الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق ) ; لأن النهي عنه لمعنى في غيره وهو ما ذكرناه فلا ينعدم مشروعيته ( ويستحب له أن يراجعها ) { لقوله [ ص: 481 ] عليه الصلاة والسلام لعمر مر ابنك فليراجعها } وقد طلقها في حالة الحيض . وهذا يفيد الوقوع والحث على الرجعة ثم الاستحباب قول بعض المشايخ . والأصح أنه واجب عملا بحقيقة الأمر ورفعا للمعصية بالقدر الممكن برفع أثره وهو العدة ودفعا لضرر تطويل العدة . قال ( فإذا طهرت وحاضت ثم طهرت ) ، فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها . قال : وهكذا ذكر في الأصل . وذكر الطحاوي أنه طلقها في الطهر الذي [ ص: 482 ] يلي الحيضة الأولى . قال أبو الحسن الكرخي ( ما ذكره قول أبي حنيفة ، وما ذكر في الأصل قولهما ) ووجه المذكور في الأصل أن السنة أن يفصل بين كل طلاقين بحيضة والفاصل هاهنا بعض الحيضة فتكمل بالثانية ولا تتجزأ فتتكامل . وجه القول الآخر أن أثر الطلاق قد انعدم بالمراجعة فصار كأنه لم يطلقها في الحيض فيسن تطليقها في الطهر الذي يليه .

التالي السابق


( قوله وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق ) خلافا لمن قدمنا النقل عنهم من الإمامية ، ونقل أيضا عن إسماعيل بن علية من المحدثين ، وهذا ( لأن النهي عنه لمعنى في غيره ) يعني أن النهي الثابت ضمن الأمر : أي قوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } وهو المراد بالأمر في { قوله صلى الله عليه وسلم ما هكذا أمرك الله } وقوله وهو ما ذكرنا : أي من تحريم تطويل العدة ثم هو بهذا الإيقاع عاص بإجماع الفقهاء ( ويستحب له أن يراجعها لقوله [ ص: 481 ] صلى الله عليه وسلم لعمر في حديث ابن عمر في الصحيحين { مر ابنك فليراجعها } حين طلقها في حالة الحيض ، وهذا يفيد الوقوع ) فيندفع به قول نافي الوقوع ( والحث على الرجعة والاستحباب المذكور إنما هو قول بعض المشايخ ) وكأنه عن قول محمد رحمه الله في الأصل ، وينبغي له أن يراجعها فإنه لا يستعمل في الوجوب ( والأصح أنه واجب ) كما ذكر المصنف ( عملا بحقيقة الأمر ) فإن حقيقته أوجد الصيغة الطالبة على وجه الحتم . واعلم أن قول الشافعية إن لفظ الأمر الذي مادته أمر مشترك بين الصيغة النادبة والموجبة حتى يصدق الندب مأمور به حقيقة ، فعلى هذا لا يلزم الوجوب إذ لا يلزم من قوله مر أوجد الصيغة الطالبة مجردة من القرائن بل يتحصل ذلك وغيره ، فإذا لم يتعين يثبت كونا مطلوبا في الجملة وهو لا يستلزم الوجوب ، ولذا قال الشافعي رحمه الله وكذا أحمد رحمه الله بالاستحباب ، وأما عندنا فمسمى الأمر الصيغة الموجبة ، كما أن الصيغة حقيقة في الوجوب فيلزم الوجوب منها ، وإن كانت صادرة عن عمر رضي الله عنه لا النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه نائب عنه فيها فهو كالمبلغ للصيغة ، فاشتمل قوله مر ابنك على وجوبين : صريح وهو الوجوب على عمر رضي الله عنه أن يأمر . وضمني وهو ما يتعلق بابنه عند توجيه الصيغة إليه .

والقائلون بالاستحباب هاهنا إنما بنوه على أن المعصية وقعت فتعذر ارتفاعها فبقي مجرد التشبيه بعدم مباشرتها . والجواب أن ذلك لا يصلح صارفا للصيغة عن الوجوب لجواز إيجاب رفع أثرها وهو العدة وتطويلها ، إذ بقاء الأمر بقاء ما هو أثره من وجه فلا تترك الحقيقة . قيل عليه ما حاصله أن هذا يصلح بحثا يوجب الوجوب ، لكن لا يفيد أن ما ذكر القدوري من الاستحباب قول بعض المشايخ مع أن محمدا في الأصل إنما قال لفظا يدل على الاستحباب ، ومرجع هذا الكلام إلى إنكار نقل الوجوب عن المشايخ صريحا بل ذلك بحث ، فإذا تحقق النقل اندفع . وقوله والأصح كذا في عادة المصنفين نقل المرجح في المذهب لا ترجيح مذهب آخر خارج عن المذهب . وتذكير ضمير أثره مع أنه للمعصية إما لتأويلها بالعصيان أو هو للطلاق في الحيض ( قوله وإذا طهرت وحاضت ثم طهرت فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها ) هذا لفظ القدوري ، وهكذا [ ص: 482 ] ذكر في الأصل . ولفظ محمد فيه : فإذا طهرت في حيضة أخرى راجعها . وذكر الطحاوي أن له أن يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها وراجعها فيها . وقال الشيخ أبو الحسن الكرخي : ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة ، وما ذكره في الأصل قولهما ، والظاهر أن ما في الأصل قول الكل ; لأنه موضوع لإثبات مذهب أبي حنيفة إلا أن يحكي الخلاف ولم يحك خلافا فيه ، فلذا قال في الكافي : إنه ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ، وبه قال الشافعي في المشهور ومالك وأحمد ، وما ذكر الطحاوي رواية عن أبي حنيفة وهو وجه للشافعية .

( وجه المذكور في الأصل ) وهو ظاهر المذهب لأبي حنيفة من السنة ما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر { مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فيطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل } وفي لفظ { حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها } ووجه ما ذكر الطحاوي رواية سالم في حديث ابن عمر { مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا } رواه مسلم وأصحاب السنن ، والأولى أولى ; لأنها أكثر تفسيرا بالنسبة إلى هذه الرواية وأقوى صحة . وظهر من لفظ الحديث حيث قال { يمسكها حتى تطهر } أن استحباب الرجعة أو إيجابها مقيد بذلك الحيض الذي أوقع فيه وهو المفهوم من كلام الأصحاب إذا تؤمل ، فعلى هذا إذا لم يفعل حتى طهرت تقررت المعصية .

وأما الوجه من جهة المعنى فوجه الظاهر المذكور في الأصل أن السنة أن يفصل بين كل تطليقتين بحيضة والفاصل هنا بعض الحيضة فتكمل بالحيضة الثانية ولا تتجزأ : أي ليس لجزئها على حدته حكم في الشرع ، والأولى أن يقول : ولا يمكن أن يكون بعض حيضتين حيضة فوجب تكاملها ، إذ لا يتصور حيضة إلا الثانية فلغا بعض الأولى . ووجه ما ذكره الطحاوي أن أثر الطلاق انعدم بالمراجعة فصار كأنه لم يطلقها في هذه الحيضة فيسن تطليقها في الطهر الذي يليها ، وعلى هذه الرواية يتفرع ما عن أبي حنيفة أنه إذا إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه ثم راجعها لا يكره أن يطلقها للثانية في ذلك ، ولو راجعها بعد الثانية لا يكره إيقاع الثالثة ، وعلى هذا فرع ما لو أخذ يدها بشهوة ثم قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة تقع الثلاث للسنة في الحال متتابعة ; لأنه يصير مراجعا بالمس بشهوة فيكون الوقت وقت طلاق السنة فيقع الثاني ، وكذا الثالث ، وعلى ظاهر الرواية وهو قولهما لا يقع إلا الأولى ثم في أول كل طهر بعد حيضة تقع أخرى ، فما ذكر في المنظومة ومجمع البحرين من نسبة ذلك إلى أبي حنيفة إنما هو على رواية الطحاوي لا على ظاهر مذهبه . هذا إذا وقعت الرجعة [ ص: 483 ] بالقول أو بالمس ، أما إذا وقعت بالجماع ولم تحبل فليس له أن يطلقها أخرى في هذا الطهر بالإجماع ; لأنه طهر جامعها فيه وإن حبلت ، فعند أبي يوسف ليس له أن يطلقها أخرى حتى يمضي من وقت الطلاق شهر ، وعند أبي حنيفة ومحمد وزفر له أن يطلقها ; لأن العدة الأولى سقطت والطلاق عقيب الجماع في الطهر إنما لا يحل لاشتباه أمر العدة عليها وذلك لا يوجد إذا حبلت وظهر الحبل ، هذا في تخلل الرجعة . فأما لو تخلل النكاح بأن كان الأول بائنا ; فقيل لا يكره الطلاق الثاني اتفاقا ، وقيل في تخلل الرجعة ليس له أن يطلقها اتفاقا . والأوجه أنه على اختلاف الرواية عنه .




الخدمات العلمية