الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 424 ] ( فصل ) ( والمواقيت التي لا يجوز أن يجاوزها الإنسان إلا محرما خمسة : لأهل المدينة ذو الحليفة ، ولأهل العراق ذات عرق . ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم ) هكذا وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت لهؤلاء . [ ص: 425 ] وفائدة التأقيت المنع عن تأخير الإحرام عنها ، لأنه يجوز التقديم عليها بالاتفاق ، ثم الآفاقي إذا انتهى إليها على قصد دخول مكة عليه أن يحرم قصد الحج أو العمرة [ ص: 426 ] أو لم يقصد عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام { لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما } [ ص: 427 ] ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فيستوي فيه الحاج والمعتمر وغيرهما

[ ص: 424 ]

التالي السابق


[ ص: 424 ] فصل في المواقيت )

جمع ميقات وهو الوقت المعين ، استعير للمكان المعين كقلبه في قوله تعالى { هنالك ابتلي المؤمنون }

لزم شرعا تقديم الإحرام للآفاقي على وصوله إلى البيت تعظيما للبيت ، وإجلالا كما تراه في الشاهد من ترجل الراكب القاصد إلى عظيم من الخلق إذا قرب من ساحته خضوعا له ، فكذا لزم القاصد إلى بيت الله تعالى أن يحرم قبل الحلول بحضرته إجلالا ، فإن في الإحرام تشبها بالأموات ، وفي ضمن جعل نفسه كالميت سلب اختياره .

وإلقاء قياده متخليا عن نفسه فارغا عن اعتبارها شيئا من الأشياء فسبحان العزيز الحكيم ( قوله ولأهلنجد قرن ) بالسكون موضع ، وجعله في الصحاح محركا ، وخطئ بأن المحرك اسم قبيلة إليها ينسب أويس القرني ( قوله هكذا وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أما توقيت ما سوى ذات عرق ، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة } وروي هن لهم والمشهور الأول .

ووجهه أنه على حذف المضاف التقدير هن لأهلهن . وأما توقيت ذات عرق ، ففي مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال : سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { مهل أهل المدينة إلى أن قال : ومهل أهل العراق من ذات عرق } وفيه شك من الراوي في رفعه هذه المرة ، ورواه مرة أخرى على ما أخرجه ابن ماجه عنه ولم يشك .

ولفظه { ومهل أهل الشرق ذات عرق } إلا أن فيه إبراهيم بن يزيد الجوزي لا يحتج بحديثه ، وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها { أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق } وزاد فيه النسائي بقية .

وفي سنده أفلح بن حميد كان أحمد بن حنبل ينكر عليه هذا الحديث . وأخرج عبد الرزاق عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما [ ص: 425 ] { أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق } ولم يتابعه أصحاب مالك فرووه عنه .

ولم يذكروا فيه ميقات أهل العراق ، وكذلك رواه أيوب السختياني وابن عون وابن جريج وأسامة بن زيد وعبد العزيز بن أبي داود عن نافع ، وكذا رواه سالم عن ابن عمر وابن دينار عن ابن عمر . وأخرج أبو داود عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق } قال البيهقي : تفرد به يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي ، وقال ابن القطان : أخاف أن يكون منقطعا فإن محمدا إنما عهد يروي عن أبيه عن جده .

وقال مسلم في كتاب التمييز : لا يعلم له سماع من جده ، ولا أنه لقيه ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم أنه يروي عن جده ، وذكر أنه يروي عن أبيه . وأخرج البزار في مسنده عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما { وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ذات عرق } وقال الشافعي : أخبرنا سعيد بن سالم ، أخبرني ابن جريج ، أخبرني عطاء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلا وفيه { ولأهل المشرق ذات عرق } قال ابن جريج : فقلت لعطاء : إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ذات عرق وأنه لم يكن أهل مشرق يومئذ فقال : كذلك سمعنا { أنه عليه الصلاة والسلام وقت لأهل المشرق ذات عرق } ، ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في المعرفة .

وقال الشافعي رحمه الله ، ومن طريق البيهقي أيضا : أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال { لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق ولم يكن أهل مشرق حينئذ فوقت للناس ذات عرق } قال الشافعي : ولا أحسبه إلا كما قال طاوس ، ويؤيده ما في البخاري بسنده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهي جور عن طريقنا وإنا إذا أردنا قرنا شق علينا قال : انظروا حذوها من طريقكم ، فحد لهم ذات عرق

" قال الشيخ تقي الدين في الإمام : المصران هما البصرة والكوفة وحذوهما ما يقرب منها ، قال : وهذا يدل على أن ذات عرق مجتهد فيها لا منصوصة ا هـ .

والحق أنه يفيد أن عمر رضي الله عنه لم يبلغه توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق ، فإن كانت الأحاديث بتوقيته حسنة فقد وافق اجتهاده توقيته عليه الصلاة والسلام وإلا فهو اجتهادي ( قوله وفائدة التأقيت المنع من التأخير لأنه يجوز التقديم بالإجماع ) على ما سنذكره ، وقد يلزم عليه أن من أتى ميقاتا منها لقصد مكة وجب عليه الإحرام سواء كان يمر بعده على ميقات آخر أم لا ، لكن المسطور خلافه في غير موضع ، وفي الكافي للحاكم الصدر الشهيد الذي هو عبارة عن جمع كلام محمد رحمه الله : ومن [ ص: 426 ] جاوز وقته غير محرم ثم أتى وقتا آخر . وأحرم منه أجزأه .

ولو كان أحرم من وقته كان أحب إلي ا هـ . ومن الفروع : المدني إذا جاوز إلى الجحفة فأحرم عندها فلا بأس به . والأفضل أن يحرم من ذي الحليفة . ومقتضى كون فائدة التوقيت المنع من التأخير أن لا يجوز التأخير عن ذي الحليفة ، فإن مروره به سابق على مروره بالميقات الآخر ، ولذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أن عليه دما ، لكن الظاهر عنه هو الأول لما روي من تمام الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام { هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن } فمن جاوز إلى الميقات الثاني صار من أهله أي صار ميقاتا له .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا أرادت أن تحج أحرمت من ذي الحليفة . وإذا أرادت أن تعتمر أحرمت من الجحفة ، ومعلوم أن لا فرق في الميقات بين الحج والعمرة . فلو لم تكن الجحفة ميقاتا لهما لما أحرمت بالعمرة منها ، فبفعلها يعلم أن المنع من التأخير مقيد بالميقات الأخير . ويحمل حديث { لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما } على أن المراد لا يجاوز المواقيت .

هذا ومن كان في بحر أو بر لا يمر بواحد من المواقيت المذكورة فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ، ويعرف بالاجتهاد فعليه أن يجتهد ، فإن لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين من مكة ( قوله أو لم يقصد ) بأن قصد مجرد الرؤية والنزهة أو التجارة ( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام { لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما } ) روى ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا عبد السلام بن حرب عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يجاوز الوقت إلا بإحرام } وكذلك رواه الطبراني .

وروى الشافعي في مسنده : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو عن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس رضي الله عنهما يرد من جاوز الميقات غير محرم ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره . وروى إسحاق بن راهويه في مسنده : أخبرنا فضيل بن عياض عن ليث بن أبي سليم عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا جاوز الوقت فلم يحرم حتى دخل مكة رجع إلى الوقت فأحرم ، وإن خشي إن رجع إلى الوقت فإنه يحرم ويهريق لذلك دما فهذه المنطوقات أولى من المفهوم المخالف في قوله ممن أراد الحج والعمرة إن ثبت أنه من كلامه عليه الصلاة والسلام دون كلام الراوي .

وما في مسلم والنسائي { أنه عليه الصلاة والسلام دخل يوم الفتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام } كان مختصا بتلك [ ص: 427 ] الساعة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم { مكة حرام لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما } يعني الدخول بغير إحرام لإجماع المسلمين على حل الدخول بعده للقتال ( قوله ولأن وجوب الإحرام لتعظيم هذه البقعة ) يعني وجوب الإحرام من الميقات المتقدم على البقعة لتعظيم البقعة على ما قدمنا في أول الفصل .




الخدمات العلمية