الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 434 ] ( فإن كان مفردا بالحج ينوي بتلبيته الحج ) لأنه عبادة والأعمال بالنيات ( والتلبية أن يقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ) وقوله إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون ابتداء لا بناء [ ص: 435 ] إذ الفتحة صفة الأولى ، وهو إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه على ما هو المعروف في القصة ( ولا ينبغي أن يخل بشيء من هذه الكلمات ) [ ص: 436 ] لأنه هو المنقول باتفاق الرواة فلا ينقص عنه ( ولو زاد فيها جاز ) خلافا للشافعي رحمه الله في رواية الربيع رحمه الله عنه . هو اعتبره بالأذان والتشهد من حيث إنه ذكر منظوم . ولنا أن أجلاء الصحابة كابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم زادوا على المأثور ، ولأن المقصود الثناء ، وإظهار العبودية فلا يمنع من الزيادة [ ص: 437 ] عليه . قال ( وإذا لبى فقد أحرم ) يعني إذا نوى لأن العبادة لا تتأدى إلا بالنية إلا أنه لم يذكرها لتقديم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج ( ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية ) [ ص: 438 ] خلافا للشافعي رحمه الله لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة ، ويصير شارعا بذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية فارسية كانت أو عربية ، هذا هو المشهور عن أصحابنا رحمهم الله تعالى . والفرق بينه وبين الصلاة على أصلها أن باب الحج أوسع من باب الصلاة ، حتى يقام غير الذكر مقام الذكر كتقليد البدن فكذا غير التلبية وغير العربية .

التالي السابق


( قوله فإن كان مفردا نوى بتلبيته الحج ) أي إن كان مفردا بالحج نواه ، لأن النية شرط العبادات ، وإن ذكر بلسانه وقال : نويت الحج وأحرمت به لله تعالى لبيك إلخ فحسن ليجتمع القلب واللسان ، وعلى قياس ما قدمناه في شروط الصلاة إنما يحسن إذا لم تجتمع عزيمته ، فإن اجتمعت فلا ، ولم نعلم الرواة لنسكه عليه الصلاة والسلام فصلا فصلا قط روى واحد منهم أنه سمعه عليه الصلاة والسلام يقول : { نويت العمرة ولا الحج } ( قوله بكسر الهمزة لا بفتحها ) يعني في الوجه الأوجه ، وأما في الجواز فيجوز والكسر على استئناف الثناء وتكون التلبية للذات ، والفتح على أنه تعليل للتلبية أي لبيك لأن الحمد والنعمة لك والملك ، ولا يخفى أن تعليق الإجابة التي لا نهاية لها بالذات أولى منه باعتبار صفة .

هذا وإن كان استئناف الثناء لا يتعين مع الكسر لجواز كونه تعليلا مستأنفا كما في قولك علم ابنك العلم إن العلم نافعه ، قال الله تعالى { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } وهذا مقرر في مسالك العلة من علم الأصول لكن لما جاز فيه كل منهما يحمل على الأول لأولويته بخلاف الفتح ليس فيه سوى أنه تعليل . وقول المصنف : إنه صفة الأولى يريد متعلقا به . والكلام في مواضع .

الأول : لفظ لبيك ومعناها لفظها مصدر مثنى تثنية يراد بها التكثير كقوله تعالى { ثم ارجع البصر كرتين } أي كرات كثيرة وهو ملزوم النصب كما ترى والإضافة والناصب له من غير لفظه تقديره أجبتك إجابة بعد إجابة إلى ما لا نهاية له ، وكأنه من ألب بالمكان إذا أقام به ، ويعرف بهذا معناها فتكون مصدرا محذوف الزوائد ، والقياسي منه إلباب ومفرد لبيك لب . وقد حكى سيبويه عن بعض العرب لب على أنه مفرد لبيك ، [ ص: 435 ] غير أنه مبني على الكسر لعدم تمكنه هذا هو المشهور فيها .

وقيل : ليس هنا إضافة والكاف حرف خطاب ، وإنما حذفت النون لشبه الإضافة . وقيل : مضاف إلا أنه اسم مفرد وأصله لبى قلبت ألفه ياء للإضافة إلى الضمير كألف عليك الذي هو اسم فعل ، وألف لدى فرده سيبويه ، بقول الشاعر :

دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبي يدي مسور

حيث ثبتت الياء مع كون الإضافة إلى ظاهر . الثاني : أنها إجابة فقيل لدعاء الخليل على ما أخرج الحاكم عن جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال : رب قد فرغت . فقال : أذن في الناس بالحج . قال : رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي البلاغ . قال : رب كيف أقول ؟ قال : قل : يا أيها الناس كتب عليكم الحج ، حج البيت العتيق ، فسمعه من بين السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يلبون }

وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وأخرجه من طريق آخر ، [ ص: 436 ] وأخرجه غيره بألفاظ تزيد وتنقص . وأخرج الأزرقي في تاريخ مكة عن عبد الله بن سلام : { لما أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس قام على المقام فارتفع المقام حتى أشرف على ما تحته } الحديث .

وأخرج عن مجاهد { قام إبراهيم عليه السلام على هذا المقام فقال : يا أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا : لبيك اللهم لبيك . قال : فمن حج البيت اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ } ( قوله لأنه هو المنقول باتفاق الرواة ) قيل : لا اتفاق بينهم . فقد أخرج البخاري حديث التلبية عن { عائشة رضي الله عنها قالت إني لأعلم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك ولم تذكر ما بعده } وأخرج النسائي عن عبد الله هو ابن مسعود مثله .

وأما التلبية على الوجه المذكور في الكتاب فهو في الكتب الستة من حديث ابن عمر قال " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها لبيك وسعديك ، والخير بيديك والرغباء إليك والعمل " ( قوله أن أجلاء الصحابة كابن مسعود إلخ ) ذكرنا زيادة ابن عمر آنفا وأخرجها مسلم من قول عمر أيضا .

وزيادة ابن مسعود في مسند إسحاق بن راهويه في حديث فيه طول وفي آخره وزاد ابن مسعود في تلبيته " فقال : لبيك عدد التراب " وما سمعته قبل ذلك ولا بعده ، وزيادة أبي هريرة الله أعلم بها ، وإنما أخرج النسائي عنه قال { كان من تلبية النبي صلى الله عليه وسلم : لبيك إله الخلق لبيك } ورواه الحاكم وصححه . وروى ابن سعد في الطبقات عن مسلم بن أبي مسلم قال " سمعت الحسن بن علي رضي الله عنهما يزيد في التلبية لبيك ذا النعماء والفضل الحسن " وأسند الشافعي رحمه الله عن مجاهد مرسلا { كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية لبيك } وساق المشهور .

قال { حتى إذا كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها لبيك ، إن العيش عيش الآخرة } قال ابن جريج : وحسبت أن ذلك يوم عرفة . وتقدم في حديث جابر الطويل ما يفيد أنهم زادوا بمسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا . وأخرج أبو داود عنه قال { أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر تلبيته المشهورة وقال : والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام . والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا [ ص: 437 ] يقول لهم شيئا }

فقد صرح بتقريره وهو أحد الأدلة ، بخلاف التشهد لأنه في حرمة الصلاة ، والصلاة يتقيد فيها بالوارد لأنها لم تجعل شرعا كحالة عدمها ، ولذا قلنا يكره تكراره بعينه حتى إذا كان التشهد الثاني قلنا لا تكره الزيادة بالمأثور لأنه أطلق فيه من قبل الشارع نظرا إلى فراغ أعمالها ( قوله وإذا لبى فقد أحرم ) لم يعتبر مفهومه المخالف على ما عليه القاعدة من اعتباره في رواية الفقه ، وذلك لأنه يصير محرما بكل ثناء وتسبيح في ظاهر المذهب إن كان يحسن التلبية ولو بالفارسية وإن كان يحسن العربية .

والفرق لهما بين افتتاح الإحرام وافتتاح الصلاة مذكور في الكتاب ، والأخرس يحرك لسانه مع النية ، وفي المحيط : تحريك لسانه مستحب كما في الصلاة ، وظاهر كلام غيره أنه شرط ، ونص محمد على أنه شرط . وأما في حق القراءة في الصلاة فاختلفوا فيه ، والأصح لا يلزمه التحريك ( قوله إلا أنه لم يذكرها لتقدم الإشارة إليها في قوله اللهم إني أريد الحج ) قد يقال : لا حاجة إلى استنباط هذه الإشارة الخفية بل قد ذكرها نصا ، فإن نظم الكتاب هكذا : ثم يلبي عقيب صلاته فإن كان مفردا نوى بتلبيته الحج ثم ذكر صورة التلبية .

ثم قال : فإذا لبى فقد أحرم فلا يشكل أن المفهوم إذا لبى التلبية المذكورة وهي المقرونة بنية الحج فقد أحرم بالحج . ثم لا يستفاد من هذه العبارة سوى أنه عند النية والتلبية يصير محرما ، أما أن الإحرام بهما أو بأحدهما بشرط ذكر الآخرة فلا . وذكر حسام الدين الشهيد : أنه يصير شارعا بالنية لكن عند التلبية كما في الصلاة بالنية لكن عند التكبير ، ثم لم يذكر سوى أن بنية مطلق الحج من غير تعيين الفرض ولا النفل يصير شارعا في الحج . وكان من المهم ذكر أنه هل يسقط بذلك فريضة الحج أم لا بد فيه من التعيين . والمذهب أنه يسقط الفرض بإطلاق نية الحج بخلاف تعيين النية للنفل ، فإنه يكون نفلا وإن كان لم يحج الفرض بعد .

وعند الشافعي : إذا نوى النفل وعليه حجة الإسلام يقع عن حجة الإسلام لما روي { أنه عليه الصلاة والسلام سمع شخصا يقول : لبيك عن شبرمة فقال : أحججت عن نفسك أو معناه ؟ قال : لا ، قال : حج عن نفسك ثم عن شبرمة } . قلنا : غاية ما يفيد وجوب أن يفعل ذلك ، ومقتضاه ثبوت الإثم بتركه لا تحوله بنفسه إلى غير المنوي من غير قصد إليه ، فالقول به إثبات بلا دليل ، بخلاف قولنا مثله في رمضان ، لأن رمضان حكمه تعيين المشروع فيه فيحتاج بعد هذا إلى مطلق نية الصوم لتتميز العبادة عن العادة ، فإذا وجدت انصرف إلى [ ص: 438 ] المشروع في الوقت ، بخلاف وقت الحج لم يتمحض للحج كوقت الصوم لما عرف بل يشبهه من وجه دون وجه ، فللمشابهة جاز عن الفرض بالإطلاق ولأنه الظاهر من حال المسلم خصوصا في مثل هذه العبادة المشق تحصيلها والمطلق يحتمل كلا من الخصوصيات فصرفناه إلى بعض محتملاته بدلالة الحال ، وللمفارقة لم يجز عن الفرض بتعيين النفل ، وأيضا فالدلالة تعبر عند عدم معارضة الصريح ، والمعارضة ثابتة حيث صرح بالضد وهو النفل بخلاف صورة الإطلاق إذا لا منافاة بين الأخص والأعم .

[ فروع ]

إذا أبهم الإحرام بأن لم يعين ما أحرم به جاز ، وعليه التعيين قبل أن يشرع في الأفعال ، والأصل حديث علي رضي الله عنه { حين قدم من اليمن فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم } فأجازه عليه الصلاة والسلام الحديث مر في حديث جابر الطويل ، فإن لم يعين حتى طاف شوطا واحدا كان إحرامه للعمرة وكذا إذا أحصر قبل الأفعال والتعيين فتحلل بدم تعين للعمرة حتى يجب عليه قضاؤها لا قضاء حجه ، وكذا إذا جامع فأفسد ووجب عليه المضي في الفاسد فإنما يجب عليه المضي في عمرة ، ولو أحرم مبهما ثم أحرم ثانيا بحجة فالأول لعمرة أو بعمرة فالأول لحجة ، ولو لم ينو بالثاني أيضا شيئا كان قارنا ، وإن عين شيئا ونسيه فعليه حجة وعمرة احتياطا ليخرج عن العهدة بيقين ، ولا يكون قارنا ، فإن أحصر تحلل بدم واحد ويقضي حجة وعمرة ، وإن جامع مضى فيهما ويقضيهما إن شاء جمع ، وإن شاء فرق ، وإن أحرم بشيئين ونسيهما لزمه في القياس حجتان وعمرتان .

وفي الاستحسان حجة وعمرة حملا لأمره على المسنون والمعروف وهو القرآن ، بخلاف ما قبله إذ لم يعلم أن إحرامه كان بشيئين . وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله : خرج يريد الحج فأحرم لا ينوي شيئا فهو حج بناء على جواز أداء العبادات بنية سابقة ، ولو أحرم نذرا ونفلا كان نفلا أو نوى فرضا وتطوعا كان تطوعا عنده وكذا عند أبي يوسف في الأصح ، ولو لبى بالحج وهو يريد العمرة أو على القلب فهو محرم بما نوى لا بما جرى على لسانه ، ولو لبى بحجة وهو يريد الحج والعمرة كان قارنا ( قوله خلافا للشافعي رحمه الله ) [ ص: 439 ] في أحد قوليه .

وروي عن أبي يوسف رحمه الله كقوله قياسا على الصوم بجامع أنها عبادة كف عن المحظورات فتكفي النية لالتزامها . وقسنا نحن على الصلاة لأنه التزام أفعال لا مجرد كف بل التزام الكف شرط فكان بالصلاة أشبه ، فلا بد من ذكر يفتتح به أو بما يقوم مقامه مما هو من خصوصياته . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج } قال : فرض الحج الإهلال ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : التلبية .

وقول ابن مسعود رضي الله عنه : الإحرام لا ينافي قولهما كيف وقد ثبت عنه أنه التلبية ، كقول ابن عمر رواه ابن أبي شيبة ، وعن عائشة " لا إحرام إلا لمن أهل أو لبى " إلا أن مقتضى بعض هذه الأدلة تعيين التلبية حتى لا يصير محرما بتقليد الهدي وهو القول الأخير للشافعي رحمه الله ، لكن ثمة آثار أخر تدل على أن به مع النية يصير محرما تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى ، فالاستدلال بهذه على عدم صحة الاكتفاء بالنية صحيح ، ثم إذا لبى صلى على النبي المعلم للخيرات صلى الله عليه وسلم ودعا بما شاء ، لما روي عن القاسم بن محمد أنه قال : يستحب للرجل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التلبية .

ورواه أبو داود والدارقطني . ويستحب في التلبية كلها رفع الصوت من غير أن يبلغ الجهد في ذلك كي لا يضعف ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أنه يخفض صوته إذا صلى عليه صلى الله عليه وسلم . وعن خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان إذا فرغ من التلبية سأل رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار } رواه الدارقطني . واستحب بعضهم أن يقول بعدها : اللهم أعني على أداء فرض الحج وتقبله مني ، واجعلني من الذين استجابوا لك وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك واجعلني من وفدك الذين رضيت عنهم ، اللهم قد أحرم لك شعري وبشري ودمي ومخي وعظامي




الخدمات العلمية