الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والخبز تعتبر فيه القيمة هو الصحيح ، [ ص: 296 ] ثم يعتبر نصف صاع من بر وزنا فيما يروى عن أبي حنيفة رحمه الله وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر كيلا والدقيق أولى من البر ، والدراهم أولى من الدقيق فيما يروى عن أبي يوسف رحمه الله ، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله لأنه أدفع للحاجة وأعجل به ، وعن أبي بكر الأعمش تفضيل الحنطة لأنه أبعد من الخلاف إذ في الدقيق والقيمة خلاف الشافعي رحمه الله قال ( والصاع عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ثمانية أرطال بالعراقي ) وقال أبو يوسف رحمه الله : خمسة أرطال وثلث رطل وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام { صاعنا أصغر الصيعان } . [ ص: 297 ] ولنا ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال } وهكذا كان صاع عمر رضي الله عنه وهو أصغر من الهاشمي ، وكانوا يستعملون الهاشمي .

التالي السابق


( قوله هو الصحيح ) احتراز كما قال بعضهم ، يراعى فيه القدر وهو أن يكون منوين من [ ص: 296 ] الخبز ، لأنه لما روعي القدر فيما هو أصله ففيه ، وأنه يزداد ذلك القدر صنعة وقيمة أولى ، والصحيح الأول لما أن القدر لا يعرف إلا من جهة الشرع ، ولم يرد إلا في المكيل ، والخبز ليس منه فكان إخراجه بطريق القيمة . ( وقوله ثم يعتبر نصف صاع من بر من حيث الوزن عند أبي حنيفة ) وجهه أن العلماء لما اختلفوا في أن الصاع ثمانية أرطال أو خمسة وثلث كان إجماعا منهم أنه يعتبر بالوزن ، إذ لا معنى لاختلافهم فيه إلا إذا اعتبر به ، وروى ابن رستم عن محمد : إنما يعتبر بالكيل لو وزن أربعة أرطال فدفعها إلى القوم لا يجزيه لجواز كون الحنطة ثقيلة لا تبلغ نصف صاع وإن وزنت أربعة أرطال ( قوله لأنها أبعد عن الخلاف ) أجيب : بأن الخلاف في الحنطة لثبوت الخلاف في قدرها أيضا لكن فيه أنه أقل شبهة .

( قوله وقال أبو يوسف خمسة أرطال وثلث ) والرطل زنة مائة وثلاثين درهما ويعتبر وزن ذلك بما لا يختلف كيله ووزنه وهو العدس والماش ، فما وسع ثمانية أرطال أو خمسة وثلثا من ذلك فهو الصاع كذا قالوا . وعلى هذا يرتفع الخلاف المذكور آنفا في تقدير الصاع كيلا أو وزنا إذا تؤمل .

( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { صاعنا أصغر الصيعان } ) ولم يعلم خلاف في قدر [ ص: 297 ] صاعه عليه الصلاة والسلام إلا ما قاله الحجازيون والعراقيون وما قاله الحجازيون أصغر فهو الصحيح ، إذ هو أصغر الصيعان ، لكن الشأن في صحة الحديث ، والله أعلم به ، غير أن ابن حبان روى بسنده عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : يا رسول الله صاعنا أصغر الصيعان ومدنا أكبر الأمداد ، فقال : اللهم بارك لنا في صاعنا وبارك لنا في قليلنا وكثيرنا واجعل لنا مع البركة بركتين } ا هـ .

ثم قال ابن حبان : وفي تركه إنكار كونه أصغر الصيعان بيان أن صاع المدينة كذلك ا هـ . ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع كون السكوت حجة لأنه ليس في حكم شرعي حتى يلزم رده إن كان خطأ ، والمعول عليه ما أخرجه البيهقي عن الحسن بن الوليد القرشي وهو ثقة قال : قدم علينا أبو يوسف رحمه الله من الحج فقال : إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم أهمني ، ففحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع فقالوا : صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت لهم : ما حجتكم في ذلك ؟ فقالوا : نأتيك بالحجة غدا ، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه ، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت فإدا هي سواء ، قال فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث ونقصان يسير . قال : فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة رحمه الله في الصاع .

وروي أن مالكا ناظره واحتج عليه بالصيعان التي جاء بها أولئك فرجع أبو يوسف إلى قوله .

وأخرج الحاكم عن أسماء بنت أبي بكر : أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد يقتاتون به يفعل ذلك أهل المدينة كلهم ا هـ وصححه ( ولنا ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال } ) هكذا وقع مفسرا عن أنس وعائشة في ثلاثة طرق رواها الدارقطني وضعفها .

وعن جابر أسند ابن عدي عنه وضعفه بعمر بن موسى [ ص: 298 ] والحديث في الصحيحين ليس فيه الوزن ، وأما كون صاع عمر كذلك ، فأخرج ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم قال : سمعت حسن بن صالح يقول : صاع عمر ثمانية أرطال .

وقال شريك : أكثر من سبعة وأقل من ثمانية ، حدثنا وكيع عن علي بن صالح عن أبي إسحاق عن موسى بن طلحة قال : الحجاجي صاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وهذا الثاني أخرجه الطحاوي ، ثم أخرج عن إبراهيم النخعي قال : عيرنا صاعا فوجدناه حجاجيا ، والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي . وعنه قال : وضع الحجاج قفيزه على صاع عمر . قالوا : كان الحجاج يفتخر بإخراج صاع عمر ، وبتقدير تسليم ما رووه أولا لا يلزم كون خمسة أرطال وثلث صاعه الذي هو أصغر ، بل الحاصل الاتفاق على أن صاعه كان أصغر الصيعان باعتبار أنهم كانوا يستعملون الهاشمي ، وهو اثنان وثلاثون رطلا . ثم الخلاف في أن الأصغر ما قدره ثابت فلا يلزم صحة قول من قال : تقديره أقل ، إذ خصمه ينازعه في أن ذلك التقدير هو الذي كان الصاع الأصغر إذ ذاك ، ولا أعجب من هذا الاستدلال شيء ، والجماعة الذين لقيهم أبو يوسف لا تقوم بهم حجة لكونهم نقلوا عن مجهولين ، وقيل : لا خلاف بينهم ، فإن أبا يوسف لما حرره وجده خمسة وثلثا برطل أهل المدينة ، وهو أكبر من رطل أهل بغداد لأنه ثلاثون إستارا ، والبغدادي عشرون ، وإذا قابلت ثمانية بالبغدادي بخمسة وثلث بالمدني وجدتهما سواء ، وهو أشبه لأن محمدا رحمه الله لم يذكر في المسألة خلاف أبي يوسف ، ولو كان لذكره على المعتاد ، وهو أعرف بمذهبه ، وحينئذ فالأصل كون الصاع الذي كان في زمن عمر هو الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قولا بالاستصحاب إلى أن يثبت خلافا ، ولم يثبت ، وعند ذلك تكون تلك الزيادة التي فيما تقدم من رواية الدارقطني وهي لفظ ثمانية أرطال ورطلان صحيحة اجتهادا .

وإن كان فيمن في طريقها ضعف إذ ليس يلزم من ضعف الراوي سوى ضعفها ظاهرا لا الانتفاء في نفس الأمر ، إذ ليس كل ما يرويه الضعيف خطأ . وهذا لتأيدها بما ذكر من الحكم الاجتهادي بكون صاع عمر هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا ولا يخفى ما في تضعيف واقعة أبي يوسف بكون النقل عن مجهولين من النظر بل الأقرب منه عدم ذكر محمد لخلافه ، فيكون ذلك دليل ضعف أصل وقوع الواقعة لأبي يوسف ولو كان راويها ثقة لأن وقوع ذلك منه لعامة الناس ومشافهته إياهم به مما يوهم شهرة رجوعه ، ولو كان لم يعمه محمد فهو علة باطنة .




الخدمات العلمية