الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 257 ] وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية . وقال الشافعي رحمه الله يثبت لكل واحد منهما خيار المجلس لقوله عليه الصلاة والسلام { المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا } ولنا أن في الفسخ إبطال حق الآخر فلا يجوز . والحديث محمول على خيار القبول . [ ص: 258 ] وفيه إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه ، [ ص: 259 ] والتفرق فيه تفرق الأقوال .

التالي السابق


( قوله وإذا حصل الإيجاب والقبول لزم البيع ولا خيار لواحد منهما إلا من عيب أو عدم رؤية ) وهو قول مالك رحمه الله ( وقال الشافعي ) وأحمد رحمهما الله ( لهما خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } ) أو يكون البيع خيارا ، رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . وروى البخاري أيضا أن [ ص: 258 ] ابن عمر رضي الله عنه قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه اختر } وروى البخاري أيضا من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه ، عنه عليه الصلاة والسلام { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } ، ولنا السمع والقياس أما السمع فقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وهذا عقد قبل التخيير وقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وبعد الإيجاب والقبول تصدق تجارة عن تراض غير متوقف على التخيير ، فقد أباح تعالى أكل المشتري قبل التخيير وقوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } أمر بالتوثق بالشهادة حتى لا يقع التجاحد للبيع ، والبيع يصدق قبل الخيار بعد الإيجاب والقبول ، فلو ثبت الخيار وعدم اللزوم قبله كان إبطالا لهذه النصوص ، ولا مخلص له من هذا إلا أن يمنع تمام العقد قبل الخيار ويقول العقد الملزم يعرف شرعا ، وقد اعتبر الشرع في كونه ملزما اختيار الرضا بعد الإيجاب والقبول بالأحاديث الصحيحة ، وكذا لا تتم التجارة عن التراضي إلا به شرعا ، وإنما أباح الأكل بعد الاختيار لاعتباره في التجارة عن تراض . وأما حديث حبان بن منقذ رضي الله عنه حيث قال له : { إذا ابتعت فقل لا خلابة ولي الخيار } فقد أثبت له اشتراط خيار آخر وهو ثلاثة أيام ، فإنما يدل على أن خيار ثلاثة أيام لا يثبت إلا بالاشتراط في صلب العقد لا أصل الخيار ، ولا مخلص إلا بتسليم إمكان اعتبار الخيار في لزوم العقد وادعاء أنه غير لازم من الحديث المذكور كما فعل المصنف بناء على أن حقيقة المتبايعين المتشاغلان بأمر البيع لا من تم البيع بينهما وانقضى ; لأنه مجازه ، والمتشاغلان : يعني المساومين يصدق عند إيجاب أحدهما قبل قبول الآخر فيكون ذلك هو المراد ، وهذا هو خيار القبول ، وهذا حمل إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى .

لا يقال : هذا أيضا مجاز ; لأن قبل قبول الآخر الثابت بائع واحد لا متبايعان ; لأنا نقول : هذا من المواضع التي تصدق الحقيقة فيها بجزء من معنى اللفظ كالمخبر لا حقيقة له إلا حال التكلم بالخبر ، والخبر لا يقوم به دفعة لتصدق حقيقته حال قيام المعنى بل على التعاقب في أجزائه ، فبالضرورة يصدق مخبرا حال النطق ببعض حروف الخبر ، وإلا لا يتحقق له حقيقة ، ولأنا نفهم من قول القائل زيد وعمرو هناك يتبايعان على وجه التبادر أنهما متشاغلان بأمر البيع متراوضان فيه فليكن هو المعنى الحقيقي ، والحمل على الحقيقي متعين فيكون الحديث دليل إثبات خيار القبول لنفي توهم أنهما إذا اتفقا على الثمن وتراضيا عليه ، ثم أوجب أحدهما البيع يلزم الآخر من غير أن يقبل ذلك أصلا للاتفاق والتراضي السابق في إلزامه بكلام أحدهما بعد .

قال المصنف رحمه الله تعالى ( أو ) هو ( يحتمله فيحمل عليه ) جمعا بين ما ذكرناه من الآيات حيث كان المتبادر إلى الفهم فيها تمام البيع والعقد والتجارة عن تراض بمجرد الإيجاب والقبول وعدم توقف الأسماء على أمر آخر . لا يقال : إن ما في خيار أحد المتبايعين وهو الثاني القابل لا خيارهما ; لأنه ممنوع ، بل الموجب أيضا له خيار أن يرجع قبل قبول الآخر وأن لا يرجع ، وعلى هذا فالتفرق الذي هو غاية قبول الخيار تفرق الأقوال ، وهو أن يقول الآخر بعد الإيجاب لا أشتري أو يرجع الموجب قبل القبول ، وإسناد التفرق إلى الناس مرادا به تفرق أقوالهم كثيرا في الشرع والعرف ، قال الله تعالى { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا [ ص: 259 ] من بعد ما جاءتهم البينة } { وقال صلى الله عليه وسلم افترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة } وحينئذ ; فيراد بأحدهما في قوله أو يقول أحدهما لصاحبه اختر الموجب بقوله بعد إيجابه للآخر اختر أتقبل أو لا ، والاتفاق على أنه ليس المراد أن بمجرد قوله اختر يلزم البيع بل حتى يختار البيع بعد قوله اختر فكذا في خيار القبول ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وأما القياس فعلى النكاح والخلع والعتق على مال والكتابة كل منها عقد معاوضة يتم بلا خيار المجلس بمجرد اللفظ الدال على الرضا فكذا البيع . وأما ما يقال تعلق حق كل من العاقدين ببدل الآخر فلا يجوز إبطاله فيرد منعه بأن ذلك بالشرع ، والشرع نفاه إلى غاية الخيار بالحديث ، فإنما يرجع الكلام فيه إلى ما ذكرناه من معنى المتبايعين . وأما ما قيل حديث التفرق رواه مالك ولم يعمل به ، فلو كان المراد به ذلك لعمل به فغاية في الضعف ، إذ ترك العمل به ليس حجة على مجتهد غيره بل مالك عنده محجوج به




الخدمات العلمية