الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويجوز تزويج الكتابيات ) لقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } أي العفائف ، [ ص: 229 ] ولا فرق بين الكتابية الحرة والأمة على ما نبين من بعد إن شاء الله تعالى

التالي السابق


( قوله ويجوز تزويج الكتابيات ) والأولى أن لا يفعل ولا يأكل ذبيحتهم إلا للضرورة . وتكره الكتابية الحربية إجماعا لانفتاح [ ص: 229 ] باب الفتنة من إمكان التعلق المستدعي للمقام معها في دار الحرب ، وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر وعلى الرق بأن تسبى وهي حبلى فيولد رقيقا وإن كان مسلما . والكتابي من يؤمن بنبي ويقر بكتاب . والسامرية من اليهود . أما من آمن بزبور داود وصحف إبراهيم وشيث فهم أهل كتاب تحل مناكحتهم عندنا .

ثم قال في المستصفى : قالوا هذا يعني الحل إذا لم يعتقدوا المسيح إلها ، أما إذا اعتقدوه فلا . وفي مبسوط شيخ الإسلام : ويجب أن لا يأكلوا ذبائح أهل الكتاب إذا اعتقدوا أن المسيح إله وأن عزيرا إله . ولا يتزوجوا نساءهم . وقيل عليه الفتوى ، ولكن بالنظر إلى الدلائل ينبغي أن يجوز الأكل والتزوج ا هـ وهو موافق لما في رضاع مبسوط شمس الأئمة في الذبيحة قال : ذبيحة النصراني حلال مطلقا سواء قال بثالث ثلاثة أو لا وموافق لإطلاق الكتاب هنا . والدليل وهو قوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فسره بالعفائف احترازا عن تفسير ابن عمر بالمسلمات ، ولذلك امتنع ابن عمر رضي الله عنه من تزوج الكتابية مطلقا لاندراجها في المشركة ، قال تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى أن قال { سبحانه عما يشركون } قلنا : وقد قيل إن القائل بذلك طائفتان من اليهود والنصارى انقرضوا لا كلهم ، ويهود ديارنا يصرحون بالتنزيه عن ذلك والتوحيد .

وأما النصارى فلم أر إلا من يصرح بالابنية قبحهم الله ، لكن هذا يوجب نصرة المذهب المفصل في أهل الكتاب ، فأما من أطلق حلهم فيقول مطلق لفظ المشرك إذا ذكر في لسان الشارع فلا ينصرف إلى أهل الكتاب وإن صح لغة في طائفة بل وطوائف ، وأطلق لفظ الفعل : أعني يشركون على فعلهم ، كما أن من راءى بعمله من المسلمين فلم يعمل إلا لأجل زيد يصح في حقه أنه مشرك لغة ، ولا يتبادر عند إطلاق الشارع لفظ المشرك إرادته لما عهد من إرادته به من عبد مع الله غيره ممن لا يدعي اتباع نبي ولا كتاب ، ولذلك عطفهم عليه في قوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } ونصص على حلهم لقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي العفائف منهن . وتفسير المحصنات بالمسلمات يفيد أن المعنى ، أحل لكم المسلمات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، فإن كن قد انقرضن فلا فائدة ، إذ لا يتصور الخطاب بحل الأموات للمخاطبين الأحياء ، وإن كن أحياء ودخلن في دين سيدنا ونبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحل حينئذ معلوم من حكم المسلمات المعلوم بالضرورة من الدين ، بل ويدخل في المحصنات المعطوف عليه وهو قوله تعالى { والمحصنات من المؤمنات } ثم يصير المعنى فيه والمسلمات من المؤمنات وهو بعيد في عرف استعمالهم بخلاف تفسيره بالعفائف .

ثم المراد من ذكره حث الإنسان على التخير لنطفته ; ألا ترى أن العفة ليست شرطا في المؤمنات اتفاقا وإن لم يدخلن فهو عين الدليل حيث أبيح نكاح الكتابيات الباقيات على ملتهن ، ولو سلم فهي منسوخة ، أعني { ولا تنكحوا المشركات } نسخت في حق أهل الكتاب المثلثين وغيرهم بآية المائدة وبقي من سواهم تحت المنع ، ذكره جماعة من أهل التفسير لأن سورة المائدة كلها لم ينسخ منها شيء قط ، على أن تفسير المحصنات [ ص: 230 ] بالمسلمات ليس من اللغة بل هو تفسير إرادة لا لغة . ويدل على الحل تزوج بعض الصحابة منهم وخطبة بعضهم ، فمن المتزوجين حذيفة وطلحة وكعب بن مالك وغضب عمر فقالوا نطلق يا أمير المؤمنين ، وإنما كان غضبه لخلطة الكافرة بالمؤمن وخوف الفتنة على الولد لأنه في صغره ألزم لأمه ، ومثله قول مالك تصير تشرب الخمر وهو يقبل ويضاجع لا لعدم الحل ; ألا ترى إلى قولهم نطلق يا أمير المؤمنين ولم ينكر عليهم ذلك هو ولا غيره ، ولو لم يصح لم يتصور طلاق حقيقة ولا وقف إلى زمنه .

وخطب المغيرة بن شعبة هندا بنت النعمان بن المنذر وكانت تنصرت وديرها باق إلى اليوم بظاهر الكوفة وكانت قد عميت فأبت وقالت : أي رغبة لشيخ أعور في عجوز عمياء ؟ ولكن أردت أن تفتخر بنكاحي فتقول تزوجت بنت النعمان بن المنذر ، فقال : صدقت ، وأنشأ يقول :

أدركت ما منيت نفسي خاليا لله درك يا ابنة النعمان     فلقد رددت على المغيرة ذهنه
إن الملوك ذكية الأذهان

وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويسألها عن حالها ، فقالت في أبيات :

فبينما نسوس الناس والأمر أمرنا     إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها     تقلب تارات بنا وتصرف

قولها نتنصف : أي نستخدم ، والمنصف الخادم ، فإذا كان الأمر على ما قررناه فلا جرم أن ذهب عامة المفسرين إلى تفسير المحصنات بالعفائف ، ثم ليست العفة شرطا بل هو للعادة أو لندب أن لا يتزوجوا غيرهن كما أشرنا إليه آنفا .

والأئمة الأربعة على حل الكتابية الحرة ، وأما الأمة الكتابية فكذلك عندنا وسيأتي الخلاف فيها




الخدمات العلمية