الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما قول من يقول : إن الحقيقة ما يسبق إلى الذهن عند الإطلاق ; فمن أفسد الأقوال ، فإنه يقال : إذا كان اللفظ لم ينطق به إلا مقيدا ; فإنه يسبق إلى الذهن في كل موضع منه ما دل عليه ذلك الموضع . وأما إذا أطلق ; فهو لا يستعمل في الكلام مطلقا قط فلم يبق له حال إطلاق محض حتى يقال : إن الذهن يسبق إليه أم لا . و " أيضا " فأي ذهن فإن العربي الذي يفهم كلام العرب ; يسبق إلى [ ص: 106 ] ذهنه من اللفظ ما لا يسبق إلى ذهن النبطي الذي صار يستعمل الألفاظ في غير معانيها ومن هنا غلط كثير من الناس ; فإنهم قد تعودوا ما اعتادوه إما من خطاب عامتهم وإما من خطاب علمائهم باستعمال اللفظ في معنى فإذا سمعوه في القرآن والحديث ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية وعادتهم الحادثة . وهذا مما دخل به الغلط على طوائف ، بل الواجب أن تعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل في القرآن والسنة وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ ; فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله . لا بما حدث بعد ذلك . وأيضا فقد بينا في غير هذا الموضع أن الله ورسوله لم يدع شيئا من القرآن والحديث إلا بين معناه للمخاطبين ولم يحوجهم إلى شيء آخر كما قد بسطنا القول فيه في غير هذا الموضع . فقد تبين أن ما يدعيه هؤلاء من اللفظ المطلق من جميع القيود ; لا يوجد إلا مقدرا في الأذهان لا موجودا في الكلام المستعمل .

                كما أن ما يدعيه المنطقيون من المعنى المطلق من جميع القيود لا يوجد إلا مقدرا في الذهن لا يوجد في الخارج شيء موجود خارج عن كل قيد . ولهذا كان ما يدعونه من تقسيم العلم إلى تصور وتصديق وأن التصور هو تصور المعنى الساذج الخالي عن كل قيد لا يوجد . وكذلك ما يدعونه من البسائط التي تتركب منها الأنواع وأنها أمور مطلقة عن كل قيد لا توجد . وما يدعونه من أن واجب الوجود هو وجود مطلق عن كل أمر ثبوتي ; لا يوجد . [ ص: 107 ] فهذه الصفات المطلقات عن جميع القيود ينبغي معرفتها لمن ينظر في هذه العلوم . فإنه بسبب ظن وجودها ضل طوائف في العقليات والسمعيات بل إذا قال العلماء : مطلق ومقيد إنما يعنون به مطلقا عن ذلك القيد ومقيدا بذلك القيد . كما يقولون : الرقبة مطلقة في آية كفارة اليمين ومقيدة في آية القتل . أي مطلقة عن قيد الإيمان وإلا فقد قيل : { فتحرير رقبة } . فقيدت بأنها رقبة واحدة وأنها موجودة وأنها تقبل التحرير . والذين يقولون بالمطلق المحض يقولون هو الذي لا يتصف بوحدة ولا كثرة ولا وجود ولا عدم ولا غير ذلك ; بل هو الحقيقة من حيث هي هي كما يذكره الرازي تلقيا له عن ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة . وقد بسطنا الكلام في هذا الإطلاق والتقيد والكليات والجزئيات في مواضع غير هذا وبينا من غلط هؤلاء في ذلك ما ليس هذا موضعه .

                وإنما المقصود هنا " الإطلاق اللفظي " وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد وهذا لا وجود له وحينئذ فلا يتكلم أحد إلا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض فتكون تلك قيودا ممتنعة الإطلاق . فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن به التمييز بين نوعين ; فعلم أن هذا التقسيم باطل وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله فإنه مقيد بما يبين معناه فليس في شيء من ذلك مجاز بل كله حقيقة . ولهذا لما ادعى كثير من المتأخرين أن في القرآن مجازا وذكروا ما يشهد [ ص: 108 ] لهم ; رد عليهم المنازعون جميع ما ذكروه . فمن أشهر ما ذكروه قوله تعالى { جدارا يريد أن ينقض } . قالوا : والجدار ليس بحيوان ، والإرادة إنما تكون للحيوان ; فاستعمالها في ميل الجدار مجاز . فقيل لهم : لفظ الإرادة قد استعمل في الميل الذي يكون معه شعور وهو ميل الحي وفي الميل الذي لا شعور فيه وهو ميل الجماد وهو من مشهور اللغة ; يقال هذا السقف يريد أن يقع وهذه الأرض تريد أن تحرث وهذا الزرع يريد أن يسقى ; وهذا الثمر يريد أن يقطف وهذا الثوب يريد أن يغسل وأمثال ذلك . واللفظ إذا استعمل في معنيين فصاعدا ; فإما أن يجعل حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر أو حقيقة فيما يختص به كل منهما فيكون مشتركا اشتراكا لفظيا أو حقيقة في القدر المشترك بينهما . وهي الأسماء المتواطئة . وهي الأسماء العامة كلها . وعلى الأول يلزم المجاز . وعلى الثاني يلزم الاشتراك ; وكلاهما خلاف الأصل فوجب أن يجعل من المتواطئة . وبهذا يعرف عموم الأسماء العامة كلها وإلا فلو قال قائل : هو في ميل الجماد حقيقة وفي ميل الحيوان مجاز ; لم يكن بين الدعويين فرق إلا كثرة الاستعمال في ميل الحيوان ; لكن يستعمل مقيدا بما يبين أنه أريد به ميل الحيوان وهنا استعمل مقيدا بما يبين أنه أريد به ميل الجماد .

                والقدر المشترك بين مسميات الأسماء المتواطئة أمر كلي عام لا يوجد كليا عاما إلا في الذهن وهو مورد التقسيم بين الأنواع لكن ذلك المعنى العام [ ص: 109 ] الكلي كان أهل اللغة لا يحتاجون إلى التعبير عنه ; لأنهم إنما يحتاجون إلى ما يوجد في الخارج وإلى ما يوجد في القلوب في العادة . وما لا يكون في الخارج إلا مضافا إلى غيره ; لا يوجد في الذهن مجردا بخلاف لفظ الإنسان والفرس فإنه لما كان يوجد في الخارج غير مضاف تعودت الأذهان تصور مسمى الإنسان ومسمى الفرس بخلاف تصور مسمى الإرادة ومسمى العلم ومسمى القدرة ومسمى الوجود المطلق العام ; فإن هذا لا يوجد له في اللغة لفظ مطلق يدل عليه بل لا يوجد لفظ الإرادة إلا مقيدا بالمريد ولا لفظ العلم إلا مقيدا بالعالم ولا لفظ القدرة إلا مقيدا بالقادر . بل وهكذا سائر الأعراض لما لم توجد إلا في محالها مقيدة بها لم يكن لها في اللغة لفظ إلا كذلك . فلا يوجد في اللغة لفظ السواد والبياض والطول والقصر إلا مقيدا بالأسود والأبيض والطويل والقصير ونحو ذلك لا مجردا عن كل قيد ; وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة ; لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يريدون به من القدر المشترك ومنه قوله تعالى { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } . فإن من الناس من يقول : الذوق حقيقة في الذوق بالفم ، واللباس بما يلبس على البدن ، وإنما استعير هذا وهذا وليس كذلك ; بل قال الخليل : الذوق في لغة العرب هو وجود طعم الشيء والاستعمال يدل على ذلك . قال تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } . وقال : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } . وقال : { فذاقت وبال أمرها } . وقال : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } - { فذوقوا عذابي ونذر } - { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } - { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } { إلا حميما وغساقا } .

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا } " . وفي بعض الأدعية : " أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك " . فلفظ " الذوق " يستعمل في كل ما يحس به ويجد ألمه أو لذته فدعوى المدعي اختصاص لفظ الذوق بما يكون بالفم تحكم منه ، لكن ذاك مقيد فيقال : ذقت الطعام وذقت هذا الشراب ; فيكون معه من القيود ما يدل على أنه ذوق بالفم وإذا كان الذوق مستعملا فيما يحسه الإنسان بباطنه أو بظاهره ; حتى الماء الحميم يقال : ذاقه فالشراب إذا كان باردا أو حارا يقال : ذقت حره وبرده . وأما لفظ " اللباس " : فهو مستعمل في كل ما يغشى الإنسان ويلتبس به قال تعالى : { وجعلنا الليل لباسا } . وقال : { ولباس التقوى ذلك خير } . وقال : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } . ومنه يقال : لبس الحق بالباطل إذا خلطه به حتى غشيه فلم يتميز . فالجوع الذي يشمل ألمه جميع الجائع : نفسه وبدنه وكذلك الخوف الذي يلبس البدن . فلو قيل : فأذاقها الله الجوع والخوف ; لم يدل ذلك على أنه شامل لجميع أجزاء الجائع بخلاف ما إذا قيل : لباس الجوع والخوف . ولو قال فألبسهم لم يكن فيه ما يدل على أنهم ذاقوا ما يؤلمهم إلا بالعقل من حيث إنه يعرف أن الجائع الخائف يألم . بخلاف لفظ ذوق الجوع والخوف ; فإن هذا اللفظ يدل على الإحساس بالمؤلم وإذا أضيف إلى الملتذ : دل [ ص: 111 ] على الإحساس به كقوله صلى الله عليه وسلم " { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا } " . فإن قيل : فلم لم يصف نعيم الجنة بالذوق ؟ قيل : لأن الذوق يدل على جنس الإحساس ويقال : ذاق الطعام لمن وجد طعمه وإن لم يأكله . وأهل الجنة نعيمهم كامل تام لا يقتصر فيه على الذوق ; بل استعمل لفظ الذوق في النفي كما قال عن أهل النار : { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } أي لا يحصل لهم من ذلك ولا ذوق . وقال عن أهل الجنة : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية