الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 348 ] " والأصل الثاني " أن الشرط المخالف لكتاب الله إذا لم يرضيا إلا به فقد التزما ما حرمه الله . فلا يلزم كما لو نذر المعصية . وسواء كانا عالمين أو جاهلين وإن اشترطه أحدهما على الآخر يعتقد جوازه فلم يرض إلا به فلا يلزمه العقد إلا أن يكون التزمه لله فيلزمه ما كان لله ; دون ما لم يكن : كالنذر والوقف والوصية وغير ذلك مما تتفرق فيه الصفقة . وإن عرف أنه حرام وشرطه فهو كشرط أهل بريرة : شرطه باطل ولا يبطل العقد .

                ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع وغير ذلك من العقود . فمن الفقهاء من أبطل شروطا كثيرة في النكاح بلا حجة . ثم الشرط الباطل في النكاح قالوا : يبطل ويصح النكاح بدونه والمشترط للنكاح لم يرض إلا به والشروط في النكاح أوكد منها في البيع ; لقوله صلى الله عليه وسلم { إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج } . فلزمهم من مخالفة النصوص في مواضع كثيرة وإلزام الخلق بشيء لم يلتزموه ولا ألزمهم الله به . فأوجبوا على الناس ما لم يوجبه الله ورسوله .

                ثم قد يتوسعون في الطلاق الذي يبغضه الله فيحرمون على الناس ما لم يحرمه الله ورسوله ثم يبيحون ذلك بالعقود المشروطة فيها الشروط الفاسدة فيحللون ما لم يحلله الله ورسوله . مثال ذلك : أن شرط التحليل في العقد شرط حرام باطل بالاتفاق .

                [ ص: 349 ] إذا شرط أنه يطلقها إذا أحلها وكذلك شرط الطلاق بعد أجل مسمى . فشرط الطلاق في النكاح إذا مضى الأجل أو بعد التحليل شرط باطل بالاتفاق مع القول بتحريم المتعة فإن الله لم يبح النكاح إلى أجل ولم يبح نكاح المحلل . فقال طائفة من الفقهاء : يصح العقد ويبطل الشرط كما يقوله أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين . ويكون العقد لازما . ثم كثير من هؤلاء فرق بين التوقيت وبين الاشتراط . فقالوا : إذا قال : تزوجتها إلى شهر ; فهو نكاح متعة وهو باطل . وطرد بعضهم القياس . وهو قول زفر وخرج وجها في مذهب أحمد أنه يصح العقد ; ويلغو التوقيت كما قالوا يلغو الشرط .

                ولو قال في نكاح التحليل : على أنك إذا أحللتها طلقها فهو شرط كما لو قال في المتعة : على أنه إذا انقضى الأجل طلقها . وإن قال : فلا نكاح بينكما . فقيل : فيه قولان للشافعي وغيره قيل : يلحق بالشرط الفاسد فيصح النكاح . وقيل : بالتوقيت فيبطل النكاح .

                ولو شرط الخيار في النكاح ، ففيه ثلاثة أقوال : هي ثلاث روايات عن أحمد . قيل : يصح العقد والشرط . وقيل : يبطلان . وقيل : يصح العقد دون الشرط . فالأظهر في هذا الشرط أنه يصح . وإذا قيل : ببطلانه لم يكن العقد لازما بدونه ; فإن الأصل في الشرط الوفاء وشرط الخيار مقصود صحيح لا سيما في النكاح . وهذا يبنى [ ص: 350 ] على أصل . وهو : أن شرط الخيار في البيع : هل الأصل صحته أو الأصل بطلانه ; لكن جوز ثلاثا على خلاف الأصل ؟ فالأول قول أئمة الفقهاء : مالك وأحمد وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد . والثاني قول أبي حنيفة والشافعي ; ولهذا أبطلا الخيار في أكثر العقود : النكاح وغيره .

                وكذلك تعليق النكاح على شرط فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد . وأصحاب الشافعي وأحمد يفرقون في النكاح بين شرط يرفع العقد كالطلاق وبين غيره : مثل اشتراط عدم المهر أو عدم الوطء أو عدم القسم وفي مذهب أحمد خلاف في شرط عدم المهر ونحوه .

                والصواب أن كل شرط : فإما أن يكون مباحا فيكون لازما يجب الوفاء به وإذا لم يوف به ثبت الفسخ كاشتراط نوع أو نقد في المهر . ولا يجوز أن يجعل النكاح لازما مع عدم الوفاء ; بل يخير المشترط بين إمضائه وبين الفسخ كالشروط في البيع وكالعيب . فإنه يرد بالعيب في البيع بالاتفاق وكذلك في النكاح عند الجمهور . قال طائفة من المدنيين وغيرهم لا ترد الحرة بعيب وقالوا : النكاح لا يقبل الفسخ فلم يجوزوا فسخه بعيب ولا شرط . ثم هم وسائر المسلمين يوجبون في الإيلاء على المولي إما الفيأة وإما الطلاق . وهم يقولون : [ ص: 351 ] يقع الطلاق عقب انقضاء المدة إذا لم يفئ وإذا كان الزوج عنينا أو مجبوبا فعامتهم على أن لها الفسخ : لكن قالوا : المرأة لا يمكنها الطلاق . والجمهور على ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص كما قاله عمر بن الخطاب ثم خص الفسخ كثير منهم بما يمنع النكاح كما أبطلوا النكاح بالشرط الذي يرفع العقد . وتفصيل هذا له موضع آخر .

                والمقصود هنا : أن مقتضى الأصول والنصوص : أن الشرط يلزم ; إلا إذا خالف كتاب الله . وإذا كان لازما لم يلزم العقد بدونه . فالمسلمون كلهم يجوزون أن يشترط في المهر شيئا معينا : مثل هذا العبد وهذه الفرس وهذه الدار ; لكن يقولون : إذا تعذر تسليم المهر لزم بدله فلم يملك الفسخ وإن كان المنع من جهته . وهذا ضعيف مخالف للأصول فإن لم يقل بامتناع العقد فقد يتعذر تسليم العقد فلا أقل من أن تمكن المرأة من الفسخ ; فإنها لم ترض وتبح فرجها إلا بهذا فإذا تعذر فلها الفسخ . وهم يقولون : المهر ليس هو المقصود الأصلي . فيقال : كل شرط فهو مقصود والمهر أوكد من الثمن ; لكن هنا الزوجان معقود عليهما وهما عاقدان بخلاف البيع فإنهما عاقدان غير معقود عليهما وهذا يقتضي أنه إذا فات فالمرأة مخيرة بين الفسخ وبين المطالبة بالبدل كالعيوب في البيع لكون المعقود عليه - وهما الزوجان - باقيين فالفائت جزء من المعقود عليه فهو كالعيب الحادث [ ص: 352 ] في السلعة قبل التمكن من القبض : يوجب الفسخ ولا يبطل العقد . هذا مقتضى الأصول والنصوص والقياس .

                وإن كان الشرط باطلا ولم يعلم المشترط ببطلانه لم يكن العقد لازما ; بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ . هذا هو الأصل وأما إلزامه بعقد لم يرض به ولا ألزمه الشارع أن يعقده ، فهذا مخالف لأصول الشرع ومخالف للعدل الذي أنزل الله به الكتاب وأرسل به الرسل . وهم جعلوا الأصل أن الحرة لا ترد بعيب . قالوا : فلا يفسخ النكاح بفوات الشرط ; لأنهما من جنس واحد وقالوا : يصح النكاح بلا تقدير مهر فيصح مع نفي المهر فيصح مع كل الشروط الفاسدة .

                وأما صحته بدون فرض المهر ; فهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ; لكن إذا اعتقد عدم وجوب المهر فإن المهر المطلق مهر المثل وأما مع نفيه : ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره . والقول بالبطلان قول أكثر السلف كما في مذهب مالك وغيره . وهو الصواب لدلالة الكتاب والسنة عليه وحديث الشغار .

                قالوا فثبت الفرق بين النكاح والبيع من هاتين الجهتين : عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح والصحة مع الشرط الفاسد . فيقال : [ ص: 353 ] أما عدم الفسخ بفوات الشرط الصحيح وقول من قال : لا ترد الحرة بعيب ، فهذا ليس له أصل في كلام الشارع ألبتة ; بل متى كان الشرط صحيحا وفات : فلمشترطه الفسخ ، ثم الشرط المتقدم على العقد هل هو كالمقارن له ؟ فيه قولان . والصحيح أنه كالمقارن وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك ووجه في مذهب الشافعي يخرج من السر والعلانية وأحمد يوجب ما سمى في العلانية وإن كان دون ما اتفق عليه في السر لكن يوجب ذلك ظاهرا ويأمرهم أن يوفوا بما شرطوا له فعلى هذا لم يحكم بالسر لعدم ثبوته وإن ثبت حكم به .

                وإن قيل : لا يحكم به مطلقا فلأنهم أظهروا خلاف ما أبطنوه والنكاح مبناه على الإعلان لا على الإسرار وهذا بخلاف شرط لم يظهروا ما يناقضه في النكاح والبيع وغيرهما فهذا يجب الوفاء به عنده وهو يؤثر في العقد . والشافعي إذا قال في النكاح : إنه يؤخذ بالسر ففي غيره أولى .

                وأما صحته مع الشرط الفاسد : فالأصل فيه عدم تقدير المهر وليس هذا شرطا فاسدا ; بدليل أن الشرط الفاسد لا يحل اشتراطه وهذا النكاح حلال فلو تزوجها ولم يفرض مهرا ; لكن على عادة الناس أنه لا بد لها من مهر ; إما أن يتراضيا وإما أن يكون لها مهر نسائها ، فهذا النكاح حلال ليس فيه شرط فاسد . فمن ذينك القياسين [ ص: 354 ] الفاسدين فرقوا بين النكاح والبيع وألزموا الناس بنكاح لم يرضوا به وإن شرطوا فيه شرطا صحيحا كما ألزموا الرجل بنكاح المرأة المعيبة وهو لم يرض بنكاح معيبة .

                فإن قيل : فلم فرق بين عيوب الفرج وغيرها ؟ قيل : قد علم أن عيوب الفرج المانعة من الوطء لا يرضى بها في العادة ; فإن المقصود بالنكاح الوطء ; بخلاف اللون والطول والقصر ونحو ذلك مما ترد به الأمة ; فإن الحرة لا تقلب كما تقلب الأمة والزوج قد رضي رضا مطلقا وهو لم يشرط صفة فبانت بدونها . فإن شرط ففيه قولان في مذهب الشافعي وأحمد . والصواب أنه له الفسخ وكذا بالعكس وهو مذهب مالك والشرط إنما يثبت لفظا أو عرفا وفي البيع دل العرف على أنه لم يرض إلا بسليم من العيوب وكذلك في النكاح لم يرض بمن لا يمكن وطؤها والعيب الذي يمنع كمال الوطء - لا أصله - فيه قولان في مذهب أحمد وغيره وأما ما يمكن معه الوطء وكمال الوطء فلا تنضبط فيه أغراض الناس .

                والشارع قد أباح بل أحب له النظر إلى المخطوبة وقال : { إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما } . { وقال لمن خطب امرأة من الأنصار : انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا } وقوله : { أحرى أن يؤدم بينهما } يدل على أنه إذا [ ص: 355 ] عرفها قبل النكاح دام الود . وأن النكاح يصح وإن لم يرها فإنه لم يعلل الرؤية بأنه يصح معه النكاح . فدل على أن الرؤية لا تجب وأن النكاح يصح بدونها وليس من عادة المسلمين ولا غيرهم أن يصفوا المرأة المنكوحة بذلك ; بخلاف البيع ; فإنه إما أن لا يصح وإما أن يملك خيار الرؤية . وإن كان قد ذكر في مذهب أحمد رواية ضعيفة أنه يصح بلا رؤية ولا صفة ولا يثبت خيار .

                وهذا الفرق إنما هو للفرق بين النساء والأموال : أن النساء يرضى بهن في العادة على الصفات المختلفة والأموال لا يرضى بها على الصفات المختلفة ; إذ المقصود بها التمول وهو يختلف باختلاف الصفات والمقصود بالنكاح المصاهرة والاستمتاع وذلك يحصل مع اختلاف الصفات . فهذا فرق شرعي معقول في عرف الناس . أما إذا عرف أنه لم يرض لاشتراطه صفة فبانت بخلافها وبالعكس فإلزامه بما لم يرض به مخالف للأصول . ولو قال : ظننتها أحسن مما هي أو ما ظننت فيها هذا ونحو ذلك . كان هو المفرط حيث لم يسأل عن ذلك ولم يرها ولا أرسل من رآها . وليس من الشرع ولا العادة أن توصف له في العقد كما توصف الإماء في السلم ; فإن الله صان الحرائر عن ذلك وأحب سترهن ; ولهذا نهيت المرأة أن تعقد نكاحا فإذا كن لا يباشرن العقد فكيف يوصفن ؟ وأما الرجل فأمره ظاهر [ ص: 356 ] يراه من يشاء فليس فيه عيب يوجب الرد والمرأة إذا فرط الزوج فالطلاق بيده .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية