الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وطلاق السكران واقع ) واختيار الكرخي والطحاوي أنه لا يقع ، وهو أحد قولي الشافعي ; لأن صحة القصد بالعقل وهو زائل العقل فصار كزواله بالبنج والدواء . [ ص: 490 ] ولنا أنه زال ( بسبب هو معصية فجعل باقيا حكما زجرا له ، حتى لو شرب فصدع وزال عقله بالصداع نقول إنه لا يقع طلاقه ) .

التالي السابق


( قوله وطلاق السكران واقع ) وكذا عتاقه وخلعه ، وهو من لا يعرف الرجل من المرأة ولا السماء من الأرض ، ولو كان معه من العقل ما يقوم به التكليف فهو كالصاحي . وما في بعض نسخ المختصر من قوله يقع الطلاق إذا قال نويت به الطلاق : يعني المكره والسكران فليس مذهبا لأصحابنا ; لأنه إذا قال نويت به أو ذكر كناية من الكنايات [ ص: 490 ] مثل أنت حرة فيجب أن يصدق فيقع بالإجماع . وفي شرح بكر : السكر الذي يصح به التصرفات أن يصير بحال بحيث يحسن ما يستقبحه الناس أو يستقبح ما يستحسنه الناس لكنه يعرف الرجل من المرأة . وفي المسألة خلاف عال بين التابعين ومن بعدهم . فقال بوقوعه من التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن سيرين ومجاهد وبه قال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي في الأصح وأحمد في رواية ، وقال بعدم وقوعه القاسم بن محمد وطاوس وربيعة بن عبد الرحمن والليث وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وزفر ، وقد ذكرناه عن عثمان رضي الله عنه ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مختار الكرخي والطحاوي ومحمد بن سلمة من مشايخنا .

ووجهه أن أقل ما يصح التصرف معه وإن كان حكمه مما يتعلق بمجرد لفظه القصد الصحيح أو مظنته وليس له ذلك ، وهو أسوأ حالا من النائم ; لأنه إذا أوقظ يستيقظ ، بخلاف السكران ، وصار كزواله بالبنج والدواء وهو الأفيون ، وكون زوال عقله بسبب هو معصية لا أثر له وإلا صحت ردته ولا تصح .

قلنا لما خاطبه الشرع في حال سكره بالأمر والنهي بحكم فرعي عرفنا أنه اعتبره كقائم العقل تشديدا عليه في الأحكام الفرعية ، وعقلنا أن ذلك يناسب كونه تسبب في زوال عقله بسبب محظور وهو مختار فيه فأدرنا عليه واعتبرنا أقواله ، وعلى هذا اتفق فتاوى مشايخ المذهبين من الشافعية والحنفية بوقوع طلاق من غاب عقله بأكل الحشيش وهو المسمى بورق القنب لفتواهم بحرمته بعد أن اختلفوا فيها ، فأفتى المزني بحرمتها ، وأفتى أسد بن عمرو بحلها ; لأن المتقدمين لم يتكلموا فيها بشيء لعدم ظهور شأنها فيهم ، فلما ظهر من أمرها من الفساد كثيرا وفشا عاد مشايخ [ ص: 491 ] المذهبين إلى تحريمها وأفتوا بوقوع الطلاق ممن زال عقله بها ، وهذا الوجه من الجانبين يفيد أن الخلاف في صحة تصرفات السكران بالمعنى الأول وهو من لا عقل له يميز به الرجل من المرأة إلى آخره ، وبه يبطل قول من ادعى أن الخلاف إنما هو فيه بمعنى عكس الاستحسان والاستقباح مع تمييزه الرجل من المرأة ، والعجب ما صرح به في بعض العبارات من أن معه من العقل ما يقوم به التكليف ، إذ لا شك أن على هذا التقدير لا يتجه لأحد أن يقول : لا يصح تصرفاته ، أما ذلك الخطاب فقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } .

لأنه إن كان خطابا له حال سكره فنص ، وإن كان قبل سكره يستلزم أن يكون مخاطبا في حال سكره ، إذ لا يقال إذا جننت فلا تفعل كذا ، وبدلالات النصوص والإجماع ، فإنه لما ألحق بالصاحي فيما لا يثبت مع الشبهة وهو الحدود والقصاص حتى حد وقتل إذا قذف وقتل فلأن يلحق به فيما يثبت كالطلاق والعتاق أولى ، وإنما لم يعتبر إقراره بما يوجب الحد ; لأن وهو كونه لا يثبت على شيء يوجبه راجعا عما أقر به عقيبه ، وعدم صحة ردته ; لأن صريح النص ما اعتبر عقله باقيا إلا فيما هو من فروع الدين ، فلو أثبتناه في أصل الدين كان بالقياس ، ولا يلزم من التشديد عليه فيما لا يوجب إكفاره التشديد فيما يوجبه ; ولأن الإكفار ، والحالة هذه إنما يكون احتياطا ، ولا يحتاط في الإكفار بل يحتاط في عدمه ; ولأن ركنها الاعتقاد وهو منتف . لا يقال : يلزم عدم إكفار الهازل ; لأنه أيضا لا يعتقد ما قاله من الكفر هزلا والواقع إكفاره ; لأنا نقول : إكفاره بالاستخفاف بالدين والاستخفاف بالدين كفر وهو منتف في السكران ; لأن زائل العقل لا يوصف بأنه مستخف بشيء ، وفي جمل الفقه ; لأن إبقاء عقله للزجر والحاجة إلى الزجر فيما يغلب وجوده والردة لا يغلب وجودها ; ولأن جهة زوال العقل تقتضي بقاء الإسلام وجهة بقائه زواله فترجح جهة البقاء ; لأن الإسلام يعلو ولا يعلى ، وعدم الوقوع بالبنج والأفيون لعدم المعصية فإنه يكون للتداوي غالبا فلا يكون زوال العقل بسبب هو معصية حتى لو لم يكن للتداوي بل للهو وإدخال الآفة قصدا ينبغي أن نقول يقع .

فإن عبد العزيز الترمذي قال : سألت أبا حنيفة وسفيان عن رجل شرب البنج فارتفع إلى رأسه فطلق امرأته قالا : إن كان حين شرب يعلم أنه ما هو تطلق امرأته ، وإن لم يعلم لم تطلق معلوم أن الضرورة مبيحة ، فكان محمل هذا ما قلنا ، وعن ذلك قلنا : إذا شرب الخمر فصدع فزال عقله بالصداع فطلق لا يقع ، والحكم لا يضاف إلى علة العلة كالشرب إلا عند عدم صلاحية العلة : أعني الصداع للقطع بأن أثرها لا يصل إلى المعلول الأخير ، ولو تنزلنا فالشرب ليس موضوعا للصداع بل يثبت الصداع اتفاقا عند استعداد الطبيعة له في ذلك الوقت فصار الشرب الذي وجد عنه الصداع الذي عنه زوال العقل كسفر المعصية لما لم يكن موضوعا للمعصية لم يوجب التشديد بل يمنع الترخص فلم يضف زوال العقل إليه ليثبت التشديد بخلاف الشرب الذي لم يحدث عنه صداع مزيل للعقل بل زال به حيث تعلق به التشديد لإضافة زوال العقل إليه وهو المعصية .

وعلى هذا لو شربها مكرها أو لإساغة لقمة ثم سكر لا يقع عند الأئمة الثلاثة ، وبه قال بعض مشايخنا وفخر الإسلام وكثير منهم على أنه يقع ; لأن عقله زال عند كمال التلذذ وعند ذلك لم يبق مكرها ، والأول أحسن ; لأن موجب الوقوع عند زوال العقل ليس إلا التسبب في زواله بسبب محظور وهو منتف . والحاصل أن السكر بسبب مباح كمن أكره على شرب الخمر والأشربة الأربعة المحرمة أو اضطر لا يقع طلاقه وعتاقه ، ومن سكر منها مختارا [ ص: 492 ] اعتبرت عباراته .

وأما من شرب من الأشربة المتخذة من الحبوب والعسل فسكر وطلق لا يقع عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد ، ويفتى بقول محمد ; لأن السكر من كل شراب محرم




الخدمات العلمية