الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ليتدبر ما ذم الله به أهل الكتاب من قسوة القلوب بعد إيتائهم الكتاب ومشاهدتهم الآيات كإحياء القتيل المضروب ببعض البقرة، ثم نهينا عن التشبيه بهم في ذلك، فقيل لنا: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نـزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ ص: 419 ] وبين في موضع آخر سبب قسوة قلوبهم، فقال: سبحانه: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية فأخبر أن قسوة قلوبهم كان عقوبة لهم على نقضهم مواثيق الله وعهوده أن لا تفعلوا ذلك . ثم قال تعالى: يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به فذكر أن قسوة قلوبهم أوجبت لهم خصلتين مذمومتين: إحداهما: تحريف الكلم من بعد مواضعه . والثانية: نسيانهم حظا مما ذكروا به، والمراد تركهم وإهمالهم نصيبا مما ذكروا به من الحكمة والموعظة الحسنة، فنسوا ذلك وتركوا العمل به وأهملوه . وهذان الأمران موجودان في الذين فسدوا من علمائنا لمشابهتهم لأهل الكتاب: أحدهما: تحريف الكلم، فإن من تفقه لغير العمل يقسو قلبه فلا يشتغل بالعمل، بل بتحريف الكلم، وصرف ألفاظ الكتاب والسنة عن مواضعها . والتلطف في ذلك بأنواع الحيل اللطيفة، من حملها على مجازات اللغة المستبعدة ونحو ذلك، والطعن في ألفاظ السنن حيث لم يمكنهم الطعن في ألفاظ الكتاب، ويذمون من تمسك بالنصوص وأجراها على ما يفهم منها ويسمونه جاهلا أو حسودا . وهذا يوجد في المتكلمين في أصول الديانات، وفي فقهاء الرأي، وفي صوفية الفلاسفة والمتكلمين .

                                                                                                                                                                                              والثاني: نسيان حظ مما ذكروا به من العلم النافع فلا تتعظ به قلوبهم، بل [ ص: 420 ] يذمون من تعلم ما يبكيه ويرق به قلبه ويسمونه قاصا .

                                                                                                                                                                                              ونقل أهل الرأي في كتبهم عن بعض شيوخهم أن ثمرات العلوم تدل على شرفها، فمن اشتغل بالتفسير فغايته أن يقص على الناس ويذكرهم . ومن اشتغل برأيهم وعلمهم فإنه يفتي ويقضي ويحكم ويدرس، وهؤلاء لهم نصيب من الذين: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون والحامل لهم على هذا شدة محبتهم للدنيا وعلوها ولو أنهم زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، ونصحوا أنفسهم وعباد الله لتمسكوا بما أنزل الله على رسوله، وألزموا الناس بذلك، فكان الناس حينئذ أكثرهم لا يخرجون عن التقوى . فكان يكفيهم ما في نصوص الكتاب والسنة، ومن خرج منهم عنها كان قليلا، فكان الله يقيض من يفهم من معاني النصوص ما يرد به الخارج عنها إلى الرجوع إليها ويستغني بذلك عما ولدوه من الفروع الباطنة والحيل المحرمة التي بسببها انفتحت أبواب الرياء وغيره من المحرمات . واستحلت محارم الله بأدنى الحيل، كما فعل أهل الكتاب: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية