الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة ) وفي الأصل خيره بين الركوب والمشي ، وهذا إشارة إلى الوجوب ، [ ص: 172 - 174 ] وهو الأصل لأنه التزم القربة بصفة الكمال فتلزمه بتلك الصفة ، كما إذا نذر بالصوم متتابعا [ ص: 175 ] وأفعال الحج تنتهي بطواف الزيارة فيمشي إلى أن يطوفه .

ثم قيل : يبتدئ المشي من حين يحرم ، وقيل من بيته لأن الظاهر أنه هو المراد ، ولو ركبا أراق دما لأنه أدخل نقصا فيه ، قالوا إنما يركب إذا بعدت المسافة وشق عليه المشي ، وإذا قربت والرجل ممن يعتاد المشي ولا يشق عليه ينبغي أن لا يركب

التالي السابق


( قوله ومن جعل على نفسه أن يحج ماشيا فإنه لا يركب حتى يطوف طواف الزيارة ) وهذا لأنه التزم القربة بصفة الكمال فتلزمه بتلك الصفة كالتزام التتابع في الصوم ( وفي الأصل خيره بين أن يركب وبين أن يمشي ، وهذا ) أعني ما في الجامع وهو قوله لا يركب حتى يطوف ( إشارة إلى الوجوب ) وهو الظاهر لما قلنا ; وإنما انتهى المشي بالطواف لأنه منتهى أعمال الحج .

فإن قيل : فقد كره أبو حنيفة الحج ماشيا فكيف يكون صفة كمال ؟ قلنا إنما كرهه إذا كان مظنة سوء خلق الفاعل له كأن يكون صائما مع المشي أو ممن لا يطيق المشي فيكون سببا للمأثم من مجادلة الرفيق والخصومة ، وإلا فلا شك أن المشي أفضل في نفسه لأنه أقرب إلى التواضع والتذلل .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما كف بصره : ما أسفت على شيء كأسفي على أن لم أحج ماشيا ، فإن الله تعالى قدم المشاة فقال تعالى { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من حج ماشيا كتب له بكل خطوة [ ص: 172 ] حسنة من حسنات الحرم ، قيل ما حسنات الحرم ؟ قال : كل حسنة بسبعمائة } . لا يقال : لا نظير للمشي في الواجبات ، ومن شرط صحة النذر أن يكون من جنس المنذور واجب على ما ذكرته في كتاب الصوم .

لأنا نقول : بل له نظير ، وهو مشي المكي الذي لا يجد الراحلة وهو قادر على المشي ، فإنه يجب عليه أن يحج ماشيا ونفس الطواف أيضا . ثم اختلف المشايخ في محل ابتداء وجوب المشي لأن محمدا لم يذكره قيل من الميقات ، والأصح أنه من بيته لأنه المراد عرفا ، ويدل عليه من الرواية ما عن أبي حنيفة : لو أن بغداديا قال : إن كلمت فلانا فعلي أن أحج ماشيا فلقيه بالكوفة فكلمه فعليه أن يمشي من بغداد ، ولو أحرم من بيته فالإنفاق على أنه يمشي من بيته ، وقد عرف من هذا أن لا فرق في الوجوب بين أن ينجز النذر أو يعلقه كإن شفى الله مريضي أو قدم زيد فعلي حجة أو عمرة ، ولا فرق بين قوله لله علي أو علي حجة في الإيجاب ، ولو قال علي المشي إلى بيت الله ولم يذكر حجة ولا عمرة فحنث فعليه أحد النسكين حجة أو عمرة استحسانا . وفي القياس لا شيء عليه .

وجه الاستحسان أنه قد تعورف إيجاب النسك بهذا اللفظ ، فكان كقوله علي أحد النسكين ، فإن جعلها حجة مشي فلم يركب حتى يطوف أو عمرة مشي حتى يحلق ، ولو قرنها بحجة الإسلام جاز .

فإن ركب فعليه دم مع دم القران لأنه ترك واجبا ، ولو نذر حجة ماشيا ثم أحرم من الميقات بعمرة تطوعا ثم أضاف إليها الحجة أجزأه ما لم يطف لعمرته وهو قارن ، ولو أحرم بعدما طاف لعمرته لم يجز وعليه دم ، وكل من نذر وقال إن شاء الله تعالى متصلا لم يلزمه شيء . واعلم أن مقتضى الأصل أن لا يخرج عن عهدة النذر إذا ركب كما لو نذر الصوم متتابعا فقطع التتابع ، ولكن ثبت ذلك في الحج نصا فوجب العمل به ، وهو ما عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا } رواه أبو داود وسنده حجة .

وما في رواية مسلم أنه قال صلى الله عليه وسلم فيها " لتمش ولتركب " ولم يزد في هذه الرواية على ذلك ، فمحمول على ذكر بعض المروي بدليل ما صرحت به الرواية الأخرى ، ثم إطلاق الركوب في الروايتين محمول على علمه بعجزها عن المشي بدليل ما في الرواية الأخرى لأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية وإنها لا تطيق المشي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لغني عن مشي أختك ، فلتركب ولتهد بدنة } إلا أنه عمل بإطلاق الهدي من غير تعيين بدنة لقوة روايتها .

وإذا عرف أن إيجاب النسك بنذر المشي إلى بيت الله تعالى لتعارف إرادة ذلك عرف أنه مقيد بما إذا لم تكن له نية غيره ، فلو نوى به المشي إلى مسجد المدينة المكرمة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد غيرهما لم يلزمه شيء . أما صحة نيته فلمطابقتها للفظه إذ المساجد كلها بيوت الله تعالى ، وإذا صحت لم يلزمه شيء لأن سائر المساجد يجوز الدخول فيها بلا إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام وقوله على المشي إلى مكة أو الكعبة فهو كقوله إلى بيت الله .

ولو قال علي المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام لا شيء عليه عند أبي حنيفة لعدم العرف في التزام النسك به ، وقالا : يلزمه النسك أخذا بالاحتياط لأنه لا يتوصل إلى الحرم ولا المسجد الحرام إلا بالإحرام فكان بذلك ملتزما للإحرام ، كذا في المبسوط .

وقوله أوجه إن لم يكن عرف فإن الالتزام للنسك بهذا اللفظ ليس مدلولا وضعيا بل عرفيا ، فكون التوصل في الخارج بالفعل إلى المسجد الحرام ليس إلا بالإحرام لا يوجب أن نفس اللفظ يفيده إذا تأملت قليلا . وأما كون التوصل إلى الحرم أيضا [ ص: 173 ] يستدعي الإحرام فليس بصحيح لأنه لو لم ينو الآفاقي إلا مكانا في الحرم لحاجة أو لا جاز له الوصول إليه بلا إحرام .

واتفقوا على أن لا لزوم لو قال إلى الصفا أو المروة أو مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، مع أنه لا يتوصل إليها بالفعل إلا بالإحرام شرعا ، فعرف أن المدار تعارف الإيجاب باللفظ الخاص ، وكذا لو قال مكان المشي غيره والباقي بحاله لا يلزم كقوله علي الذهاب إلى بيت الله أو الخروج أو السفر لا شيء عليه . بخلاف قوله لله علي أو علي إحرام حيث يلزم أحد النسكين وإن لم يتعارف الإيجاب به لإفادته التزام الإحرام وضعا ، وكذا إذا قال علي الركوب أو الإتيان لا شيء فيه ، وكذا الشد والهرولة ، وكذا لو قال علي المشي إلى أستار الكعبة أو بابها أو ميزابها أو عرفات أو مزدلفة أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم تعارف إيجاب النسك به ، وفي موضع إلى الحجر الأسود إلى مقام إبراهيم إلى الركن يلزمه ، وإلى أسطوانة البيت أو زمزم لم يلزمه ، وما قدمناه آنفا في مقام إبراهيم من عدم اللزوم مذكور في المبسوط .



ولو قال علي نصف حجة فعليه حجة عند محمد . وعن أبي يوسف فيه روايتان . وفي المبسوط : لو قال : إن فعلت كذا فأنا أحرم فإن نوى به العدة فلا شيء عليه أو الإيجاب لزمه إذا فعل ذلك حجة أو عمرة وإن لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شيء .

وفي الاستحسان يلزمه للعرف في إرادة التحقيق لمثله للحال كقول المؤذن والشاهد أشهد . ومثله ما ذكر فيه لو قال أنا أمشي إلى بيت الله إن نوى العدة لا شيء عليه ولكن يندب الوفاء بالوعد . وإن نوى النذر كان نذرا ، وكذا إذا لم يكن له نية فهو نذر للعادة ا هـ . وهذا يتوقف على ثبوت العرف في النذر بذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



وفي الخلاصة : لو قال أنا أحج لا حج عليه ، ولو قال إن دخلت فأنا أحج يلزمه عند الشرط كأنه علقه لأن تعارف الإيجاب به إنما هو في التعليق .



ولو قال إن عافاني الله تعالى من مرضي هذا فعلي حجة فبرئ لزمته ، فإذا حج جاز ذلك عن حجة الإسلام إلا أن ينوي غيرها ، لأن الغالب أن يريد به المريض الذي فرط في الفرض حتى مرض ذلك . وفي بعض الكتب فرق بين قوله فعلي حجة حيث يلزمه حجة سوى حجة الإسلام ، إلا أن يعني به ما وجب عليه وبين قوله فعلي أن أحج حيث يجزي عن حجة الإسلام إلا أن ينوي غيرها ، وما ذكرناه قبل في الخلاصة . ومنهم من حكى خلافا في مثله بينهما قال التزم حجة ثم حج من عامه حجة الإسلام سقط عنه ما التزم عند أبي يوسف خلافا لمحمد .



ومن نذر مائة حجة ونحوها اختلفوا فيه . هل تلزمه كلها فيلزمه الإيصاء بها أو يلزمه قدر ما عاش ؟ ففي الخلاصة نص على لزوم الكل . وذكر غيره عن أبي يوسف ومحمد الثاني واختاره السروجي وقبله شداد . ألحق بما لو قال علي أن أحج سنة عشرين فمات قبلها لا يلزمه شيء . وقد يعكر عليه ما نقل عن أبي يوسف : لو قال لله علي أن أحج وذلك في غير أشهر الحج فمات قبل أشهر الحج لزمته حجة . والحق أن لزوم الكل للفرق بين الالتزام ابتداء وإضافته .

ولو قال عشر حجج في هذه السنة لزمه عشر في عشر سنين ، ومن قال ثلاثين حجة ونحوها فأحج عنه ثلاثين رجلا في سنة جاز ، وكلما عاش الناذر بعد ذلك سنة بطلت منها حجة فعليه أن يحجها بنفسه لأنه قدر عليها بنفسه فظهر عدم صحة إحجاجها ، فإن لم يحج لزمه الإيصاء بقدر ما عاش من بعد الإحجاج .



ومن نذر أن يحج في سنة كذا فحج قبلها جاز عند أبي يوسف خلافا لمحمد ، وقول أبي يوسف أقيس بما قدمناه في نذر الصوم فارجع إليه



ولا بد من نية المنذور إن لم يكن قصده حجة الإسلام على ما ذكرنا في نذر المريض . وما في المنتقى : نذر أن يحج [ ص: 174 ] فحج ولا نية له فهو تطوع عن أبي يوسف ، وقال هشام : عن حجة الإسلام لا يستلزم خلافا ، إذ لا خلاف في تأدي فرض الحج بإطلاق النية عندنا ، وما عن أبي يوسف فيما إذا لم يكن عليه حجة الإسلام ، وما عن هشام فيما إذا كان عليه بالضرورة فقد اتفقا على أن لا يتصرف إلى المنذور بلا نية .



ومن قال إن كلمت فلانا فعلي حجة يوم أكلمه فكلمه لا يصير محرما بها بل لزمته يفعلها متى شاء ، كما لو قال علي حجة اليوم إنما تلزمه في ذمته يحرم بها متى شاء .



ولو قال لرجل علي حجة إن شئت فقال شئت لزمته ، وكذا إن شاء فلان فشاء ، وهل تقتصر مشيئة فلان على مجلس بلوغه ذلك الخبر ؟ اختلف فيه ، والأصح أن لا تقتصر ، بخلاف تعليق الطلاق بمشيئته لأن الطلاق يقبل التمليك إذا كان مملوكا للحالف فكان تمليكا من ذي المشيئة فاستدعى جوابه في المجلس لأن التمليكات تستدعي جوابا في المجلس وليس ما نحن فيه من ذلك فانتفى موجب الاقتصار عليه .



ومن قال : إن فعلت كذا فعلي أن أحج بفلان ، فإن نوى أحج وهو معي فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج به ، وإن نوى أن يحجه فعليه أن يحجه لأن الباء للإلصاق فقد ألصق فلانا بحجه . وهذا يحتمل معنيين أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطي فلانا ما يحج به من المال ، والتزام الأول بالنذر غير صحيح والثاني صحيح لأن الحج يؤدى بالمال عند اليأس من الأداء فكان هذا في حكم البدل وحكم البدل حكم الأصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالأصل ، فإذا نوى الوجه الأول عملت نيته لاحتمال كلامه ، ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه شيء وإنما عليه أن يحج بنفسه خاصة .

وإن نوى الثاني لزمه فإما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحجه مع نفسه ليحصل الوفاء بالنذر ، فإن لم يكن له نية أصلا فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج فلانا لأن لفظه في حق فلان يحتمل الوجوب وعدمه ، والمعين للوجوب فيه ليس إلا النية وقد فقدت . ولو كان قال فعلي أن أحج فلانا فهذا محكم والنذر به صحيح .



ومن نذر أن يطوف زحفا فطاف كذلك قيل لا يلزمه شيء ، كما لو نذر أن يصلي قاعدا ، وقيل عليه الإعادة ، فإن رجع قبل أن يعيد فعليه دم ، وهذا أوجه لأن الصلاة عهد شرعيتها قائما وقاعدا فعلا في الاختيار فالتزامها قاعدا التزام أحد صنفيها ، بخلاف الطواف النفل فالتزامه حالة القدرة على المشي كالتزام الصلاة إيماء حالة القدرة على الركوع والسجود .

وسنذكر خاتمة في نذر الهدي والمجاورة وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 175 ] تسليما




الخدمات العلمية