمن عمر قليلا وأهل الذمة كثيرا . وقد يعكس الأمر مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم على خيبر ثم عمرها المسلمون لما كثر المسلمون وتضرروا ببقاء أهل الذمة في أرض العرب فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين .

                فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية ; وتضرروا ببقائها في أيدي أهل الذمة فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي عنها ويقوم مقامه فيها . فإن كان المؤدى أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها وإن كان ثمنا فهو أحق باشترائها [ ص: 208 ] وإن كان عوضا ثالثا فهو به أحق أيضا . ومتى كثر المسلمون لم يبق صغار ولا جزية وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم كما لو أسلم الذمي الذي هو مستول عليها فإنها تبقى بيده مؤديا لخراجها وسقط عنه جزية جمجمته فكيف يقاس هذا بهذا .

                وإذا جاز أن تبقى بيده بعد إسلامه فما المانع من أن يدفعها إلى مسلم غيره بعوض أو غيره والمسلم لا صغار عليه بحال فلو كان المانع كونها صغارا لم يجامع الإسلام كجزية الرأس .

                ولا يقال : هي كالرق تمنعه الإسلام ابتداء ولا تمنع دوامه لأن الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم لم نعاوضهم عليه فكذلك جزية الرأس لا نمكنهم من المقام بالأرض الإسلامية إلا بها فهي نوع من الرق لثبوتها بغير اختيار المسترق . وأما الخراج فإنما يثبت برضى المخارج واختياره ولو لم يقبل الأرض منا لم ندفعها إليه ; بمنزلة المساقاة والمزارعة التي عامل النبي صلى الله عليه وسلم بها أهل خيبر سواء : هناك كان العوض جزءا من الزرع وهنا العوض مسمى معلوم . وهناك لا يستحق شيئا إلا إذا زرعوا وهنا يستحق إذا أمكنهم الزرع . فنظيره أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استحقه ; إذ أن المضارب يدفع المال مضاربة لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق .

                [ ص: 209 ] وبالجملة فالموانع من كونها وقفا ينظر فيها . أما جهة الوقف فلا يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا . وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا عام في جميع الأرضين ; عشريها وخراجيها وذاك شيء آخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية