الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وسئل شيخ الإسلام الشجاع المقدام ليث الحروب وأسد السنة ; الصابر في ذات الله على المحنة العلم الحجة أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله رب البرية : عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن صوت وحرف وأن الرحمن على العرش استوى : على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره هل يحنث في هذا ؟ أم لا ؟

                [ ص: 170 ]

                التالي السابق


                [ ص: 170 ] فأجاب رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين . إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن والمداد الذي يكتب به حروف القرآن قديمة أزلية : فقد حنث في يمينه . وما علمت أحدا من الناس يقول ذلك وإن كان قد يكره تجريد الكلام في المداد الذي في المصحف وفي صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن . ومن الناس من تكلم في صوت العبد وإن كنا نعلم أن الذي نقرؤه هو كلام الله حقيقة ; لا كلام غيره وأن الذي بين اللوحين هو كلام الله حقيقة ; لكن ما علمت أحدا حكم على مجموع المداد المكتوب به وصوت العبد بالقرآن : بأنه قديم .

                ولكن الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان في " باب صفات الله " إلا المعاني التي تليق بالخلق ; لا بالخالق ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه في كلام الله وكلام رسوله إذا وجدوا ذلك فيها وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذي فهموه أو زادوا عليهم في الألفاظ وغيروها قدرا ووصفا كما نسمع من ألسنتهم ونرى في كتبهم . ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم ويذم ويبحث مع من لا وجود له وذمه واقع على موصوف غير [ ص: 171 ] موجود نظير ما صرف الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال : { ألا تعجبون من قريش يشتمون مذمما وأنا محمد } . وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة أنهم ناصبة وتحكي القدرية عنهم أنهم مجبرة وتحكي الجهمية عنهم أنهم مشبهة ويحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم : أنهم نابتة وحشوية وغثاء وغثرا . إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة .

                ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون في الغالب أو في الجميع إلا مع هذا القول الذي ما علمنا لقائله وجودا . وإن كان مقصود الحالف : أن القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو هذه المائة والأربع عشرة سورة : حروفها ومعانيها وأن القرآن ليس هو الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف ; بل هو مجموع الحروف والمعاني وأن تلاوتنا للحروف وتصورنا للمعاني لا يخرج المعاني والحروف عن أن تكون موجودة قبل وجودنا : فهذا مذهب المسلمين . ولا حنث عليه . وكذلك إن كان مقصوده أن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم : هو كلام الله سبحانه حقيقة ; لا مجازا وأنه [ ص: 172 ] لا يجوز نفي كونه كلام الله ; إذ الكلام يضاف حقيقة لمن قاله متصفا به مبتديا وإن كان قد قاله غيره مبلغا مؤديا وهو كلام لمن اتصف به مبتديا ; لا من بلغه مؤديا .

                فإنا بالاضطرار نعلم من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين سلف الأمة أن قائلا لو قال : إن هذه الحروف - حروف القرآن - ما هي من القرآن وإنما القرآن اسم لمجرد المعاني : لأنكروا ذلك عليه غاية الإنكار وكان عندهم بمنزلة من يقول : إن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو داخل في اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هذا اسم للروح دون الجسد . أو يقول : إن الصلاة ليست اسما لحركات القلب والبدن ; وإنما هي اسم لأعمال القلب فقط . وكذلك ذكر الشهرستاني - وهو من أخبر الناس بالملل والنحل والمقالات في نهاية الإقدام - أن القول بحدوث حروف القرآن قول محدث وأن مذهب سلف الأمة نفي الخلق عنها ; وهو من أعيان الطائفة القائلة بحدوثها .

                ولا يحسب اللبيب أن في العقل أو في السمع ما يخالف ذلك ; بل من تبحر في المقولات ووقف على أسرارها : علم قطعا أن ليس في العقل الصريح الذي لا يكذب قط ما يخالف مذهب السلف وأهل الحديث ; بل يخالف [ ص: 173 ] ما قد يتوهمه المنازعون لهم بظلمة قلوبهم وأهواء نفوسهم ; أو ما قد يفترونه عليهم لعدم التقوى وقلة الدين . ولو فرض - على سبيل التقدير - أن العقل الصريح الذي لا يكذب يناقض بعض الأخبار : للزوم أحد الأمرين : إما تكذيب الناقل . أو تأويل المنقول ; لكن - ولله الحمد - هذا لم يقع ; ولا ينبغي أن يقع قط فإن حفظ الله لما أنزله من الكتاب والحكمة يأبى ذلك .

                نعم يوجد مثل هذا في أحاديث وضعتها الزنادقة ليشينوا بها أهل الحديث كحديث " عرق الخيل " و " الجمل الأورق " وغير ذلك مما يعلم العلماء بالحديث أنه كذب . ومما يوضح هذا ما قد استفاض عن علماء الإسلام : مثل الشافعي والحميدي ؟ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم : من إنكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق والآثار بذلك مشهورة في كتاب ابن أبي حاتم وكتاب اللكائي ; تلميذ أبي حامد الإسفراييني وكتاب الطبراني ; وكتاب شيخ الإسلام وغيرهم ممن يطول ذكره . وليس هذا موضع التقرير بالأدلة والأسئلة والأجوبة . [ ص: 174 ] وكذلك إن كان مراد الحالف بذكر الصوت : التصديق بالآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم التي وافقت القرآن وتلقاها السلف بالقبول : مثل ما خرجا في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من { أن الله ينادي آدم بصوت } وما استشهد به البخاري في هذا الباب من { أن الله ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب } ومثل { أن الله إذا تكلم بالوحي - القرآن ; أو غيره - سمع أهل السموات صوته } وفي قول ابن عباس : سمعوا صوت الجبار . وأن الله كلم موسى بصوت . إلى غير ذلك من الآثار التي قالها : إما ذاكرا وإما آثرا : مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن أنيس وجابر بن عبد الله ومسروق أحد أعيان كبار التابعين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة وعكرمة مولى ابن عباس والزهري وابن المبارك وأحمد بن حنبل ; ومن لا يحصى كثرة .

                ولا ينقل عن أحد من علماء الإسلام قبل المائة الثانية أنه أنكر ذلك ولا قال خلافه ; بل كانت الآثار مشهورة بينهم متداولة في كل عصر ومصر ; بل أنكر ذلك شخص في وقت الإمام أحمد ; وهو أول الأزمنة التي نبغت فيها البدع بإنكار ذلك على النصوص وإلا فقبله قد نبغ من أنكر ذلك وغيره فهجر أهل الإسلام ما أنكر ذلك . وصار بين المسلمين كالجمل الأجرب . فإن أراد الحالف ما هو منقول عن السلف نقلا صحيحا فلا حنث عليه [ ص: 175 ] وأما حلفه : أن " الرحمن على العرش استوى " على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره : فلفظة " الظاهر " قد صارت مشتركة ; فإن الظاهر في الفطر السليمة واللسان العربي والدين القيم ولسان السلف غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين .

                فإن أراد الحالف بالظاهر شيئا من المعاني التي هي من خصائص المحدثين أو ما يقتضي نوع نقص : بأن يتوهم أن الاستواء مثل استواء الأجسام على الأجسام أو كاستواء الأرواح إن كانت لا تدخل عنده في اسم الأجسام : فقد حنث في ذلك وكذب ; وما أعلم أحدا يقول ذلك ; إلا ما يروى عن مثل داود الجواربي البصري ومقاتل بن سليمان الخراساني وهشام بن الحكم الرافضي ; ونحوهم ; إن صح النقل عنهم فإنه يجب القطع بأن الله ليس كمثله شيء ; لا في نفسه ولا في صفاته ولا في أفعاله وإن مباينته للمخلوقين وتنزهه عن مشاركتهم أكبر وأعظم مما يعرفه العارفون من خليقته ويصفه الواصفون . وإن كل صفة تستلزم حدوثا أو نقصا غير الحدوث فيجب نفيها عنه . ومن حكى عن أحد من أهل السنة أنه قاس صفاته بصفات خلقه : فهو إما كاذب ; أو مخطئ .

                وإن أراد الحالف بالظاهر ما هو الظاهر في فطر المسلمين قبل ظهور الأهواء وتشتت الآراء ; وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى [ ص: 176 ] كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته كالحياة ; والعلم والقدرة ; والسمع والبصر ; والكلام ; والإرادة والمحبة والغضب والرضا كقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } و { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة } إلى غير ذلك فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا أو أجساما ; لأن ذواتنا كذلك ; وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه الكريمة ; فكما أن لفظ " ذات " و " وجود " و " حقيقة " : تطلق على الله وعلى عباده وهو على ظاهره في الإطلاقين ; مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله مساويا لظاهره في حقنا . ولا مشاركا له : فيما يوجب نقصا أو حدوثا سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة ; أو مشككة كذلك قوله : { أنزله بعلمه } و { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } { لما خلقت بيدي } { الرحمن على العرش استوى } . الباب في الجميع واحد . وكان قدماء " الجهمية " ينكرون جميع الصفات لله التي هي فينا أعراض كالعلم والقدرة . أو أجسام : كاليد والوجه . وحدثاؤهم أقروا بكثير من الصفات التي هي فينا أعراض : كالعلم والقدرة . وأنكروا بعضها والصفات التي هي فينا أجسام . وفيهم من أقر ببعض الصفات التي هي فينا أجسام كاليد . [ ص: 177 ] " وأما السلفية " فعلى ما حكاه الخطابي وأبو بكر الخطيب وغيرهما قالوا : مذهب السلف إجراء أحاديث الصفات وآيات الصفات على ظاهرها . مع نفي الكيفية والتشبيه عنها ; فلا نقول : إن معنى اليد القدرة ولا إن معنى السمع العلم . وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية . فقد أخبرك الخطابي والخطيب - وهما إمامان من أصحاب الشافعي متفق على علمهما بالنقل وعلم الخطابي بالمعاني - أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها .

                والله يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحدا منهم خالف ذلك . ومن قال من المتأخرين : إن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد . فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله " الظاهر " الذي يليق بالمخلوق لا بالخالق . ولا شك أن هذا غير مراد . ومن قال : إنه مراد فهو بعد قيام الحجة عليه كافر . فهنا " بحثان " : لفظي ومعنوي . أما المعنوي : فالأقسام ثلاثة في قوله : { الرحمن على العرش استوى } ونحوه . أن يقال : استواء كاستواء [ ص: 178 ] مخلوق : أو يفسر باستواء مستلزم حدوثا أو نقصا : فهذا الذي يحكي عن الضلال المشبهة والمجسمة وهو باطل قطعا بالقرآن وبالعقل . وإما أن يقال : ما ثم استواء حقيقي أصلا ولا على العرش إله ولا فوق السموات رب : فهذا مذهب الضالة الجهمية المعطلة وهو باطل قطعا بما علم بالاضطرار من دين الإسلام لمن أمعن النظر في العلوم النبوية وبما فطر الله عليه خليقته من الإقرار بأنه فوق خلقه كإقرارهم بأنه ربهم .

                قال ابن قتيبة : ما زالت الأمم عربها وعجمها في جاهليتها وإسلامها معترفة بأن الله في السماء أي على السماء . أو يقال : بل استوى سبحانه على العرش على الوجه الذي يليق بجلاله ويناسب كبرياءه وأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه مع أنه سبحانه هو حامل للعرش ولحملة العرش وإن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة كما قالته أم سلمة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس . فهذا مذهب المسلمين . وهو الظاهر من لفظ استوى عند عامة المسلمين الباقين على الفطر السليمة التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل . هذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله وهو من أتباع التابعين حيث قال [ ص: 179 ] من زعم أن { الرحمن على العرش استوى } خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي فإن الذي أقره الله في فطر عباده وجبلهم عليه أن ربهم فوق سمواته كما { أنشد عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم فأقره النبي صلى الله عليه وسلم

                شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف
                وفوق العرش رب العالمينا

                } وقال عبد الله بن المبارك - الذي أجمعت فرق الأمة على إمامته وجلالته حتى قيل : إنه أمير المؤمنين في كل شيء . وقيل : ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك وقد أخذ عن عامة علماء وقته : مثل الثوري ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وطبقتهم - قيل له : بماذا نعرف ربنا ؟ قال : بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه . وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة - الملقب إمام الأئمة وهو ممن يعرج أصحاب الشافعي بما ينصره من مذهبه ويكاد يقال : ليس فيهم أعلم بذلك منه - : من لم يقل : إن الله فوق سمواته على عرشه باين من خلقه : وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة ; لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الملة ولا أهل الذمة وكان ماله فيئا . وقال مالك بن أنس الإمام فيما رواه عنه عبد الله بن نافع وهو مشهور [ ص: 180 ] عنه : إن الله في السماء ; وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان .

                وقال الإمام أحمد بن حنبل : مثلما قال مالك وما قاله ابن المبارك . والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر علماء الأمة بذلك متواترة عند من تتبعها ؟ وقد جمع العلماء فيها مصنفات صغارا وكبارا ; ومن تتبع الآثار علم أيضا قطعا أنه لا يمكن أن ينقل عن أحد منهم حرف واحد يناقض ذلك ; بل كلهم مجمعون على كلمة واحدة ; وعقيدة واحدة ; يصدق بعضهم بعضا ; وإن كان بعضهم أعلم من بعض ; كما أنهم متفقون على الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من هو أعلم بخصائص النبوة ومزاياها وحقوقها وموجباتها وحقيقتها وصفاتها . ثم ليس أحد منهم قال يوما من الدهر : ظاهر هذا غير مراد ; ولا قال هذه الآية أو هذا الحديث مصروف عن ظاهره ; مع أنهم قد قالوا مثل ذلك في آيات الأحكام المصروفة عن عمومها وظاهرها ; وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه تناقض . وهذا مشهور لمن تأمله . وهذه الصفات أطلقوها بسلامة وطهارة وصفاء لم يشوبوه بكدر ولا غش .

                ولو لم يكن هذا هو الظاهر عند المسلمين لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلف الأمة قالوا للأمة : الظاهر الذي تفهمونه غير مراد ولكان أحد من المسلمين استشكل هذه الآية وغيرها . [ ص: 181 ] فإن كان بعض المتأخرين قد زاغ قلبه حتى صار يظهر له من الآية معنى فاسد مما يقتضي حدوثا أو نقصا : فلا شك أن الظاهر لهذا الزايغ غير مراد . وإذا رأينا رجلا يفهم من الآية هذا الظاهر الفاسد قررنا عنده " أولا " : أن هذا المعنى ليس مفهوما من ظاهر الآية . ثم قررنا عنده " ثانيا " أنه في نفسه معنى فاسد . حتى لو فرض أنه ظاهر الآية - وإن كان هذا فرض ما لا حقيقة له - لوجب صرف الآية عن ظاهرها كسائر الظواهر التي عارضها ما أوجب أن المراد بها غير الظاهر . واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ : تارة يكون بالوضع اللغوي ; أو العرفي ; أو الشرعي ; إما في الألفاظ المفردة وإما في المركبة . وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذي تتغير به دلالته في نفسه . وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعله مجازا . وتارة بما يدل عليه حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه . وسيأتي الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ أو يبين أن المراد به هو مجازه إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور ; وإلا فقد يتخبط في هذه المواضع .

                نعم إذا لم يقترن باللفظ قط شيء من القرائن المتصلة التي تبين مراد المتكلم ; بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل : فهنا أريد به خلاف الظاهر . كالعموم المخصوص بدليل منفصل . وإن كان الصارف عقليا ظاهرا : ففي تسمية المراد خلاف الظاهر . خلاف مشهور في " أصول الفقه " . [ ص: 182 ] وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا : هذا هو الظاهر . أو ليس هو الظاهر : خلاف لفظي ; فإن كان الحالف ممن في عرف خطابه أن ظاهر هذه الآية ما هو مماثل لصفات المخلوقين : فقد حنث . وإن كان في عرف خطابه أن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى لم يحنث . وإن لم يعلم عرف أهل ناحيته في هذه اللفظة : ولم يكن سبب يستدل به على مراده وتعذر العلم بنيته : فقد جاز أن يكون أراد معنى صحيحا وجاز أن يكون أراد معنى باطلا : فلا يحنث بالشك . وهذا كله تفريع على قول من يقول : إن من حلف على شيء يعتقده . كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث .

                وأما على قول من لم يحنثه فالحكم في يمينه ظاهر . واعلم أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين . أو استواء يستلزم حدوثا أو نقصا ثم حكوا عن مخالفهم هذا القول ثم تبعوا في إقامة الأدلة على بطلانه ثم يقولون : فيتعين تأويله : إما بالاستيلاء أو بالظهور والتجلي أو بالفضل والرجحان الذي هو علو القدر والمكانة . ويبقى " المعنى الثالث " وهو : استواء يليق بجلاله يكون دلالة هذا اللفظ عليه كدلالة لفظ العلم والإرادة والسمع والبصر على معانيها : قد دل السمع عليه [ ص: 183 ] بل من أكثر النظر في آثار الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالاضطرار أنه ألقى إلى الأمة إن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء وعلى كل شيء . فوق العرش وفوق السموات .

                وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير . وأنه لا ينقل عن واحد لفظ يدل لا نصا ولا ظاهرا على خلاف ذلك . ولا قال أحد منهم يوما من الدهر إن ربنا ليس فوق العرش أو أنه ليس على العرش أو أن استواءه على العرش كاستوائه على البحر . إلى غير ذلك من ترهات الجهمية ولا مثل استواءه باستواء المخلوق ولا أثبت له صفة تستلزم حدوثا أو نقصا . والذي يبين لك خطأ من أطلق " الظاهر " على المعنى الذي يليق بالخلق : أن الألفاظ " نوعان " .

                " أحدهما " ما معناه مفرد : كلفظ الأسد والحمار والبحر والكلب . فهذه إذا قيل : " أسد الله وأسد رسوله " أو قيل للبليد : حمار . أو للعالم أو السخي أو الجواد من الخيل : بحر . أو قيل للأسد : كلب . فهذا مجاز ; [ ص: 184 ] ثم إن قرنت به قرينة تبين المراد { كقول النبي صلى الله عليه وسلم لفرس أبي طلحة : إن وجدناه لبحرا } وقوله : { إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين } { وقوله لعثمان : إن الله يقمصك قميصا } وقول ابن عباس : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وصافحه فكأنما بايع ربه . أو كما قال . ونحو ذلك . فهذا اللفظ فيه تجوز ; وإن كان قد ظهر من اللفظ مراد صاحبه . وهو محمول على هذا الظاهر في استعمال هذا المتكلم ؟ لا على الظاهر في الوضع الأول وكل من سمع هذا القول علم المراد به وسبق ذلك إلى ذهنه لاستحالة إرادة المعنى الأول وهذا يوجب أن يكون نصا ; لا محتملا . وليس حمل اللفظ على هذا المعنى من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح في شيء .

                وهذا أحد مثارات غلط الغالطين في هذا الباب حيث يتوهم أن المعنى المفهوم من هذا اللفظ مخالف للظاهر وأن اللفظ متأول . " النوع الثاني " من الألفاظ ما في معناه إضافة : إما بأن يكون المعنى إضافة محضة : كالعلو والسفول وفوق وتحت . ونحو ذلك . أو أن يكون معنى ثبوتيا فيه إضافة : كالعلم والحب والقدرة والعجز [ ص: 185 ] والسمع والبصر فهذا النوع من الألفاظ لا يمكن أن يوجد له معنى مفرد بحسب بعض موارده ; لوجهين . " أحدهما " أنه لم يستعمل مفردا قط . " الثاني " أن ذلك يلزم منه الاشتراك أو المجاز ; بل يجعل حقيقة في القدر المشترك بين موارده . وما نحن فيه من هذا الباب ; فإن لفظ استوى لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي - مثلا - على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا : كما أن لفظ " العلم " لم تستعمله العرب في خصوص العرف القائم بقلب البشر المنقسم إلى " ضروري " و " نظري " حقيقة واستعملته في غيره مجازا ; بل المعنى تارة : يستعمل بلا تعدية كما في قوله : { ولما بلغ أشده واستوى } . وتارة : يعدى بحرف الغاية كما في قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } . وتارة : يعدى بحرف الاستعلاء . ثم هذا تارة : يكون صفة لله . وتارة : يكون صفة لخلقه . فلا يجب أن يجعل في أحد الموضعين حقيقة وفي الآخر مجازا . ولا يجوز أن يفهم من استواء الله الخاصية التي تثبت للمخلوق دون الخالق ; كما في قوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد } وقوله تعالى { مما عملت أيدينا } وقوله تعالى [ ص: 186 ] { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقوله تعالى { ولقد كتبنا في الزبور } { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } فهل يستحل مسلم أن يثبت لربه خاصية الآدمي الباني الصانع الكاتب العامل ؟ أم يستحل أن ينفي عنه حقيقة العمل والبناء كما يختص به ويليق بجلاله ؟ أم يستحل أن يقول : هذه الألفاظ مصروفة عن ظاهرها ؟ أم الذي يجب أن يقول : عمل كل أحد بحسبه فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه : فعمله وصنعه وبناؤه ; ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم .

                ونحن لم نفهم من قولنا : بنى فلان . وكتب فلان : ما في عمله من المعالجة والتأثر إلا من جهة علمنا بحال الباني ; لا من جهة مجرد اللفظ الذي هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته إلى الفاعل المعين . وبهذا ينكشف لك كثير مما يشكل على كثير من الناس وترى مواقع اللبس في كثير من هذا الباب .

                والله يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل . ويجمع قلوبنا على دينه الذي ارتضاه لنفسه وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وصلى الله على محمد صاحب الحوض المورود وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .




                الخدمات العلمية