الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 187 ] وسئل رحمه الله تعالى عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن لا يدخل دار جاره ثم اضطر إلى الدخول فدخل : فهل يقع عليه طلاق بذلك أم لا ؟ وإذا لزمه الكفارة فما الدليل على لزومها ؟

                [ ص: 208 ]

                التالي السابق


                فأجاب - رضي الله عنه - فقال : الحمد لله . إذا حلف بالطلاق أو العتاق يمينا تقتضي حضا أو منعا كقوله : الطلاق أو العتق يلزمه ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا . أو قوله : إن فعلت كذا فامرأتي طالق . أو فعبدي حر . ونحو ذلك : فللعلماء فيها ثلاثة أقوال . " أحدها " أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق . وهذا قول بعض التابعين وهو المشهور عند أكثر الفقهاء . " والثاني " لا يقع به شيء ولا كفارة عليه . وهذا مأثور عن بعض السلف وهو مذهب داود وابن حزم . وغيرهما من المتأخرين ; ولهذا كان سفيان بن عيينة شيخ الشافعي وأحمد لا يفتي بالوقوع ; فإنه روى [ ص: 188 ] عن طاوس عن أبيه : أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئا .

                فقيل له : أكان يراه يمينا قال : لا أدري . فجزم بأنه لم يكن يوقع الطلاق وشك هل كان يجعله يمينا فيها كفارة ؟ " والقول الثالث " أنه يجزئه كفارة يمين وهذا مأثور عن طائفة من الصحابة وغيرهم في العتق كما نقل ذلك عن عمر وحفصة بنت عمر وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم أفتوا من قال لفلان : إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فمالي صدقة وأرقائي أحرار . فقالوا : كفر عن يمينك ودع الرجل مع امرأته : يا هاروت وماروت وهذا قول أبي ثور وغيره من الفقهاء في العتق وكذلك رواه حماد بن سلمة في " جامعه " عن حبيب بن الشهيد . أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال : كل مملوك له حر إن دخل على أخيه . فقال : يكفر عن يمينه .

                وروي ذلك عن أبي هريرة وأم سلمة قال أبو بكر الأثرم في مسنده ثنا عارم بن الفضل ثنا معتمر بن سليمان قال قال أبي : ثنا بكر بن عبد الله أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتي ليلى بنت العجماء ; كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك . قال : فأتيت زينب بنت أم سلمة - وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال : فأتيتها فجاءت - يعني إليها - [ ص: 189 ] فقالت : في البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلني الله فداك : إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية .

                فقالت : يهودية ونصرانية خلي بين الرجل وبين امرأته يعني وكفري يمينك . فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها ; فقالت : يا أم المؤمنين جعلني الله فداك : إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال هدي وهي يهودية وهي نصرانية . فقالت يهودية ونصرانية خلي بين الرجل وبين امرأتك . يعني وكفري عن يمينك . فأتت عبد الله بن عمر فجاء يعني إليها ; فقام على الباب فسلم ; فقالت ( سا أنت وسا أبوك ; فقال : أمن حجارة أنت أم من حديد أنت ؟ . من أي شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك حفصة أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما فقالت : يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك : إنها قالت : كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية . فقال : يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته . وهذا الأثر معروف ; قد رواه حميد أيضا وغيره عن بكر بن عبد الله المزني .

                ورواه أحمد وغيره وذكروا أن الثلاثة أفتوها بكفارة يمين لكن سليمان التيمي ذكر في روايته : كل مملوك لها حر ; ولم يذكر هذه الزيادة حميد وغيره . وبهذا أجاب أحمد لما فرق بين الحلف بالعتق والحلف بغيره . [ ص: 190 ] وعارض ذلك أثر آخر ذكره عن ابن عمر وابن عباس فقال المروذي : قال أبو عبد الله : إذا قال كل مملوك له حر : فيعتق عليه إذا حنث ; لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة . وقال : ليس قول : كل مملوك لها حر . في حديث ليلى بنت العجماء . وحديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة . وزينب وذكرت العتق فأفتوها بكفارة اليمين وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق .

                قال : وسألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها المشي ؟ قال : نعم . أذهب إلى أن فيها كفارة يمين قال أبو عبد الله ليست تقول فيه كل مملوك إلا قلت . فإذا حلف بعتق مملوكه يحنث ؟ قال : يعتق كذا يروى عن عمر وابن عباس أنهما قالا للجارية تعتق ثم قال : ما سمعنا إلا من عبد الرزاق عن معمر . وقلت : فإيش إسناده ؟ قال : معمر ; عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس .

                وقال : إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى : مكيان . وقال أبو طالب قال أبو عبد الله : من حلف بالمشي إلى بيت الله وهو يحرم بحجة وهو يهدي وماله في المساكين صدقة وكل يمين يكفر عندها عقد يمين يحلف على شيء فإنما هي كفارة يمين على حديث بكر عن أبي رافع في قصة حفصة . حلفت لتفرقن بينها وبين زوجها فقالت : يا هاروت وماروت كفري عن يمينك واعتقي جاريتك فجعل ذلك كله كفارة يمين عن العتق : فهذا أفضل ; وذلك أن العتق ليس فيه كفارة ولا استثناء .



                والاستثناء [ ص: 191 ] دائما يكون في اليمين التي تكفر فأوجب العتق ; وجعل في غيره كفارة . قلت : فهذا الذي ذكره الإمام أحمد - رضي الله عنه - في أجوبته ; ولكن المنصوص عنه في غير موضع يقتضي أنه يجزئه كفارة يمين ; فإنه قد نص في غير موضع : أن الاستثناء لا يكون [ إلا ] في اليمين المكفرة ونص على أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق فإن مذهبه أنه لا ينفعه الاستثناء ; فإن له أن يستثني : بخلاف ما إذا أوقع الطلاق والعتاق قولا واحدا كما نقل ذلك عن ابن عباس وهو مذهب مالك وغيره . وقد نقل عن أحمد " الشيخ أبو حامد الإسفراييني " ومن اتبعه : الفرق في الاستثناء بين الطلاق والعتاق وذلك غلط على أحمد ; إنما هذا قول القدرية ; فإنهم يقولون إن المشيئة بمعنى الأمر والعتق طاعة ; بخلاف الطلاق . فإذا قال : عبده حر إن شاء الله وقع العتق . وإذا قال : امرأته طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق .

                ورووا في ذلك حديثا مسندا من رواية أهل الشام عن معاذ وهو مما وضعته القدرية الذين كانوا بالشام . وسبب الغلط في ذلك : أن أحمد قال فيمن قال : إن ملكت فلانا فهو حر إن شاء الله فملكه عتق . وقال فيمن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاء الله [ ص: 192 ] فتزوجها لم تطلق . ففرق بين التعليقين ; لأن من أصله أن العتق معلق بالملك لأنه من باب القرب كالنذر فيصح تعليقه على الملك كما في قوله تعالى { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } والعتق يصح أن يكون مقصودا بالملك ; ولهذا يصح بيع العبد بشرط عتقه بخلاف الطلاق فإنه ليس هو المقصود بالنكاح . فلو قيل : إنه يقع عليه لم يكن للنكاح فائدة والعقود التي لا يحصل بها مقصودها باطلة . فلما فرق أحمد في هذه المسألة بين الطلاق والعتق اعتقد من نقل عنه أن الفرق لأجل الاستثناء بالمشيئة وذلك غلط عليه .

                والمقصود هنا أنه يتنوع الاستثناء في الحلف بالطلاق والعتاق فإذا قال : إن فعلت كذا فعبدي حر ; أو فامرأتي طالق إن شاء الله نفعه الاستثناء في أصح الروايتين عنه وإذا قال : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله . فقال طائفة من أصحابه : كأبي محمد وأبي البركات - هنا ينفعه الاستثناء قولا واحدا . وقيل : بل الروايتان في صيغة القسم وفي صيغة التعليق ; وهذا أشبه بكلام أحمد ; وهو مذهب مالك وأصحابه ; فإن لهم في النوعين قولين فإذا كان أحمد في أصح الروايتين عنه يجوز الاستثناء في الحلف بالعتق سواء كان بصيغة الجزاء أو بصيغة القسم مع قوله : إن الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفرة - لزم من ذلك أن تكون هذه من الأيمان المكفرة .

                قال في رواية [ ص: 193 ] أبي طالب - وقد سئل عن الاستثناء فقال : الاستثناء فيما يكفر قال الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فكل يمين فيها كفارة ; غير الطلاق والعتاق . وأما كون سليمان التيمي هو الذي ذكر : كل مملوك له حر . فسليمان التيمي ثقة ثبت ; وهو أجل من الذين لم يذكروا الزيادة ; وسببه - والله أعلم - أن يكون الذين لم يذكروا العتق هابوه ; لما فيه من النزاع . يبين ذلك : أن من الناس من لم يذكر العتق في ذلك عن التيمي أيضا مع أن التيمي كان يذكر العتق بلا نزاع . قال الميموني : قال أحمد وابن أبي عدي : لم يذكروا في حديث أبي رافع عتق .

                قلت : ومحمد بن أبي عدي هو أجل من روى عن التيمي فعلم أن من الرواة من كان يترك هذه الزيادة مع أنها ثابتة في الحديث ; ولهذا لما ثبتت عند أبي ثور أخذ بها . وأما الرواية الأخرى عن ابن عباس وابن عمر فقد قال أحمد ما سمعناه إلا من عبد الرزاق وعن معمر . وعثمان بن حاضر قد قيل : إنه سمع من ابن عباس وقال أبو زرعة : هو يماني حميري ثقة وقد روى له أبو داود وابن ماجه . والأثر الأول أثبت ; ورجاله ورواته من أهل العلم والفقهاء الذين يعلمون ما يروون ; وهذا الأثر فيه تمويه ; ولم يضبط لنا لفظه . وقد بسط [ ص: 194 ] الكلام على تضعيفه في موضع آخر ; فإن صح كان في ذلك نزاع عن الصحابة وقد ذكر البخاري عن ابن عمر أثرا في الطلاق يحتمل أن يكون من هذا الباب ويحتمل ألا يكون منه .

                " وبالجملة " فالنزاع في هذه المسألة ثابت بين السلف : كعطاء والحسن البصري وغيرهما وقد ذكر أبو محمد المقدسي في شرح قول الخرقي : " ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك : من عبيده وإمائه ومكاتبيه ومدبريه وأمهات أولاده وشقص يملكه من مملوك " . فقال : معناه إذا قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر وعتيق . أو : فكل ما أملك حر ; فإن هذا إذا حنث عتق مماليكه ولم يغن عنه كفارة وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ; وبه قال ابن أبي ليلى ; والثوري ; ومالك والأوزاعي ; والليث ; والشافعي ; وإسحاق قال : وروي عن ابن عمر ; وأبي هريرة ; وعائشة وأم سلمة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة والحسن وأبي ثور : يجزئه كفارة يمين ; لأنها يمين فتدخل في عموم قوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين } وذكر حديث أبي رافع المتقدم قال : ولنا أنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فينتفع بوجود شرطه كالطلاق والآية مخصوصة بالطلاق والعتق في معناه ; ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة ; إنما هو تعليق بشرط فأشبه الطلاق .

                قال : فأما حديث أبي رافع فإن أحمد [ ص: 195 ] قال فيه : كفر عن يمينك . واعتق جاريتك ; وهذه زيادة يجب قبولها ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها . قلت : القياس المذكور عندهم منتقض بكل ما يعلقه بالشرط : من صدقة المال والمشي إلى مكة والهدي وقوله : إن فعلت كذا فعلي أن أعتق أو أطلق وقوله : إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارا بمعناه . والأصل الذي مشى عليه ممنوع ; فإن الطلاق فيه نزاع ; بل إذا لم يوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى ألا يوقعوا الطلاق . وأبو ثور لم يسلم الطلاق ; لكن قال : إن كان فيه إجماع فالإجماع أولى ما اتبع ; وإلا فالقياس أنه كالعتاق - وقد علم أنه ليس فيه إجماع . وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع وأنهم قالوا : اعتقي جاريتك . فهذا غلط فإن هذا الحديث لم يذكر فيه أحد أنهم قالوا : اعتقي جاريتك وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين : فلم يذكروا ذلك .

                وكلام أحمد في عامة أجوبته يبين أنه لم يذكر أحمد عنهم ذلك ; وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي . وأبو محمد نقل ذلك من " جامع الخلال " والخلال ذكر ذلك في ضمن مسألة أبي طالب [ ص: 196 ] كما قد بيناه . وذلك غلط على أحمد . وأبو طالب له أحيانا غلطات في فهم ما يرويه : هذا منها . وأما ما نقله عن أحمد من أن الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفرة : فهذا نقله عن أحمد غير واحد مع أن أبا طالب ثقة والغالب على روايته الصحة ; ولكن ربما غلط في اللفظ . فأما نقله : أن الاستثناء فيما يكفر فلم يغلط فيه ; بل نقله كما نقله غيره . قال هارون بن عبد الله : قيل لأبي عبد الله : أليس قد كان ابن عباس يرى الاستثناء بعد حين ؟ قال : إنما هذا في القول ; ليس في اليمين ; كان يذهب إلى قول الله عز وجل : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } قال أبو عبد الله : إنما هذا في القول ; ليس في اليمين وإنما يكون الاستثناء جائزا فيما تكون فيه الكفارة إذا حلف بالطلاق والعتاق لا يكفر .

                فقد نص على أن الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفرة فإذا كان قد نص مع ذلك على جواز الاستثناء فيما إذا حلف بالطلاق والعتاق لزمه إجراء الكفارة في ذلك وهذا الذي قاله هو مقتضى الكتاب والسنة فإن الله تعالى قال : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } إلى قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } فجعل هذه الكفارة في عقد اليمين مطلقا وجعل ذلك كفارة اليمين إذا حلفنا [ ص: 197 ] وقد قال صلى الله عليه وسلم { من حلف فقال : إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك } فما دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم دخل في قول الله تعالى . والطلاق والعتاق المنجزان لا يدخلان في مسمى اليمين والحلف باتفاق العلماء ; بخلاف الحلف على الحض والمنع والتصديق والتكذيب فإنه يمين باتفاق الأئمة .



                وأما التعليق المحض كقوله : إن طلعت الشمس فأنت طالق . ففيه قولان مشهوران لهم ومذهب الشافعي وأصحاب أحمد في أحد الوجهين ليس بيمين كاختيار القاضي أبي يعلى . ومذهب أبي حنيفة وأصحاب أحمد في الوجه الآخر : هو يمين كاختيار أبي الخطاب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه } وهذا عام يقتضي أن كل يمين فيها هذا فما لا يمكن فيه هذا فليس بيمين . " والمقصود " هنا ذكر تحرير المنقول عن السلف والأئمة في هذه المسألة .

                وسيأتي ذكر الدلائل إن شاء الله تعالى وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال : لا طلاق إلا عن وطر ولا عتق إلا ما ابتغي به وجه [ ص: 198 ] الله . ومعلوم أن الحالف بالطلاق والعتاق ليس له غرض بالطلاق ولا هو متقرب بالعتق ; بل هو حالف بهما ; وأما الطلاق فقد قيل : إن فيه كفارة . وقيل : لا كفارة فيه . وهذا الثاني قول داود وأصحابه . والشيعة يقولون : لا يقع به الطلاق ولا يلزمه كفارة . وهو قول ضعيف وإن كان القول بلزوم الطلاق وعدم التكفير ضعيفا أيضا وهو أضعف منه . والقول بلزوم الكفارة هو المأثور عن طاووس وغيره ; وهو مقتضى أقوال الصحابة وبه أفتى جماعة من المفتين المالكية وغيرهم ولا ريب أن الطلاق أولى ألا يقع من العتق فإذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع العتق فالطلاق أولى ; ولكن أبا ثور لم يبلغه في الطلاق شيء فقال ; القياس يقتضي أن الطلاق لا يقع أيضا ; إلا أن يكون فيه إجماع فهو أولى أن يتبع .



                وأما إذا قال : إذا فعلت كذا فعلي أن أعتق عبدي أو أطلق امرأتي ومالي صدقة وعلي الحج أو فعلي صوم كذا ونحو ذلك فهنا يجزئه كفارة يمين في مذهب أحمد والشافعي وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهي رواية محمد . ويقال : إن أبا حنيفة رجع إليها وقول طائفة من أصحاب مالك وهو المأثور عن عامة الصحابة والتابعين ويسميه الفقهاء " نذر اللجاج والغضب " . هذا إذا كان المنذور قربة : كان العتق ونحوه فإن لم يكن قربة كالطلاق فلا شيء فيه عند أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية ; لكن المشهور عنه : أن عليه كفارة يمين .

                [ ص: 199 ] " فنذر التبرر " مثل أن يكون مقصود الناذر حصول الشرط ويلتزم فعل الجزاء شكرا لله تعالى ; كقوله : إن شفى الله مريضي فعلي أن أصوم كذا أو أتصدق بكذا أو نحو ذلك : فهذا النذر عليه أن يوفي به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه } رواه البخاري . وأما " نذر اللجاج والغضب " فقصد الناذر أن لا يكون الشرط ولا الجزاء : مثل أن يقال له : سافر مع فلان . فيقول : إن سافرت فعلي صوم كذا وكذا أو علي الحج . فمقصوده أن لا يفعل الشرط ولا الجزاء وكما لو قال : هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا . أو إن فعل كذا فهو كافر ونحو ذلك ; فإن الأئمة متفقون على أنه إذا وجد الشرط فلا يكفر بل عليه كفارة يمين عند أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه .

                وعند مالك والشافعي لا شيء عليه ; بخلاف ما إذا قال : إن أعطيتموني الدراهم كفرت فإنه يكفر بذلك ; بل ينجز كفره ; لأنه قصد حصول الكفر عند وجود الشرط . فطائفة من الفقهاء نظروا إلى لفظ الناذر فقالوا : قد علق الحكم بشرط فيجب وجوده عند وجود الشرط ; ولم يفرقوا بين " نذر اللجاج " و " نذر التبرر " . وأما الصحابة وجمهور السلف والمحققون فقالوا : الاعتبار بمعنى اللفظ . والمشترط هنا قصده وجود الشرط والجزاء ; وهناك قصده أن لا يكون [ ص: 200 ] هذا ولا هذا ; ولهذا يحلف بصيغة الشرط تارة . وبصيغة القسم أخرى . مثل أن يقول : علي الحج لأفعلن كذا أو لا فعلت كذا أو علي العتق إن فعلت كذا أو لا فعلت كذا . وهذا حجة من أمره بكفارة في العتق وكذا في الطلاق ; فإنه إذا قيل له : سافر . فقال : عليه العتق أو الطلاق لا يفعل كذا أو إن فعل كذا فعبده حر أو امرأته طالق : فقصده أن لا يكون الشرط ولا الجزاء : فهو حالف بذلك ; لا موقع له . قالوا : وهذا الحالف التزم وقوع الطلاق فهو كما لو التزم إيقاعه بأن يقول : إن فعلت كذا فعلي أن أعتق أو أطلق . ولو قال هذا لم يلزمه أن يطلق باتفاق الأئمة ; لكن في وجوب الإعتاق قولان .

                فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لا يقع به طلاق ولا عتاق ; لكن الشافعي يلزمه الكفارة إذا لم يعتق ولا يلزمه الكفارة إذا لم يطلق . في المشهور من مذهبه . وهو إحدى الروايتين عن أحمد . وأحمد يلزمه الكفارة فيهما على ظاهر مذهبه وهو وجه لأصحاب الشافعي ; لأن المنذور إذا لم يكن قربة لم يكن عليه فعله بالاتفاق ومذهب الشافعي وغيره المشهور : لا كفارة عليه إذا لم يفعله . ومذهب أحمد المشهور : عليه كفارة يمين . قال هؤلاء : التزامه الوقوع كالتزامه الكفر ; ولو التزمه لم يكفر بالاتفاق ; بل عليه كفارة يمين في إحدى القولين كما تقدم . [ ص: 201 ] قال الموقعون للطلاق والعتاق : الفرق بينهما أنه هنا التزم حكما شرعيا وهو الوقوع وهناك التزم فعلا من أفعاله وهو الإيقاع كقوله : فعلي الحج أو علي الصوم أو علي الصدقة وهو في الفعل مخير بين أن يفعله وبين أن يتركه ويكفر ; بخلاف الحكم فإنه إلى الله تعالى . قالوا : وقد ثبت أن الخلع جائز بنص القرآن والسنة فإذا قال لامرأته : إن أعطيتني كذا فأنت طالق . فأعطته إياه وقع الطلاق .

                فيقاس عليه سائر الشروط إذا علق بها الطلاق وقع وكذلك ثبت جواز الكتابة بالكتاب والسنة وفي معناها ما إذا قال لعبده : إن أعطيتني ألفا فأنت حر ; وكذلك تعليق العتق بسائر الشروط . فهذا منتهى ما يحتج به هؤلاء . وأما أولئك فيقولون . قولكم إن اللازم بها حكم شرعي وهناك فعل غلط ; بل اللازم المعلق بالشرط في كلا الموضعين حكم شرعي ; لكن في إحداهما وقوع وفي الآخرة وجوب . فقوله : إن فعلت كذا فعلي الحج . إنما يكون فيه وجوب الحج ; لا نفس فعله . ثم يقال : لا فرق بين أن يكون الجزاء حكما شرعيا أو أن يكون ملازما له . كالسبب والمسبب اللازم له ; فإنه لو قال : هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا . فقد التزم حكما وذلك لا يلزمه عند وقوع الشرط بلا نزاع . وأيضا فلو قال : إن فعلت كذا فعلي الصوم ; أو فعلي الحج . فالجزاء وجوب الصوم والحج . ثم إذا وجب عليه فعله بحكم الوجوب فالوجوب [ ص: 202 ] هو التعليق بالشرط ; ليس المعلق بالشرط نفس فعله ; إذ لو كان المعلق نفس فعله لوجد عند وجود الشرط اللغوي ولكن المعلق وجوب الإعتاق والحج ونحو ذلك ثم هو مخير بين التزام هذا الوجوب ; وبين التكفير . وفيما إذا قال : إن فعلت كذا فعبدي حر .

                فالجزاء نفس الحرية ومقتضاها تحريم استعباده وكذلك وقوع الطلاق موجبه تحريم استمتاعه . فالتحريم هنا موجب الجزاء ; لا نفس الجزاء . وهذا من باب خطاب الوضع والإخبار ; وذلك من خطاب التكليف . وكذا قوله : إن فعلت كذا فمالي صدقة ; فإنه التزم أن يصير المال صدقة . فهذا حكم شرعي ; لا فعل ; لكن إذا صار صدقة لزمه أن يخرجه . ولو قال : فعبدي حر التزم أن يصير حرا فلو قال . فعلي أن أعتق هذا فالملتزم وجوب العتق . ثم إذا وجب كان عليه فعله . ومع هذا فله رفع الوجوب ; وإذا قال : فهو حر فإنه التزم نفس الحرية وهو إذا صار حرا كان عليه إرساله كما أن المرأة إذا صارت طالقة ثلاثا كان عليه إرسالها وأن لا يخلو بها ولا يطأها . فالناذر في هذه الصورة التزم الحكم والفعل يتبعه . ثم إذا فعل ما أوجبه فهو الإيقاع للطلاق والعتق : حصل الوقوع . فموجب التعليق وجوب يتبعه إيقاع ووقوع . ثم إذا قصد بهذا التعليق اليمين صار يمينا ; ولم يلزمه الوجوب ولا الإيقاع ولا الوقوع . فإذا كان قصد اليمين منع الثلاثة فلأن يمنع واحد منها وهو الوقوع بطريق الأولى .

                [ ص: 203 ] قالوا : ولأن المظاهر والمحرم إذا قال : أنت علي كظهر أمي وأنت علي حرام . إنما التزم حكما شرعيا ; لم يلتزم فعلا . ومع هذا فدخلت في ذلك الكفارة . قالوا : فكما أنه يخير فيما إذا كان الملتزم وجوب العتق بين أن يلتزمه أو يكفر فكذلك إذا التزم وقوعه يخير بين أن يلتزم وقوعه فيعتقه ويرسل العبد فيكون إعتاقه إرساله إمضاء للمنذور ; وبين أن لا يعتقه ولا يرسله فلا يكفر إمضاء له ; بل يكون عليه كفارة كما إذا قال : إن فعلت كذا فهذا المال صدقة أو هذا البعير هدي وحنث . فهو مخير بين أن يتصدق بالمال ويرسل البعير هديا ; فيكون قد التزم موجب كونه صدقة وهديا ; وبين أن يكفر ويمسك المال والهدي فلا يرسله . وأما إذا التزم محرما ; مثل أن يقول : إن فعلت كذا فعلي إهانة المصحف ; ونحو ذلك . فهنا ليس له ذلك باتفاق العلماء وفي وجوب الكفارة النزاع المتقدم ; وكذلك إذا التزم حكما لا يجوز التزامه مثل قوله : إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني . فهذا لا يجوز له التزام الكفر بوجه من الوجوه ولو قصد ذلك لكان كافرا بالقصد .

                والمقصود : أنه لا فرق لا في الشرع ولا في العرف بين أن يلتزم الحكم الموجب عليه فعلا يقتضي ذلك الفعل حكما آخر يقتضي وجوب فعل أو تحريمه وبين أن يلتزم الحكم المقتضي لوجوب ذلك الفعل أو تحريمه . فالتزام وجوب الفعل الذي يقتضي ذلك الحكم كما إذا قال : فعلي أن أطلق أو أعتق . فإنه [ ص: 204 ] التزم وجوب الطلاق والإعتاق والتطليق وذلك فعل منه يوجب حكما وهو وقوع الطلاق والعتاق . ومعلوم أن التزامه لوجوب الفعل المقتضي للحكم الثاني الذي هو الوقوع أقوى من التزامه الوقوع ; فإنه هناك التزم حكمين وفعلين وهو هنا التزم أحد الحكمين وأحد الفعلين فالذي التزمه في موارد النزاع في بعض ما التزمه في مواقع الإجماع . فإذا كان له أن لا يلتزم هذا فذاك بطريق الأولى . فهو في مواقع الإجماع إذا قصد بالتعليق اليمين فهو مخير بين أن يحنث ويكفر يمينه وبين أن يوفي بما التزمه فيوقع العتق والطلاق والصدقة فكذلك الذي التزمه في مواقع النزاع بطريق الأولى .

                والحنث في هذه اليمين يكون بأن يوجد الشرط ولا يوجد الجزاء فلا يحنث إلا بهذين الشرطين . فإذا قال : إذا فعلت كذا فعلي الحج أو العتق أو الطلاق : لم يحنث إلا إذا فعله ولم يوجد الجزاء المعلق به فإن أوقع الجزاء المعلق به لم يحنث ; كما أنه لو لم يوجد الشرط لم يحنث ولو قدر أنه التزم فعلا كقوله : إن فعلت كذا عتق عبدي أو طلقت امرأتي . فإنه لا فرق بين ذلك وبين أن يقول : فعلي عتق عبدي أو طلاق امرأتي . فالتزام أحد الأمرين متضمن لالتزام الآخر ; فإن الوجوب يقتضي أن عليه فعل الواجب والتحريم يقتضي أن له فعل المحرم . والإيجاب مستلزم للوجوب ; والتحريم مستلزم للحرمة . والوجوب يقتضي الفعل والإيقاع مستلزم الوقوع مقتض للحرمة والحرمة مقتضية للترك . فلا فرق بين أن يلتزم الإيجاب [ ص: 205 ] والوجوب والفعل أو التحريم أو الحرمة أو الإيقاع أو الوقوع أو الحرمة التي هي موجب ذلك .

                قال هؤلاء : وأما حجة من احتج بالخلع والكتابة وتعليق ذلك بعوض فجوابه عند أهل الظاهر - ابن حزم ونحوه - أنهم يقولون : لا يقع شيء من العتاق والطلاق والمعلق بالشرط ; بناء على أن هذا لم يرد به نص وما لم يرد نص بإباحته في العقود والشروط فهو عندهم باطل . ولا يكتفون في ذلك بالأدلة العامة الدالة على وجوب الوفاء بالشروط والعهد وتحريم الغدر ونحو ذلك ; لاعتقادهم أن هذه النصوص منسوخة . وهذا القول ضعيف كما هو مبسوط في غير هذا الموضع . واسم الطلاق والعتاق في القرآن يتناول المنجز والمعلق بالشرط إذا كان المقصود وقوعه عند الشرط ; فإن كلاهما داخل في مسمى التطليق ; بخلاف ما يكره وقوعه عند الشرط فإنه يمين داخل في مسمى التطليق .

                وعلى هذا فالجواب على قول الأئمة والجمهور مبني على الفرق بين الشرط المقصود وجوده والشرط المقصود عدمه وعدم الجزاء الذي علق به وهو الذي يراد به الحلف ولا يراد به وقوع الجزاء عند الشرط . والفرق بين هذين هو مذهب الصحابة ; لا يعرف عنهم فيه خلاف وهو مذهب جماهير السلف [ ص: 206 ] والفقهاء وهو مذهب الشافعي وأحمد وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة وهو قول في مذهب مالك . فيقال : إنه هنا قصد الشرط والجزاء كما قصد ذاك نذر التبرر . فكما أنه فرق في النذور المعلقة بالشروط بين ما يقصد فيه ثبوتها وبين ما يقصد فيه نفيها ; كذلك هذا . فإن هذا جميعه من باب واحد وهي أحكام معلقة بشروط وإذا كان الشرع أو العقل والعرف تفرق في الأحكام المعلقة بالشروط اللغوية بين ما يقصد ثبوته وبين ما يقصد انتفاءه - كما اتفق على ذلك الصحابة وجمهور الفقهاء - لم يجز تسوية أحدهما بالآخر . وإنما يحسن الاحتجاج بالخلع والكتابة كل من يمنع تعليق الطلاق بالشروط جملة كما هو مذهب ابن حزم والإمامية أو بعضهم ; فإن هؤلاء يقولون : إن الطلاق المعلق بشرط لا يقع بحال ; بناء على أنه لا يقع عندهم من الطلاق إلا ما ثبت أن الشارع أذن فيه .

                قالوا : ولم يثبت أنه أذن في هذا فهم لا يقولون بالقياس وجعلوا ما نقل عن الصحابة والتابعين في الحلف بالطلاق والعتاق حجة لهم ; وليس بحجة لهم ; فإن المنقول عن طاوس أنه لا يرى الحلف بالطلاق شيئا وهذا لا يقضي أنه لا يرى تعليقه بالشروط بحال بل قد يفرق بين الشرط المقصود ثبوته والمقصود عدمه كما أن هذا هو قول طاووس وعطاء وغيرهما في مسألة " نذر اللجاج والغضب " [ ص: 207 ] ولهذا لما دخل الشافعي مصر سأله سائل عن هذه المسألة إذا قال : إن فعلت كذا فعلي الحج أو فعلي الصوم . فأفتاه الشافعي بكفارة يمين وكان الغالب على أهل مصر قول مالك : إن عليه الحج والصوم . ومع هذا فلما حنث ابن عبد الرحمن القاسم في هذه اليمين أفتاه عبد الرحمن القاسم - الذي هو العمدة في مذهب مالك - بكفارة يمين . وقال : أفتيتك بقول الليث بن سعد وإن عدت أفتيتك بقول مالك .

                والمحققون من متأخري أصحاب مالك يرجحون الإفتاء بكفارة يمين وهو الذي رجع إليه أبو حنيفة آخرا . وأما جمهور السلف من الصحابة والتابعين فإنهم يقولون يجزئه كفارة يمين كما هو مذهب الشافعي وأحمد . والمشهور عندهما أنه يخير بين التكفير وبين فعل الملتزم . وعن أحمد رواية : أن عليه الكفارة عينا ويذكر قولا في مذهب الشافعي . كذلك جماعة من المفتين أصحاب مالك يفتون في الحلف بالطلاق بكفارة يمين ويحتجون بما رووه عن عائشة أنها قالت : كل يمين وإن عظمت فكفارتها كفارة اليمين بالله . وهذا قول طاوس ومن وافقه من السلف وهو معنى قول الصحابة . وهذه المسائل مسائل جليلة تحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه . والله أعلم .



                [ ص: 208 ] فصل والإفتاء بهذا الأصل لا يحتاج إليه في الغالب ; بل غالب مسائل الأيمان بالطلاق والعتاق واليمين بالله تعالى والنذر والحرام ونحو ذلك يحتاج فيه إلى قواعد . " القاعدة الأولى " إذا حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا ليمينه أو جاهلا بأنه المحلوف عليه . فللعلماء فيه ثلاثة أقوال . " أحدها " لا يحنث بحال في جميع الأيمان وهذا مذهب المكيين : كعطاء وابن أبي نجيح وعمرو بن دينار وغيرهم ومذهب إسحاق بن راهويه وهو أحد قولي الشافعي بل أظهرهما وهو إحدى الروايتين عن أحمد . ونظرت جوابه في هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه في الرواية الثانية التي اختارها الخلال صاحبه والخرقي والقاضي وغيرهم من أصحابه . وهو الفرق بين اليمين المكفرة كاليمين بالله تعالى والظهار والحرام واليمين التي لا تكفر - على منصوصه - وهي اليمين بالطلاق والعتاق . و " القول الثالث " أنه يحنث في جميع الأيمان وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الثالثة عنه .

                [ ص: 209 ] والقول الأول أصح ; لأن الحض والمنع في اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي ; فإن الحالف على نفسه أو عبده أو قرابته أو صديقه الذي يعتقد أنه يطيعه هو طالب لما حلف على فعله مانع لما حلف على تركه وقد وكد طلبه ومنعه باليمين فهو بمنزلة الأمر والنهي المؤكد . وقد استقر بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل المنهي عنه ناسيا أو مخطئا فلا إثم عليه ولا يكون عاصيا مخالفا : فكذلك من فعل المحلوف ناسيا أو مخطئا فإنه لا يكون حانثا مخالفا ليمينه . ويدخل في ذلك من فعله متأولا أو مقلدا لمن أفتاه أو مقلدا لعالم ميت أو مجتهدا مصيبا أو مخطئا . فحيث لم يتعمد المخالفة ; ولكن اعتقد أن هذا الذي فعله ليس فيه مخالفة لليمين فإنه لا يكون حانثا .

                ويدخل في هذا إذا خالع وفعل المحلوف عليه معتقدا أن الفعل بعد الخلع لم تتناوله يمينه فهذه الصورة تدخل في يمين الجاهل المتأول عند من يقول : إن هذا الخلع خلع الأيمان باطل وهو أصح أقوال العلماء وأما من جعله صحيحا فذلك يقول : إنه فعل المحلوف عليه في زمن البينونة والمرأة لو فعلت المحلوف عليه بعد البينونة وانقضاء العدة لم يحنث الرجل بالاتفاق وكذلك إذا فعلته في عدة الطلاق البائن عند الجمهور : كمالك والشافعي وأحمد الذين يقولون : إن المختلعة لا يلحقها طلاق . وأما أبو حنيفة فإنه يقول : يلحقها الطلاق ; فيحنث عنده إذا وجدت الصفة في زمن البينونة ولو كان الرجل عاميا فقيل له : خالع امرأتك وافعل المحلوف عليه ولم يعرف معنى الخلع فطن أنه طلاق مجرد [ ص: 210 ] فطلقها ثم فعل المحلوف عليه يظن أنه لا يحنث بذلك : لم يقع به الطلاق عند من لا يحنث الجاهل المتأول وكذلك لو قيل له : زلها بطلقة . فأزالها بطلقة ثم فعل المحلوف عليه : لم يقع عليه بالفعل طلقة ثانية وإن كانت الطلقة الأولى رجعية ; لكن في صورة النسيان والخطأ والجهل لا يحنث وتبقى اليمين معقودة عند جماهير العلماء ; وليس فيه نزاع إلا وجه ضعيف لبعض المتأخرين .



                " القاعدة الثانية " إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه . فهذا أولى بعدم التحنيث من مسألة فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا ; ولهذا فرق أبو حنيفة ومالك وغيرهما بين هذه الصورة وصورة الناسي والجاهل فقالوا هنا لا يحنث في اليمين بالله تعالى وهناك يحنث . قالوا : لأنه هنا كانت اليمين على الماضي فلم تنعقد ; لأن الحالف على ماض إن كان عالما فهو : إما صادق بار . وإما أن يكون متعمدا للكذب فتكون يمينه اليمين الغموس . وإما أن يكون مخطئا معتقدا أن الأمر كما حلف عليه : فهذا لا إثم عليه في ذلك ولا يكون على فاعله إثم الكذاب . وهذا هو لغو اليمين عند هؤلاء ومثل هذا يجوز على الأنبياء وغيرهم كما يجوز عليهم النسيان كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين : لم أنس ولم تقصر وكان صلى الله عليه وسلم قد نسي فقال له ذو اليدين : بلى قد نسيت . فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم } وفي الحديث الصحيح { أنه لما صلى بهم خمسا فقالوا له بعد الصلاة : أزيد في الصلاة ؟ فقال : وما ذاك ؟ قالوا صليت خمسا . قال : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني } .



                [ ص: 211 ] قالوا : وأما اليمين على المستقبل فإنها منعقدة والخطأ والنسيان واقع في الفعل لا في العقد فلهذا فرق بين الماضي والمستقبل في اليمين بالله . وأما في الطلاق فقالوا أيضا في الماضي والمستقبل كإحدى الروايات عن أحمد في المستقبل . وأما مذهب الشافعي وأحمد فعلى قولهما لا يحنث الجاهل والناسي في المستقبل فكذلك لا يحنث المخطئ حين عقد اليمين الذي حلف على شيء يعتقد أنه كما حلف عليه فتبين بخلافه . وأما على قولهما : إنه يحنث في المستقبل فيحنث في الماضي ; تسوية بين الماضي والمستقبل فكذلك لا يحنث . وهذه طريقة من سلكها من أصحاب الشافعي وأحمد : كأبي البركات في " محرره " . وأصحاب هذه الطريقة يقولون : إن من قال : إنه لا يحنث إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه : فيلزمه ألا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا . ويضعفون قول مالك وأبي حنيفة في الفرق وقيل : بل لا يحنث في الماضي قولا واحدا وفي المستقبل قولان .

                وهذه طريقة طائفة من أصحاب أحمد سلكوا مسلك أصحاب أبي حنيفة ومالك : ففرقوا بين الماضي والمستقبل فقالوا : إذا حلف بالله على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فإنه لا يحنث ولو حلف لا يفعل المحلوف عليه ففعله ناسيا أو جاهلا ففيه [ ص: 212 ] روايتان . وهذه طريقة القاضي أبي يعلى وابن عقيل في " الفصول " وأبي محمد المقدسي ; وغيرهم فجعلوا النزاع في المستقبل دون الماضي . وهؤلاء منهم من قال : " لغو اليمين " هو أن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه بلا نزاع . وأما إذا سبق لسانه في المستقبل : ففيه روايتان . وهذه طريقة القاضي وابن عقيل في " الفصول " ; واختار القاضي في " خلافه " أن قوله في المستقبل لا والله بلى والله ليس بلغو وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما . ومنهم من قال : ما يسبق على اللسان هو لغو بلا نزاع بين العلماء وفيما إذا حلف على شيء فتبين بخلافه روايتان .

                وهذه طريقة أبي محمد . " والصواب " أن النزاع في الصورتين ; فإن الشافعي في رواية الربيع عنه يوجب الكفارة فيمن حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه ; ولكن القول الآخر للشافعي أن هذا لغو كقول الجمهور وهذا هو قول محمد بن الحسن وكذا هو ظاهر مذهب أحمد أن كلا النوعين لغو لا كفارة فيه وهذا قول جمهور أهل العلم ; ولهذا جزم أكثر أصحاب أحمد بأنه لا كفارة لا في هذا ولا في هذا . ولم يذكروا نزاعا ; لأنه نص على أن كليهما لغو في جوابه كما ذكر ذلك الخرقي وابن أبي موسى وغيرهما من المتقدمين . وذكر طائفة عنه في اللغو " روايتين " رواية كقول أبي حنيفة ومالك . ورواية كقول [ ص: 213 ] الشافعي كما ذكر ذلك طائفة : منهم ابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهما . وصرح بعض هؤلاء - كابن عقيل وغيره - بأنه إذا قيل : إن اللغو هو أن يسبق على لسانه اليمين من غير قصد فإنه إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث . فلهذا صار في مذهبه عدة طرق . " طريقة القدماء " أن كليهما لغو قولا واحدا .

                " وطريقة القاضي " أن الماضي لغو قولا واحدا وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان وهذه الطريقة توافق مذهب أبي حنيفة ومالك . " وطريقة أبي محمد " أن سبق اللسان لغو قولا واحدا . وفي الماضي روايتان . وهذه الطريقة توافق مذهب الشافعي . " والطريقة الرابعة " وهي أضعف الطرق : أن اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا وفي الأخرى هذا دون هذا . " والطريقة الخامسة " وهي الجامعة بين الطرق : أن في مذهبه ثلاث روايات كما ذكر ذلك صاحب المحرر فإذا سبق على لسانه : لا والله بلى والله وهو يعتقد أن الأمر كما حلف عليه : فهذا لغو باتفاق الأئمة [ ص: 214 ] الأربعة .



                وإذا سبق على لسانه اليمين في المستقبل أو تعمد اليمين على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه : ففي الصورتين أقوال ثلاثة ; هي الروايات الثلاث عن أحمد . " أحدها " أن الجميع لغو كقول الجمهور وهو ظاهر مذهب أحمد وهي ومذهبه في إحدى الطريقتين بلا نزاع عنه . وعلى هذه الطريقة فقد فسر اللغو بهذا . وهذا أحد قولي الشافعي . " والثاني " أنه يحنث في الماضي دون ما سبق على لسانه وهو أحد قولي الشافعي أيضا . " والثالث " بالعكس كمذهب أبي حنيفة ومالك . فقد تبين أن المخطئ في عقد اليمين الذي حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه هو في إحدى الطريقتين كالناسي والجاهل وفي الأخرى لا يحنث قولا واحدا . والمعروفة عند أئمة أصحاب أحمد . وعلى هذا فالحالف بالطلاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه لا يحنث إذا لم يحنث الناسي والجاهل في المستقبل : إما تسوية بينهما . وإما بطريق الأولى على اختلاف الطريقتين .

                وهكذا ذكر المحققون من الفقهاء . [ ص: 215 ] وقد ظن بعض متأخري الفقهاء كالسامري صاحب " المستوعب " أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث قولا واحدا ; لأن الطلاق لا لغو فيه وهذا خطأ ; فإن الذي يقول إن الطلاق لا لغو فيه هو الذي يحنث الناسي والجاهل إذا حلف بالطلاق وأما من لم يحنث الناسي والجاهل فإنه لا يقول لا لغو في الطلاق - إذا فسر اللغو بأن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه - فإن عدم الحنث في هذه الصورة : إما أن يكون أولى بعدم الحنث في تلك الصورة أو يكون مساويا لها ; كما قد بيناه . ولا يمكن أحد أن يقول : إنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على امرأته لا يفعله ففعله ناسيا أو جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يحنث ; ويقول إذا حلف على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث ; لأن الجهل المقارن لعقد اليمين أخف من الجهل المقارن لفعل المحلوف عليه وغايته أن يكون مثله ; ولأن اليمين الأولى منعقدة اتفاقا . وأما الثانية ففي انعقادها نزاع بينهم . والله أعلم .




                الخدمات العلمية