الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قلنا في أول تفسير هذه الآية: إن المشركين هنا تعم المشركين الذين يعبدون الأحجار، والذين يعبدون الأشخاص، ولذلك قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

                                                          ذكرنا أن النصارى واليهود؛ لأنهم عبدوا أشخاصا وافتروا على الله تعالى - مشركون، وإن سموا أهل كتاب; لأن الله تعالى بعث إليهم رسولين من أولي العزم من الرسل، وأنهم حرفوا تعاليمهم، وكتبهم التي نزلت من عند الله تعالى، وقد أمر الله تعالى بقتالهم كالمشركين على سواء; لأن الشرك يجمعهم وإن اختلفوا عنهم بأن كتابا جاء بالتوحيد خوطبوا به، فكانت الحجة قائمة عليهم أشد من قيامها على الأميين من المشركين.

                                                          ولذا ذكر الله تعالى وصفا موجبا للقتال يجمعهم مع المشركين، فقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله وكرر لا لتأكيد كفرهم باليوم الآخر; لأنهم صدقوا به على انحراف، فاليهود منهم الفريسيون لا يؤمنون بيوم الآخرة قط، وسائرهم لا يؤمن بالجزاء الأخروي، [ ص: 3276 ] ويعتقدون أن ما ذكر من عذاب العصاة والمذنبين إنما هو في الدنيا، لا في الآخرة بل إنهم ينكرون الروح ولا يؤمنون إلا بالمادة، فهم ماديون في اعتقادهم من كل الوجوه.

                                                          والنصارى لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الحقيقي، فهم يقولون: إن الذي يدين الناس به هو المسيح لا الله وحده.

                                                          ويعتقدون أنه شريك لله تعالى في الدنيا على أنه الابن، وهو بهذا الوصف هو الذي يدين.

                                                          فالطائفتان لا تؤمنان بالآخرة ولا تؤمنان بالله حق إيمانه، فهم يشركون بالله في العبادة أشخاصا، ويستوي من يشرك مع الله حجرا ومن يشرك مع الله شخصا، فالاثنان مشركان، وكلاهما يشرك من ليس له مع الله تعالى أمر، ومن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان نبيا مرسلا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكى عنه ربه: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا

                                                          وقال الله تعالى في تكملة أوصافهم: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله لقد حرم عليهم في التوراة - وهي شريعة لليهود والنصارى - أكل الخنزير فأكلوه، وحرم عليهم الربا فاستحلوه، وحرم عليهم أن يسفكوا دماءهم فسفكوها، وكانوا كالمشركين يحرمون الطيبات ويستحلون الخبائث.

                                                          ثم ذكر سبحانه وتعالى من أوصافهم التمرد على الحق ولا يدينون دين الحق أي: لا يدينون دين الإسلام الذي هو الحق في ذاته؛ لقيام الأدلة والبراهين والآيات القاطعة المثبتة صحة نبوة محمد ، ونزول القرآن الكريم عليه، وعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، بل عجز الناس أجمعين ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وثبت أن هذا الدين هو الحق الخالد الذي نسخ ما قبله من الأديان; لأن فيه خلاصتها الباقية، ولو كان موسى بن عمران حيا لآمن به واتبعه، وعندهم العلم به؛ لأن التوراة والإنجيل قد بشرا به، ويعرفون رسالة محمد كما يعرفون آباءهم وأبناءهم، ومع ذلك تمردوا ولم يؤمنوا، ولما جاءهم ما عرفوا كفروا به.

                                                          [ ص: 3277 ] وقال تعالى: من الذين أوتوا الكتاب (من) هنا بيانية للذين في قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وإذا كانت (من) بيانية يكون المؤدى: قاتلوا الذين أوتوا الكتاب، وإنما ذكر الكلام أولا معرفا بأوصاف من يقاتلون، ثم بين بعد ذلك بـ(من) لبيان هذه الأوصاف الموجبة للكفر والعناد أولا، ولبيان تمردهم عن الحق ثانيا، ولأن الإجمال ثم البيان يثبت المعنى فضل تثبيت ثالثا.

                                                          فالمقصود قتال أهل الكتاب بعد قتال المشركين، وفل شوكتهم، ولقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك: "هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واستقامت جزيرة العرب على أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فأذعنوا له واجتمع من المقاتلة نحوا من ثلاثين ألفا".

                                                          وذلك لأن والي الروم قتل من أسلم من أهل الشام، فكان لا بد من تقليم أظفارهم، والكلام في القتال في غزوة تبوك سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى.

                                                          وإن هذا القتال له نهاية وهو العهد، ولذا قال تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى: عن يد أي: عن يد مواتية طائعة راضية غير ممتنعة، والتعبير باليد إشارة إلى إنهاء القتال الذي يكون بيد باطشة، متجاوزين إلى يد معطية للجزية بالرضا وهم صاغرون أي: كما نقول: غير متمردين، قد دخلوا في طاعة أهل الإيمان في صغار منقادين مؤتلفين، غير مجاهرين بالعداوة.

                                                          وما يعطيه الذمي من المال يسمى جزية؛ لأنها تجزى أي تقضى؛ ولأنها جزاء لأن يدفع الإسلام عنهم، ويكفيهم مئونة القتال؛ ولأنها جزاء لما ينفق على فقراء أهل الذمة كما كان يفعل الإمام عمر ، وكما هو واجب في ذاته على المؤمنين، وإن [ ص: 3278 ] المسلمين في عصر الصحابة كانوا يوفون بعهودهم مع المشركين، روي أن أبا عبيدة عامر بن الجراح كان أخذ مالا من أهل حمص على أن يدفع عنهم جيش الرومان إن أغاروا عليهم، فلما أصيب جيشه بالطاعون ضعف عن رد غاراتهم، ورد إليهم أموالهم.

                                                          والإسلام قام بحق التساوي بين جميع من يكونون في طاعته، فإن الجزية التي تكون على الذمي تقابل ما يكون على المسلم من تكليفات مالية، فعليه زكاة المال، وعليه صدقات ونذور، وعليه كفارات، وغير ذلك، ولو أحصي كل ما يؤخذ من المسلم لتبين أنه لا يقل عما يؤخذ من جزية إن لم يزد.

                                                          وإن الدولة كما ذكرنا تنفق على فقراء أهل الذمة، ولقد روي أن عمر - رضي الله تعالى عنه - وجد شيخا يهوديا يتكفف فسأله: من أنت يا شيخ؟ قال: رجل من أهل الذمة، فقال له: ما أنصفناك أكلنا شبيبتك وضيعناك في شيخوختك، وأجرى عليه رزقا مستمرا من بيت المال، وقال لخادمه: ابحث عن هذا وضربائه، وأجر عليهم رزقا من بيت المال.

                                                          والجزية بإجماع الفقهاء تفرض على اليهود والنصارى لنص هذه الآية، وتفرض على المجوس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولا تفرض بالإجماع على مشركي العرب؛ لأنهم يخيرون بين القتل والإسلام، حتى لا يكون في بلاد العرب دينان.

                                                          وقال أبو حنيفة : تفرض على كل مخالف عقد عقد الذمة، سواء أكان وثنيا أم كان مجوسيا أم كان كتابيا لا فرق؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، وأكثر المالكية على هذا الرأي، وقال الشافعي : لا تفرض الجزية إلا على اليهود والنصارى والمجوس لورود النصوص.

                                                          [ ص: 3279 ] ومقدار الجزية على حسب الاتفاق في الأمان، والله تعالى أعلم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية