الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة

                                                          (أو) عاطفة على: أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين فإنزال الكتاب الكريم لكيلا يقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين، أو يقولوا: لو أنا أنزل [ ص: 2749 ] علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فالآية السابقة اعتذار أو في معنى الاعتذار عن شركهم وإيمان غيرهم، وهذا لبيان ما يرجون لأنفسهم من فضل لو أنزل عليهم كتاب مثل ما أنزل على غيرهم، بل إنهم يحسبون كما يحسب كل مفتر أنه لو جاء إليهم أمر من الأمور لعملوا بما يدعو إليه.

                                                          وإن المشركين قرروا ذلك كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم

                                                          أكدوا أنهم لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى منهم فقالوا: لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الكتاب المراد الذي أنزل على الطائفتين من قبلهم، ولكنه لم ينزل علينا، فلهم الهداية دوننا، و: (لو) هنا حرف امتناع لامتناع، أي امتنع علينا أن نكون مثلهم لأنه لم ينزل علينا مثلهم.

                                                          أنزل الله تعالى الشرطية الأولى، وهي أنهم لم ينزل عليهم، فقال تعالى: فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة

                                                          وعبر عن الكتاب الكريم بقوله: (بينة) إذ المعنى: فقد جاءكم كتاب هو بينة، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أنه بين في ذاته، وهي بينة فيها ما يدل على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- والدلالة على النزول من عند الله تعالى، فهو كتاب بين يحمل في نفسه دليل صدقه; لأنه حجة يتحدى بها، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا عجزا مبينا.

                                                          و: (الفاء) في قوله تعالى: فقد جاءكم للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه في كلامهم، أي: فإذا كنتم تطلبون أن ينزل عليكم كتاب فقد جاءكم.

                                                          وقد وصف سبحانه الكتاب بأربعة أوصاف:

                                                          أولها: أنه (بينة)، أي: هو بين في ذاته، وفيما دل عليه من شرائع بينها وفصلها، وأحكم بيانها.

                                                          [ ص: 2750 ] ثانيها: بأنه من ربكم الذي خلقكم ويعرف ما يصلح أموركم، وينفعكم في معاشكم ومعادكم.

                                                          وثالثها: أنه فيه الهداية إلى الصراط المستقيم وإصلاح نفوسكم، وهداية جمعكم.

                                                          ورابعها: أن فيه الرحمة بكم; لأن فيه الشريعة المحكمة؛ وهي رحمة للعالمين، ولأنه هو نبي الرحمة، قد جاءكم القرآن بما تطلبون أو بما تتمنون، أو بما يكون فيه ادعاؤكم، فهل آمنتم; كلا، لم يؤمنوا، وكان كلامهم غرورا أو تغريرا، وهو ضلال في كل أحواله، بل كذبوا بآيات الله، وانصرفوا عنها، ودعوا الناس للانصراف عنها، فضلوا وأضلوا وأشاعوا فساد الفكر والاعتقاد بين الناس، وهم بهذا أشد الظالمين؛ ولذا قال تعالى:

                                                          فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها إنهم بعد أن جاءتهم الرسالة مع الكتاب الذي ادعوا أنه لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى الأمم أي: أكثرها هدى، فلما جاءتهم كذبوا بها، وكذبوا بآيات الله التي أقامها عليهم في التصديق برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كذبوا بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الخالق فكذبوا بدلالتها على هذه الوحدانية، وكذبوا بآيات القرآن فلم يصدقوه، وهو آية كبرى، فكانوا ظالمين أشد الظلم؛ ولذا قال تعالى: فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي: أنهم إذا كانوا قد كذبوا الرسول الذي جاء ببينة من عند ربهم فقد ظلموا، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي: النفي مع التوبيخ؛ أي: لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وصدف عنها؛ فقد ارتكب ظلمين فاحشين:

                                                          أولهما: أنه كذب بآيات الله تعالى الدالة على كمال ربوبيته ووحدانيته وعاند الله تعالى في رسالة نبيه وتكذيبه له، وإن ذلك ظلم وكفر وضلال.

                                                          ثانيهما: أنه صدف عنها، أي: أعرض عنها إعراضا شديدا، فانصرف عنها، وعمل على أن يصرف غيره عنها، فالصدف الانصراف عنها، وصرف الناس عنها [ ص: 2751 ] بتضليلهم، وإيذاء المهتدين لحملهم على الضلال والفساد، والتحريض على ضعاف المؤمنين، وإيجاد رأي عام ضال مضل، ولقد أنذر الله تعالى الذين أعرضوا عن الحق، ودعوا الناس إلى الإعراض وآذوا من لم يعرض عنه، وسلك سبيل المؤمنين، فقال تعالت كلماته:

                                                          سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون

                                                          (السين) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وعبر بالسين الدالة على قرب الوقوع المؤكد; للدلالة على قرب الوقوع وتأكده، وكل آت قريب ما دام مؤكد الوقوع.

                                                          وأسند سبحانه الجزاء إلى ذاته العلية، لتأكد وقوعه؛ فإن الله لا يخلف الميعاد عذابا أو ثوابا.

                                                          وعبر سبحانه وتعالى عن الظالمين بالاسم الوصول، وهو إشعار بأن الصلة هي السبب في هذا الجزاء الشديد الذي وصفه سبحانه بأسوأ العذاب، أي: عذاب وقعه يسوءهم، ويؤلمهم وهو في ذاته سوء لا يكون إلا لمن تكون عاقبته السوأى، ولمن كان يفعل ما يسوء، ويكفر بالله تعالى، وذكر سبحانه السبب في هذا العذاب الذي هو سوء في ذاته، فقال: بما كانوا يصدفون أي: بسبب استمرارهم على الصدف بإعراضهم، وحمل الناس على أن يعرضوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى.

                                                          وهكذا نرى المشركين في ضلال مستمر، فهم يضلون في أقوالهم وأفعالهم، وشركهم، وقانا الله شر مآلهم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية