الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 2167 ] والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير

                                                          * * *

                                                          بين الله سبحانه وتعالى مقدار الإثم في الاعتداء على أنفس الآحاد، وذكر سبحانه وتعالى أن من قتل نفسا، فقد اعتدى على حق الحياة عند كل الناس، فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها بالقصاص لها، فكأنما أحيا الناس جميعا; لأنه يمكن للناس من حياة رافهة هادئة، فيها أمن وفيها استقرار واطمئنان، كما قال سبحانه في آية أخرى: ولكم في القصاص حياة [البقرة]، ثم ذكر سبحانه وتعالى، الجريمة الكبرى في الاعتداء على الجماعة وخرق حرمات النظام، والانتقاض على الحكام الذين يقيمون الحق والعدل والشرع، وارتكاب القتل والسرقة والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض، وانتهاك الحرمات من غير أي حريجة دينية، وبين أنهم ينالون أقسى العقاب، لأنهم يرتكبون أفحش الجرائم وأفجرها.

                                                          وقد ذكر سبحانه وتعالى أن العقوبات لا تكفي وحدها لإيجاد مجتمع فاضل، بل لا بد من تهذيب الأرواح بالتقوى وطلب الوسائل الفاضلة، والغايات العالية، وأن يعرفوا أن عقاب الدنيا يهون بجوار عقاب الآخرة، وقد بين بعد ذلك العقوبة المقررة للاعتداء على الأموال، بعد أن ذكر عقوبة الاعتداء على الأنفس منفردة، ثم اجتماع الجرائم بالاعتداء على الأنفس والمال، والخروج على النظام.

                                                          وقد توسطت بين هذين النوعين من العقوبة آية الأمر بالتقوى وتذكر الآخرة وما فيها، لأن في ذلك بيانا بأن الصلاح الأول للمجتمع هو اجتثاث الجريمة من [ ص: 2168 ] النفس بزرع التقوى، ولأن القرآن ليس كتاب قانون تسرد فيه العقوبات سردا، بل هو كتاب هداية وتهذيب وإرشاد وتوجيه إلى الطريق المستقيم، تذكر فيه العقوبة على أنها علاج للجريمة في المجتمع، ثم يذكر مع العقوبة المادية العلاج النفسي والروحي، وهو أجدى وأقوى وأبعد أثرا، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقوبة المال في أغلظ جرائمه وهو السرقة، فقال تعالى:

                                                          والسارق والسارقة الواو هنا في معنى الواو العاطفة، إذ هي عطفت حكما مقررا لازما، وهو قطع أيدي السارقين، على جزاء المحاربين، وكان ما بينهما من طلب المؤمنين بالتقوى وطلب القربى إلى الله تعالى في معنى الجملة المعترضة بين معطوف ومعطوف عليه، ولها معناها السامي، وهو بيان العلاج النفسي التهذيبي بجوار العلاج المادي الجزائي.

                                                          والمعنى فرض عليكم، فيما فرض، حكم السارق والسارقة، كما فرض عليكم من قبل حكم الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالت كلماته: فاقطعوا أيديهما والفاء هنا للربط بين الكلام، وهي في معنى بيان السببية الرابطة بين الجريمة والعقوبة، فهي تبين أن سبب قطع الأيدي هو السرقة وكونهم قد اتصفوا بها، وكان ثمة تجانس بين الجريمة والعقوبة فاليد التي امتدت بالأخذ سرقة هي التي تصير موضعا للعقاب، وهو القطع.

                                                          وقد بين سبحانه وتعالى الباعث على ذلك العقاب، كما ذكر السبب، فالسبب المباشر هو السرقة، والحكمة أو الوصف المناسب هو ما اشتمل عليه قوله تعالى: جزاء بما كسبا نكالا من الله أي أن ذلك العقاب هو كفاء لما كسبا من فعل شيء له آثار سيئة، وإن ذلك العقاب نكال أي زجر من الله تعالى لمنع هذه الجريمة وتقييد الأيدي، حتى لا ترتكبها.

                                                          وظاهر الأمر أن قطع اليد لا يمكن أن يكون كفاء لليد المقطوعة، ولكن عند النظر الدقيق يتبين أن المقابلة ليست بين ذات المقدار المسروق، وبين اليد [ ص: 2169 ] المقطوعة، إنما المقابلة بين الأثر الذي يكون للفعل الذي يفعله السارق وبين العقاب، فإن السرقة في حي أو قرية تفزع أهل القرية أجمعين، فيندفعون إلى جلب الحراس ووضع المغالق وإحكام الأبواب، فوق ما يكون بين الناس من اضطراب; إذ يفقدون الأمن والاطمئنان، وتستيقظ أعين الحكام، ويزداد عدد القائمين على الأمن، فالمقابلة ليست بين ذات الفعل والعقاب، بل المقابلة بين أثر الفعل، وما يعقبه من انزعاج، وليست العقوبة مقصودة فقط لذلك الجزاء، بل هي مقصودة لما يعقبها من خوف الفاسدين، وفزع المجرمين، فيقل الإقدام عليها، بل لا يكون، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: نكالا من الله فالعقاب عادل في ذاته; لأنه مناسب لأثر الجريمة، وإصلاح لأنه يؤدي إلى ذهاب الجريمة أو تقليلها.

                                                          ونريد أن نقف للكلام في أمرين في معنى نكال، وفي السرقة التي تعد جريمة توجب قطع اليد.

                                                          ونقول: إن معنى كلمة نكال الزجر والمنع، فهو منع للغير من الارتكاب، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في أصل معنى كلمة نكال واشتقاقها: يقال نكل عن الشيء ضعف عنه وعجز، ونكلته قيدته، والنكل قيد الدابة، وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والجمع الأنكال، قال تعالى: إن لدينا أنكالا وجحيما [المزمل]. ونكلت به إذا فعلت ما ينكل به غيره "أي يمنع غيره من أن يفعل فعله" قال تعالى: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها [البقرة]. وقال: جزاء بما كسبا نكالا من الله

                                                          وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب النكل على النكل أي الرجل القوي على الرجل القوي". [ ص: 2170 ] وإن هذا التحليل اللغوي يفيد أن معنى قوله تعالى: جزاء بما كسبا نكالا من الله أن هذا العقاب فيه جزاء للجريمة وكفاء لها، وقد أشرنا إلى معنى ذلك، ويفيد أن هذا العقاب منع من الارتكاب، فإنه ينكل بالجاني، لكيلا يقع في الفعل غيره، أي لكي يكون ذلك التنكيل سببا في أن ينكل الغير عن الفعل.

                                                          والآن نتكلم عن معنى السرقة التي توجب قطع اليد، وهنا ننتقل من المعنى اللغوي للكلمة، إلى المعنى الشرعي المستمد من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن المأثور عن صحابته، ومما فهمه السلف من فقهائنا الأمجاد، رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

                                                          لقد اتفق علماء الشريعة على أن السرقة أخذ المال على سبيل الاستخفاء، وهذا معنى فقهي يلتقي مع المعنى اللغوي، ولكن الفقهاء زادوا قيدا في هذا المعنى، وهو أن يكون الأخذ من حرز مثله، أي يكون المال محرزا مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية التي تليق، وقد قال الفقهاء رضي الله عنهم: إن الأخذ على سبيل الاستخفاء هو ركن السرقة، وكون الأخذ لمال محرز محفوظ حفظا يليق بمثله شرط لاستحقاق العقوبة المحدودة التي ذكرها الشارع الحكيم.

                                                          وإذا كانت السرقة لا يتحقق ذكرها إلا إذا كان الأخذ على سبيل الاستخفاء، فإنه لا يكون المغتصب سارقا، ولا يكون المختلس سارقا، وقد فرقوا بين المختلس والسارق فقالوا: إن السارق يكون مختفيا غير معلوم للمسروق منه، أما المختلس فإنه لا يكون مختفيا، بل يكون ظاهرا ولكن يأخذ في غفلة من صاحب المال، والجمهور على أن الاختلاس لا يعد من السرقة فلا تقطع فيه اليد، ولقد خالف الجمهور إياس بن معاوية القاضي، وأوجب القطع على اعتبار أن فيه نوع استخفاء، وإن كان في العمل، ولم يكن في الشخص، وأن لذلك الرأي وجاهته من ناحية العمل، ومن ناحية المعنى. [ ص: 2171 ] ولقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل : أنه عد من السرقات جحود العواري والودائع; لأنه ثبت أن المخزومية التي قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- يدها، كانت تجحد ما تستعيره من الناس .

                                                          وإن ذلك غير الرواية الراجحة عن الإمام، بل إن الرواية الراجحة مع الجمهور، والحق هو أنها لا تعتبر سرقة وإلا اعتبر جحود الحقوق سرقة موجبة للقطع، لأنه لا فرق بين جحود العواري والودائع، وجحود الديون وسائر الحقوق المالية. وإن الفارق بين السرقة وجحود العواري كبير، فإن السرقة أخذ، وهذه منع للحقوق، والفرق بين المنع والأخذ كبير، وهذه أخذت بتمكين من المالك، والسرقة أخذ بغير تمكين من المالك.

                                                          هذا هو أصل معنى السرقة في ذاته، وهذا القدر قد اتفق عليه العلماء في الجملة، وقد اختلف العلماء من بعد في الشروط الواجبة للحد، ولنذكر بعض هذا الاختلاف:

                                                          * فقد اشترط أكثر أهل العلم لتحقق السرقة الموجبة للقطع أن يأخذ المسروق ويخرج به من مكان حرزه، ومقتضى تحقق السرقة مع هذا الشرط، أن يدخل ويأخذ مستخفيا، ويخرج من المكان الذي فيه المال إلى خارجه فإن ضبط قبل أن يخرج به لا يقام عليه الحد. وقد خالف في اشتراط الخروج بالشيء من حرز - إبراهيم النخعي التابعي، وفقهاء أهل الظاهر.

                                                          * وقد اشترط الحنفية وبعض الفقهاء أن يكون الدخول إلى مكان الحرز بغير إذن صاحبه، فلو كان بإذنه وسرق لا تقطع يده، فالضيف إذا سرق من مضيفه لا تقطع يده; لأنه دخل بإذنه، فلم يحدث هتك حمى الحرز وكأن هؤلاء يشترطون [ ص: 2172 ] مع الشرطين السابقين أن يتحقق معنى هتك حمى الحرز، وهو موضع الأمانة التي تنتهك حرماتها.

                                                          * ويظهر أن الكثيرين من الفقهاء يشترطون مع ذلك أن يكون المكان المسروق منه في وسط الأحياء العامرة في المدائن أو القرى، ليتحقق معنى الحرز والمحافظة، وكذلك قرروا أن البيوت التي تكون في البساتين أو الطرق أو الصحراء وليست في العمران إذا لم يكن بها أحد وسرقت مع اتخاذ المغاليق، وضبط الأبواب، لا يكون ثمة قطع يد; لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران لا يعد حافظا له، وإن أغلق بابه وأحكم الإغلاق.

                                                          بينا في هذا معنى السرقة الموجبة للقطع من حيث ذات الفعل، وبقي أن نتكلم في محل السرقة، وهو المال المسروق، فليس كل مال يؤخذ ولو كان محرزا ومحفوظا، وبين الناس، يعد أخذه موجبا للقطع، وقد قالوا: إن المسروق يجب أن يكون مالا متقوما، لا شبهة فيه، ولا قصور في ماليته بأن يكون مما يتموله الناس، ويعدونه لأغراضهم المختلفة، ويتنافسون في طلبه، وعلى ذلك لا يصح أن يكون المال من توافه الأموال كالتراب والطين وما يشبههما مهما تبلغ قيمته.

                                                          ولا بد أن يكون المال المسروق مملوكا لمن سرق منه ملكية قطعية لا شبهة فيها، فلا قطع في أخذ مال مباح، ولا في المال الذي كان أصله مباحا، وامتلك بالإحراز كالماء والصيد.

                                                          وهناك نوعان من المال قرر الفقهاء أنه لا يقطع من أخذهما استخفاء من حرز مثلهما: [ ص: 2173 ] أولهما: أموال بيت المال، فقد قرر الأكثرون أنه لو أخذ مسلم من بيت المال لا يقطع، ولنترك الكلمةلابن جرير في هذا الموضوع فهو يقول: "لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلما، ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي، وقال مالك وحماد يقطع بظاهر الكتاب -أي النص وهو والسارق والسارقة - ولنا ما روى ابن ماجه بإسناده أن عبدا من رقيق الخمس -أي الخمس المخصص لبيت المال من الغنائم سرق من الخمس، فدفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يقطعه، وقال: "مال الله سرق بعضه بعضا"، ولأن له في المال حقا، فيكون شبهة تمنع وجوب القطع، كما لو سرق من مال له فيه شركة. ونرى أن الذين أقاموا الحد طبقوا النص باعتبار أن السرقة قد تحققت، فوجب تحقيق العقاب، وأن هذا المال مال الله ومال الله تعالى أوجب أن تراعى حرمته، ولأن إهمال الحد فيه معنى إباحته، وذلك لا يجوز.

                                                          والذين لم يقيموا الحد، وهم الأكثر عددا بنوه على أساس أن لكل مسلم حقا فيه، فهو مال الجماعة كلها، وإذا كان كذلك فللآخذ حق أو شبهة حق، والحدود تسقط بالشبهات.

                                                          وإن الرأي الذي يوجب الحد أحرى بالقبول، حتى لا تكون أموال الأمة نهبا للناس ينالونها من غير أي حريجة دينية، ويحسبون أنهم يأخذون حقا لهم، وإن لم يكن مقسوما، فالأولى بالحماية مال الله حتى لا تمتد إليه الأيدي الآثمة، ولعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم الحد على الرقيق الذي كان غنيمة إذ أخذ منها; لأن الحرز لم يكن ثابتا بالنسبة له، وللرفق بالرقيق الذي لم يكن على علم بالشرع وما يجب عليه، ولأن حماية مال الدولة أوجب رعايته، لأن ما سرقه من حيث القيمة دون ما ينقص من قيمته بقطع يده، وفوق ذلك نتلف جزءا من بيت المال بإتلاف برء [ ص: 2174 ] آخر، فيكون الإتلاف مضاعفا، وليس هذا متفقا مع ما عرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حكمة، ولعل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مال الله سرق بعضه بعضا" يشير إلى هذا المعنى إشارة واضحة.

                                                          ويجب التنبيه هنا إلى أنه إذا لم يقم الحد عند من لا يقيمونه تجب عقوبة شديدة، وإن لم تكن قطع اليد، ولتكن الجلد أو الحبس، أو النفي من الأرض، أو ما يراه ولي الأمر عقابا رادعا، ونكالا مانعا.

                                                          ثاني الفرعين من المال الذي لا يكون فيه قطع: كل مال يكون للسارق نوع شركة فيه أو يكون بين السارق والمسروق منه صلةتجعل لكل واحد منهما حقا في مال الآخر، وذلك يشمل ما يأتي:

                                                          (أ) سرقة أحد الأصول من الفروع، فإنه لا قطع فيها، لأن للأب أو للأم أو الأصول نوع شركة في مال الفرع، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنت ومالك لأبيك" وكما ورد عنه: "الولد كسب أبيه" وكل أصل أب أو أم.

                                                          (ب) إذا سرق أحد الزوجين من الآخر لا قطع; لأن ثمة شركة أدبية بين الزوجين توجد ما يشبه الشركة المالية; ولأن مال أحد الزوجين غير محرز بالنسبة للآخر، وفي هذا الموضع خلاف كثير، ذلك القول في عمومه أرجحها وأقواها.

                                                          (جـ) لا يقطع الفروع إذا سرقوا من مال أصولهم لمعنى الشركة الذي بيناه فهو من الجانبين، وقانون التساوي في المعاملة يوجب ألا يقطع الفرع إن سرق من الأصل، كما لا يقطع الأصل إن سرق من الفرع. [ ص: 2175 ] (د) سرقة الأرحام المحارم بعضهم من بعض فإنها عند الأكثرين من الفقهاء فيها شركة أوجبتها القرابة، وجعلت المحرمية مقياسا بهذه القرابة التي توجد الشركة المالية من بعض نواحيها.

                                                          وهكذا نجد الحد يضيق تطبيقه إذا كان للسارق نوع حق في المال المسروق، ولو كان ضعيفا، وأنه كلما اتسع نطاق الموانع لإقامة الحد ضاق تطبيقه، وإننا لو أردنا أن نقيم حد السرقة في حال أجمع الفقهاء على وجوب إقامته فيها لوجدنا العدد يضؤل ويضيق النطاق، حتى إننا نجد أنه في كل عشرة آلاف حالة سرقة لا تقطع يد واحدة، وإنها كافية للردع والزجر في ألوف الألوف، وقد ثبت أن ما دونها لا يزجر مثلها، ولو في هذا النطاق الضيق، والله عزيز حكيم يضع العقاب في موضع الداء، فيحسمه القليل، ولا يحتاج فيه إلى الكثير، إنه خبير بما يعملون.

                                                          وإن الفقهاء الذين قرروا أن السرقة لا بد أن تكون من حرز، وأن يخرج بها السارق من الحرز، وألا يكون قد دخل ذلك بإذن أهله بأن يكون منتهكا للحرمات، قد قرروا كما رأيت إعفاء السارقين من العقاب إذا كانت الأموال لهم شبه حق فيها، وذلك كأموال بيت المال عند الأكثرين وأموال الآباء والأبناء، وأموال الأقارب بعضهم مع بعض والزوجة مع زوجها.

                                                          كذلك قرروا أن بعض الأموال لا يجري فيها قطع اليد، كالأموال التي تكون مباحة، ونالها بالاستيلاء مالكها، فقد قال الأكثرون: إنه لا قطع فيها، وأجمعوا على أن مال المحوز إذا سرق لا قطع فيه، وذلك لأن الشركة الطبيعية لا تزال قائمة ولو بطريق الشبهة ما دام المالك هو المستولي.

                                                          ولقد قال بعض الفقهاء: إنه لا قطع في الأموال غير القابلة للادخار أي التي يتسارع إليها الفساد، كاللحم والفاكهة الرطبة واللبن والخضر غير القابلة للادخار; وهكذا، فقد قال أبو حنيفة ومالك والثوري : لا قطع في هذه الأموال، والشافعي وأحمد ومن تبعهم أجازوا القطع في هذه الأمور. [ ص: 2176 ] وهكذا يجري الخلاف في بعض الشروط وفي بعض أنواع الأموال، وقد اتفقوا على أن سرقة ما يحرم تناوله أو استعماله لا توجب قطع اليد، فسرقة الخمر أو الخنزير، ولو كان يملكها غير مسلم لا توجب القطع باتفاق علماء المسلمين، وسرقة أدوات اللهو والمجون وما لا يتخذ في حلال خالص لا توجب القطع.

                                                          وإنك إذا تلمست الصور التي اتفق الفقهاء على وجوب القطع فيها بالنسبة للشروط الواجبة للاستيفاء في الفعل، وفي الأموال تجد تلك الصور نادرة، لا تقع في كل خمسمائة سرقة واحدة متفق على وجوب القطع فيها، ويزيد ندرة الصورة المتفق عليها اختلاف الفقهاء في نصاب السرقة.

                                                          وقد اتفق الفقهاء في الجملة على أن اليد لا تقطع إلا إذا بلغ المسروق قدرا من المال، فقد اتفق الرواة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قطع يد السارق فيما قيمته مجن، -وهو ما يتقي به المقاتل ضربات العدو- فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- قطع في ثمن مجن وقد قدرته رضي الله عنها بربع دينار.

                                                          واختلف العلماء من بعدها في قيمته، والأكثرون على أن قيمته ربع دينار، فأقل مقدار تقطع فيه يد السارق ما قيمته ربع دينار، ولكن الحنفية قدروا النصاب بعشرة دراهم، كما روي عن ابن مسعود : أنه لا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، ولأنه قد اختلف في تقدير المجن، فقيل قيمته أربعة دراهم، وقيل قيمته ربع دينار، وقيل قيمته دينار، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر، وتقدير أم المؤمنين عائشة اجتهاد منها يعارضه اجتهاد عبد الله بن مسعود ، فيؤخذ به; لأنه أكثر احتياطا، [ ص: 2177 ] هذا وهناك ملاحظة لفظية يجب اعتبارها، والوقوف عندها وقد وقف بعض الباحثين عندها، وهو أن الله سبحانه وتعالى عبر عن الذي يستحق القطع بقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما

                                                          فقد قرر بعض الباحثين أن كلمة "السارق"، و"السارقة" وصفان وليسا فعلين، والوصف لا يتحقق في الشخص إلا بالتكرار، فلا يقال لمن ظهر منه الجود مرة أنه جواد، ولا لمن وقع منه الكذب مرة ولم يتكرر كذاب، ولا للفاسق الذي لا يقول الحق، والمنافق الذي يخفي ما لا يبريه إذا صدق مرة أنه صادق أو صدوق، إنما تقال هذه الأوصاف لمن يتكرر منه فعلها، حتى تكون اسما له وعنوانا يعرف به.

                                                          وبتطبيق هذا القول على من تقع منه السرقة لا يكون مستحقا للقطع إلا من تكررت منه السرقة، وعلى حد تعبير القانونيين يكون ذلك العقاب للسارق العائد.

                                                          ويزكي هؤلاء الباحثون نظرهم؛ أولا: بأنه ثبت في أخبار المخزومية التي سرقت وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع يدها أنها كانت معتادة السرقة، لأنها كانت معروفة بأنها لا ترد الودائع التي تودعها، ولا العواري التي تستعيرها، فكان الأمر بالقطع من النبي -صلى الله عليه وسلم- واقعا على امرأة قد اعتادت الاعتداء على الأموال بجحود الودائع والعواري والسرقات.

                                                          وثانيا: أنه روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما أراد قطع يد شاب سرق قالت له أمه: اعف عنه يا أمير المؤمنين ، فإن هذه أول مرة، فقال عمر [ ص: 2178 ] لها: "إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة" ويظهر أن الإمام عمر رضي الله عنه يرى أن القبض على السارق متلبسا ووجود شهود يشهدون يدل على التكرار.

                                                          وثالثا: بأن كثيرين من الفقهاء اعتبر توبة السارق قبل إقامة الحد عليه تسقط الحد، فلا يقام عليه، ولا تكون التوبة عند التكرار، بل يكون موضعها عند الارتكاب الأول، ولنتكلم في موضوع التوبة فقد قال تعالى:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية