الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو احتجم وظن أن ذلك يفطره ثم أكل متعمدا عليه القضاء والكفارة ) لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي [ ص: 377 ] إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد لأن الفتوى دليل شرعي في حقه ، ولو بلغه الحديث واعتمده فكذلك عند محمد رحمه الله تعالى ، لأن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينزل عن قول المفتي ، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى خلاف ذلك ، لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث ، وإن عرف تأويله تجب الكفارة لانتفاء الشبهة ، وقول الأوزاعي رحمه الله لا يورث الشبهة لمخالفته القياس .

[ ص: 378 ] ( ولو أكل بعدما اغتاب متعمدا فعليه القضاء والكفارة كيفما كان ) [ ص: 379 ] لأن الفطر يخالف القياس ، والحديث مؤول بالإجماع .

التالي السابق


( قوله لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي ) يعني : فيما إذا لم يبلغه الحديث لأن القياس لا يقتضي ثبوت الفطر مما خرج ، بخلاف ما لو ذرعه القيء فظن أنه أفطر فأكل عمدا فإنه كالأول لا كفارة عليه .

فإن القيء يوجب غالبا عود شيء إلى الحلق لتردده فيه فيستند ظن الفطر إلى دليل ، أما الحجامة فلا تطرق فيها إلى الدخول بعد الخروج فيكون تعمد أكله بعده موجبا للكفارة إلا إذا أفتاه مفت بالفساد ، كما هو قول الحنابلة ، وبعض أهل الحديث فأكل بعده لا كفارة لأن الحكم في حق العامي فتوى مفتيه .

( وإن بلغه الحديث واعتمده ) على ظاهره غير عالم بتأويله وهو عامي ( فكذلك عند محمد ) أي لا كفارة عليه ، لأن قول المفتي يورث الشبهة المسقطة ، فقول [ ص: 377 ] الرسول عليه الصلاة والسلام أولى ، وعن أبي يوسف لا يسقطها ( لأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث ) فإذا اعتمده كان تاركا للواجب عليه ، وترك الواجب لا يقوم شبهة مسقطة لها ( وإن عرف تأويله ) ثم أكل ( تجب الكفارة لانتفاء الشبهة ، وقول الأوزاعي ) إنه يفطر ( لا يورث شبهة لمخالفته القياس ) مع فرض علم الآكل كون الحديث على غير ظاهره ، ثم تأويله أنهما كانا يغتابان ، أو أنه منسوخ .

ولا بأس بسوق نبذة تتعلق بذلك .

روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ثوبان { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم } ورواه الحاكم وابن حبان وصححاه ، ونقل في المستدرك عن الإمام أحمد أنه قال : هو أصح ما روي في الباب .

وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث { شداد بن أوس أنه مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان فقال أفطر الحاجم والمحجوم } وصححوه .

ونقل الترمذي في علله الكبرى عن البخاري أنه قال : كلاهما عندي صحيح ، حديثي ثوبان وشداد ، وعن ابن المديني أنه قال : حديث ثوبان وحديث شداد صحيحان ، ورواه الترمذي من حديث رافع بن خديج عنه عليه الصلاة والسلام قال { أفطر الحاجم والمحجوم } وصححه .

قال : وذكر عن أحمد أنه قال : إنه أصح شيء في هذا الباب ، وله طرق كثيرة غير هذا .

وبلغ أحمد أن ابن معين ضعفه ، وقال : إنه حديث مضطرب وليس فيه حديث يثبت ، فقال : إن هذا مجازفة .

وقال إسحاق بن راهويه : ثابت من خمسة أوجه . وقال بعض الحفاظ : متواتر ، قال بعضهم : ليس ما قاله ببعيد ، ومن أراد ذلك فلينظر في مسند أحمد ، ومعجم الطبراني والسنن الكبرى للنسائي وأجاب القائلون بأن الحجامة لا تفطر بأمرين : أحدهما : ادعاء النسخ ، وذكروا فيه ما رواه البخاري في صحيحه من حديث عكرمة [ ص: 378 ] عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم } .

ورواه الدارقطني عن ثابت عن أنس قال { أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفطر هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم } ، وكان أنس يحتجم وهو صائم ، ثم قال الدارقطني : كلهم ثقات ، ولا أعلم له علة ، وما روى النسائي في سننه عن إسحاق بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت حميدا الطويل يحدثه عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في القبلة للصائم ورخص في الحجامة للصائم } ثم أخرجه عن إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان بسند الطبراني .

وسند الطبراني : حدثنا محمود بن محمد الواسطي حدثنا يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري من قوله ولم يرفعه ، ولا يخفى أن كونه روي موقوفا لا يقدح في الرفع بعد ثقة رجاله .

والحق في تعارض الوقف والرفع تقدم الرفع لأنه زيادة وهي من الثقة العدل مقبولة ، ثم دل حديث الدارقطني على أنه كان فعله عليه الصلاة والسلام المروي بعد النهي ، وإلا لزم تكرير النسخ إذ كان الحاصل الآن بحديث الدارقطني الإطلاق ، وعدمه أولى فيجب الحمل عليه ، ولفظ رخص أيضا ظاهر في تقدم المنع .

بقي أن يقال : الناسخ أدنى حاله أن يكون في قوة المنسوخ وليس هنا هذا ، أما حديث الدارقطني فهو وإن كان سنده يحتج به ، لكن أعله صاحب التنقيح بأنه لم يورده أحد من أصحاب السنن والمسانيد والصحيح ، ولم يوجد له أثر في كتاب من الكتب الأمهات كمسند أحمد ، ومعجم الطبراني ، ومصنف ابن أبي شيبة وغيرها مع شدة حاجتهم إليه ، فلو كان لأحد من الأئمة به رواية لذكرها في مصنفه ، فكان حديثا منكرا ، لكن ما روى الطبراني : حدثنا محمود بن المروزي حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبي حدثنا أبو حمزة السكري عن أبي سفيان عن أبي قلابة عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بعدما قال : أفطر الحاجم والمحجوم } ولا معنى لقوله بعدما قال إلخ إلا إذا كان المراد احتجم وهو صائم .

وكذا في مسند أبي حنيفة عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن أنس بن مالك قال { احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال } الحديث وهو صحيح ، وطلحة هذا احتج به مسلم وغيره ، وكذا ما تقدم من ظاهر حديث النسائي يدفع ما ذكره صاحب التنقيح ، ولا نسلم تواتر المنسوخ وكذا حديث البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما { أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم } وحديث الترمذي من حديث الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه احتجم وهو صائم " وهو صحيح ، فإن أعلا بإنكار أحمد أن يكون سوى احتجم وهو محرم ، وقال : ليس فيه صائم .

قال مهنأ : قلت له من ذكره ؟ قال : سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { احتجم عليه الصلاة والسلام وهو محرم } [ ص: 379 ] وكذلك رواه روح عن زكريا بن إسحاق عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه مثله ، ورواه عبد الرزاق عن معتمر عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه مثله .

قال أحمد : فهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائما فليس بلازم إذ قد رواه عن غير هؤلاء من أصحاب ابن عباس عكرمة ومقسم ، ويجوز كون ما وقع في تلك الطرق عن أولئك اقتصارا منهم على بعض الحديث يجب الحمل عليه لصحة ذكر صائم ، أو من ابن عباس رضي الله عنهما حين حدث به لكون غرضه إذ ذاك كان متعلقا بذلك فقط نفيا لتوهم كون الحجامة من محظورات الإحرام ، ولذا لم يكن ابن عباس رضي الله عنهما يرى بالحجامة بأسا على ما سنذكر .

وقول شعبة : لم يسمع الحكم من مقسم حديث الحجامة للصائم يمنعه المثبت .

وأما رواية احتجم وهو محرم صائم وهي التي أخرجها ابن حبان وغيره عن ابن عباس فأضعف سندا وأظهر تأويلا ، إما بأنه لم يكن قط محرما إلا وهو مسافر ، والمسافر يباح له الإفطار بعد الشروع كما اعترف به الشافعي رحمه الله فيما قدمناه ، وهو جواب ابن خزيمة ، أو أن الحجامة كانت مع الغروب كما قال ابن حبان : إنه روي من حديث أبي الزبير عن جابر { أنه عليه الصلاة والسلام أمر أبا طيبة أن يأتيه مع غيبوبة الشمس فأمره أن يضع المحاجم مع إفطار الصائم فحجمه ثم سأله : كم خراجك ؟ قال : صاعان فوضع عنه صاعا } ا هـ .

فلم ينهض شيء مما ذكر ناسخا لقوة ذلك . الثاني : التأويل بأن المراد ذهاب ثواب الصوم بسبب أنهما كانا يغتابان ذكره البزار ، فإنه بعدما روى حديث ثوبان { أفطر الحاجم والمحجوم } أسند إلى ثوبان أنه قال : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفطر الحاجم والمحجوم } لأنهما كانا اغتابا وروى العقيلي في ضعفائه : حدثنا أحمد بن داود بن موسى بصري حدثنا معاوية بن عطاء حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : { مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين يحجم أحدهما الآخر فاغتاب أحدهما ولم ينكر عليه الآخر فقال : أفطر الحاجم والمحجوم } قال عبد الله : لا للحجامة ولكن للغيبة لكن أعل بالاضطراب ، فإن في بعضها إنما منع إبقاء على أصحابه خشية الضعف فالمعول عليه الأول ، فبهذا يحصل الجمع وإعمال كل من الأحاديث الصحيحة من احتجامه وترخيصه ومنعه .

ويدل على ذلك أن المروي عن جماعة من الصحابة الذين يبعد عدم اطلاعهم على حقيقة الحال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لملازمتهم إياه ، وحفظ ما يصدر عنه منهم أبو هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه النسائي عنه من طريق ابن المبارك : أخبرنا معمر عن خلاد عن شقيق بن ثور عن أبيه عن أبي هريرة " أنه قال : يقال : أفطر الحاجم والمحجوم وأما أنا فلو احتجمت ما باليت " .

وما أخرج أيضا عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه لم يكن يرى بالحجامة بأسا " وما قدمناه عن أنس رضي الله عنه أيضا " أنه كان يحتجم وهو صائم " والحق أنه يجب أحد الاعتبارين لا بعينه من النسخ في الواقع أو التأويل .

( قوله والحديث مؤول بالإجماع ) بذهاب الثواب [ ص: 380 ] فيصير كمن لم يصم ، وحكاية الإجماع بناء على عدم اعتبار خلاف الظاهرية في هذا فإنه حادث بعدما مضى السلف على أن معناه ما قلنا ، ويريد بالحديث قوله عليه الصلاة والسلام { ما صام من ظل يأكل لحوم الناس } رواه ابن أبي شيبة وإسحاق في مسنده وزاد { إذا اغتاب الرجل فقد أفطر } وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن رجلين صليا صلاة الظهر والعصر وكانا صائمين فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال : أعيدا وضوءكما وصلاتكما وامضيا في صومكما واقضيا يوما آخر . قالا : لم يا رسول الله ؟ قال : اغتبتما فلانا } وفيه أحاديث أخر ، والكل مدخول . ولو لمس أو قبل امرأة بشهوة أو ضاجعها ولم ينزل فظن أنه أفطر فأكل عمدا كان عليه الكفارة إلا إذا تأول حديثا أو استفتى فقيها ، فأفطر فلا كفارة عليه وإن أخطأ الفقيه ، ولم يثبت الحديث لأن ظاهر الفتوى والحديث يصير شبهة ، كذا في البدائع . وفيه : لو دهن شاربه فظن أنه أفطر فأكل عمدا فعليه الكفارة ، وإن استفتى فقيها أو تأول حديثا لما قلنا ، يعني : ما ذكره فيمن اغتاب فظن أنه أفطر فأكل عمدا من قوله فعليه الكفارة ، وإن استفتى فقيها أو تأول حديثا لأنه لا يعتد بفتوى الفقيه ولا بتأويله الحديث هنا لأن هذا مما لا يشتبه على من له سمة من الفقه ، ولا يخفى على أحد أن ليس المراد من المروي { الغيبة تفطر الصائم } حقيقة الإفطار ، فلم يصر ذلك شبهة




الخدمات العلمية