الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وبتحقق " هذا المقام " يزول الاشتباه في هذا الموضع ويعلم أن في المسلمين قسما ليس هو منافقا محضا في الدرك الأسفل من النار وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } . ولا من الذين قيل فيهم : { أولئك هم المؤمنون حقا } فلا هم منافقون ولا هم [ ص: 479 ] من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقا ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب . بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار . وهذا القسم قد يسميه بعض الناس : الفاسق الملي وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه .

                والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل " أصول الدين " . فنقول : لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان وسار علي بن أبي طالب إلى العراق وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل ثم يوم صفين ما هو مشهور : خرجت ( الخوارج المارقون على الطائفتين جميعا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بهم وذكر حكمهم قال الإمام أحمد : صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لأحمد وروى البخاري منها عدة أوجه وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر . ومن أصح حديثهم حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري ففي الصحيحين { عن علي بن أبي طالب أنه قال : إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيخرج قوم في آخر الزمان [ ص: 480 ] أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة } .

                وفي الصحيحين { عن أبي سعيد قال : بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أدم مقروض لم تحصل من ترابها فقال : فقسمها بين أربعة نفر فقال رجل من أصحابه كنا أحق بهذا من هؤلاء قال : فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء قال : فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال : يا رسول الله اتق الله فقال : ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله قال : ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ فقال : لا : لعله أن يكون يصلي قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ; ولا أشق بطونهم قال ثم نظر إليه وهو مقف فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية قال : أظنه قال : لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } . اللفظ لمسلم . [ ص: 481 ] ولمسلم في بعض الطرق عن أبي سعيد { أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق ثم قال شر الخلق أو من شر الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } قال أبو سعيد : أنتم قتلتموهم يا أهل العراق وفي لفظ له : { تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق } وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح { عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين } فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله الحسن كان أحب إلى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم من اقتتالهما وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأمورا به فعلي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه وأن قتال الخوارج مما أمر به صلى الله عليه وسلم ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة .

                وهؤلاء الخوارج لهم أسماء يقال لهم : " الحرورية " لأنهم خرجوا بمكان يقال له حروراء ويقال لهم ( أهل النهروان : لأن عليا قاتلهم هناك ومن أصنافهم " الإباضية " أتباع عبد الله بن إباض و " الأزارقة " أتباع نافع بن الأزرق و " النجدات " أصحاب نجدة الحروري . وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب بل بما يرونه هم من الذنوب واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك فكانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 482 ] " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " وكفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن والاهما وقتلوا علي بن أبي طالب مستحلين لقتله قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة لكن كانوا جهالا فارقوا السنة والجماعة ; فقال هؤلاء : ما الناس إلا مؤمن أو كافر ; والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات ; فمن لم يكن كذلك فهو كافر ; مخلد في النار . ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك فقالوا : إن عثمان وعليا ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفارا .

                ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله ولو كان كافرا مرتدا لوجب قتله ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من بدل دينه فاقتلوه } . وقال { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام وزنى بعد إحصان أو قتل نفس يقتل بها } وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما ، وأمر سبحانه بأن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة ولو كان كافرا لأمر بقتله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره : { أن رجلا كان يشرب الخمر وكان اسمه عبد الله حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده فأتي به إليه مرة فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 483 ] لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } فنهى عن لعنه بعينه وشهد له بحب الله ورسوله مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما . وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في " الثالثة " و " الرابعة " منسوخ ; لأن هذا أتى به ثلاث مرات وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث ; ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز فيجوز أن يقال : يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حدا مقدرا في أصح قولي العلماء كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ; بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ترجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة كغيرها من أنواع التعزير وكذلك صفة الضرب فإنه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب بخلاف الزاني والقاذف فيجوز أن يقال : قتله في الرابعة من هذا الباب .

                و " أيضا " فإن الله - سبحانه - قال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } . فقد وصفهم بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم . فلما شاع في الأمة أمر " الخوارج " تكلمت الصحابة فيهم ورووا عن [ ص: 484 ] النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث فيهم وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم وظهرت بدعتهم في العامة ;

                التالي السابق


                الخدمات العلمية