الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير اللام هنا لام العاقبة؛ أي: لتكون عاقبة ذلك السفر الطويل أن يشهدوا منافع لهم؛ ويذكروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ والشهود هو الحضور؛ أي: يحضروا منافع لهم؛ ويعاينوها؛ ولكن ما هي هذه المنافع التي تسبق ذكر الله بالعبادة والذبح؛ قال ابن عباس - رضي الله عنه -: منافع الدنيا؛ والآخرة؛ أما منافع [ ص: 4973 ] الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات؛ وأما منافع الآخرة فرضوان الله (تعالى)؛ وكذا قال مجاهد ؛ راوي التفسير عن ابن عباس ؛ ونقول: إنه - سبحانه وتعالى - ذكر المنافع بلفظ نكرة؛ والتعبير بالنكرة يدل على أنها منافع عظيمة؛ لا يقدر قدرها؛ ولا تدرك نهايتها للناس؛ ونرى أن هذه المنافع مادية ومعنوية وعبادية؛ وهي سنام المنفعة؛ أما المنافع المادية فتجارات تتبادل بين الأقاليم الإسلامية؛ فأهل كل إقليم يجلبون معهم من مواردهم ما لا يكون عند غيرهم؛ فما عند الهنود من خيرات يفيضون به على غيرهم من المسلمين؛ وما عند المصريين من خيرات يفيضون به على غيرهم ممن ليس عندهم مثلها؛ أو هو قليل؛ وتعقد في مواسم الحج الصفقات الاقتصادية؛ وذلك ليس بممنوع؛ بل هو مطلوب؛ كما قال (تعالى): ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ؛ وإن ذلك يجيز؛ بل يوجب أن يعقد في موسم الحج الاتفاقات التجارية؛ ويتخذ من موسم الحج موعد للدراسات الاقتصادية بين المسلمين؛ ولقد كانت في مكة الأسواق التجارية؛ مثل عكاظ؛ وذي المجاز؛ وغيرهما.

                                                          أما المنافع المعنوية فدراسة التعاون الإسلامي من كل النواحي الاجتماعية والحربية والتعاونية والتعليمية؛ ويعمل كل إقليم على التعرف ببقية الأقاليم الإسلامية؛ والتعريف بحاجاته من العلم والحرب؛ وغيرهما؛ وكذلك يشعر كل إقليم بأنه يعيش في مدن الأقاليم الإسلامية؛ ولا يشعر بنفرة الانفراد.

                                                          أما المنافع الدينية فهي قضاء النسك الإسلامي في أماكن النسك؛ وإن المنافع السابقة لا تخلو من أنها دينية؛ وأنها تكون عبادة إذا قصد بها وجه الله؛ ورفعة الإسلام؛ وإيجاد الوحدة الإسلامية وتوثيقها؛ فالمسلمون جميعا أمة واحدة؛ وبذلك ينتفع الحاج إلى بيت الله الحرام؛ وهو مزود بالتقوى والمعرفة والأخوة في الله (تعالى).

                                                          وقوله (تعالى): ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ذكر الله: تسبيحه وامتلاء القلب بالإيمان به؛ والخضوع له؛ والخشوع؛ [ ص: 4974 ] والضراعة له؛ وذكر اسمه لهذا أيضا؛ ولكن يذكر اسم الله على الذبيحة لتكون لله؛ وللبعد عن رجس الجاهلية في ذبحهم على النصب؛ وذكر اسم الأوثان؛ وذكر اسم الله (تعالى) هنا على ذبائح الهدي من البدن والغنم؛ و "البدن ": اسم حبشي؛ جمع للبدنة؛ وهي الذبائح من الإبل والبقر؛ فالواحدة منها تكفي عن سبع.

                                                          ونلاحظ أنه ذكر - سبحانه - أن ذكر اسمه (تعالى) في أيام معلومات؛ وأن الذكر يكون على ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ فالذكر يكون على بهيمة الأنعام؛ والإضافة بيانية؛ أي: بهيمة هي الأنعام؛ جمع "نعم "؛ وهي الإبل والبقر والغنم؛ وسميت "نعما "; لأنها نعمة الله (تعالى)؛ وهي التي تكون هديا في الحج؛ لمن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد؛ أو في إحرامين؛ بينهما تحلل في أشهر الحج؛ وذكر اسم الله يكون في أيام معلومات؛ وهذا يقتضي أن يكون ذبح الهدي في هذه الأيام المعلومات؛ ولكن ما هي الأيام المعلومات التي يكون فيها الذبح؛ وذكر اسم الله (تعالى) فيها بالتسبيح والتكبير؛ وامتلاء النفس والمشاعر المؤمنة به؟ ما هي هذه الأيام المعلومات؟ روي أنها الليالي العشر التي تبتدئ بيوم عرفات؛ وينتهي بها الحج؛ والتي جاء فيها النص القرآني بقوله (تعالى): فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

                                                          وقد وردت الآثار الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضل ذكر الله؛ ودعائه في هذه الأيام العشر؛ التي تبتدئ من اليوم التاسع؛ فقد روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أيام أعظم عند الله؛ ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد "؛ [ ص: 4975 ] وقيل: إن هذه الأيام المعلومات هي الأيام المعدودات في قوله (تعالى): واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ونميل إلى أنها الأيام العشرة؛ ولقد قيل: إنها الليالي العشر؛ في قوله (تعالى): والفجر وليال عشر

                                                          قال (تعالى): فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير الفاء هنا للإفصاح; لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ أي: إذا ذبحتموها فاذكروا اسم الله (تعالى)؛ فكلوا منها؛ فالأكل من الهدي مندوب؛ وليس فرضا؛ ولا ممنوعا؛ و "البائس "؛ هو الذي يكون في شدة وبؤس شديد؛ من مرض؛ أو شدة؛ أو إجهاد في سفر؛ و "الفقير ": المحتاج؛ وقد قال العلماء في الهدي: إن المندوب أن يأكل ما لا يزيد على الثلث؛ ويهدي ما لا يزيد على الثلث؛ ويطعم الفقير المحتاج؛ وقد يكون ثمة فقر شديد؛ وحاجة ملحة؛ فيزيد في إطعام البائس الفقير.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية