الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 14 ] قال ( وكل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل [ ص: 15 ] أبدا ، وإن ترك الناس الكيل فيه مثل الحنطة والشعير والتمر والملح وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا ، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة ) لأن النص أقوى من العرف والأقوى لا يترك بالأدنى ( وما لم ينص عليه فهو محمول على عادات الناس ) لأنها دلالة .

وعن أبي يوسف أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك لمكان العادة فكانت هي المنظور إليها وقد تبدلت ، فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها [ ص: 16 ] متساويا وزنا ، أو الذهب بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما ، وإن تعارفوا ذلك لتوهم الفضل على ما هو المعيار فيه ، كما إذا باع مجازفة إلا أنه يجوز الإسلام في الحنطة ونحوها وزنا لوجود الإسلام في معلوم .

قال ( وكل ما ينسب إلى الرطل فهو وزني ) معناه ما يباع بالأواقي لأنها قدرت بطريق الوزن حتى يحتسب ما يباع بها وزنا ، بخلاف سائر المكاييل ، وإذا كان موزونا فلو بيع بمكيال لا يعرف وزنه بمكيال مثله لا يجوز لتوهم الفضل في الوزن بمنزلة المجازفة .

التالي السابق


( قوله وكل شيء نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم التفاضل فيه كيلا فهو مكيل [ ص: 15 ] أبدا ، وإن ترك الناس الكيل فيه ) حتى لا يجوز بيعه وزنا وإن تماثلا في الوزن إلا إن علم أنهما متماثلان في الكيل أيضا ( وكل ما نص على تحريم التفاضل فيه وزنا فهو موزون أبدا مثل الذهب والفضة لأن النص أقوى من العرف ) لأن العرف جاز أن يكون على باطل كتعارف أهل زماننا في إخراج الشموع والسرج إلى المقابر ليالي العيد ، والنص بعد ثبوته لا يحتمل أن يكون على باطل ، ولأن حجية العرف على الذين تعارفوه والتزموه فقط ، والنص حجة على الكل فهو أقوى ، ولأن العرف إنما صار حجة بالنص وهو قوله صلى الله عليه وسلم { ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن } وفي المجتبى : ثبت بهذا أن ما يعتاده أهل خوارزم من بيع الحنطة الربيعية بالخريفية موزونا متساويا لا يجوز ( وما لم ينص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمول على عادات الناس ) في الأسواق ( لأنها ) أي العادة ( دلالة ) على الجواز فيما وقعت عليه لقوله صلى الله عليه وسلم { ما رآه المسلمون حسنا } الحديث ، ومن ذلك دخول الحمام وشرب ماء السقاء لأن العرف بمنزلة الإجماع عند عدم النص ، وزاد الشافعي أن ما كان مستخرجا من أصل فهو ملحق به لأنه تبع له كالدقيق ( وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يعتبر العرف على خلاف المنصوص عليه أيضا لأن النص على ذلك ) الكيل في الشيء أو الوزن فيه ما كان في ذاك الوقت إلا لأن العادة إذ ذاك بذلك ( وقد تبدلت ) فتبدل الحكم .

وأجيب بأن تقريره صلى الله عليه وسلم إياهم على ما تعارفوا من ذلك بمنزلة النص منه عليه فلا يتغير بالعرف لأن العرف لا يعارض النص كما ذكرناه آنفا ، كذا وجه .

ولا يخفى أن هذا لا يلزم أبا يوسف لأن قصاراه أنه كنصه على ذلك وهو يقول : يصار إلى العرف الطارئ بعد النص بناء على أن تغير العادة يستلزم تغير النص ، حتى لو كان صلى الله عليه وسلم حيا لنص عليه على وزان ما ذكرنا في سنية التراويح ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليه بل فعله مرة ثم ترك ، لكن لما بين عذر خشية الافتراض على معنى لولاه لواظب حكم بالسنية مع عدم المواظبة ، لأنا أمنا من بعده النسخ فحكمنا بالسنية ، فكذا هذا لو تغيرت تلك العادة التي كان النص باعتبارها إلى عادة أخرى تغير النص ، والله أعلم ( فعلى هذا لو باع الحنطة بجنسها [ ص: 16 ] متساويا وزنا والذهب بجنسه متماثلا كيلا لا يجوز عندهما ) أي عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ( وإن تعارفوا ذلك لتوهم الفضل في أحدهما ) وقوله ( إلا أنه إلى آخره ) استثناء على قولهما من قوله فهو مكيل أبدا : أي يلزم أن يتصرف فيه بالكيل أبدا فهو بعمومه يمنع السلم في الحنطة ونحوها وزنا فاستثناه وقال : يجوز ذلك لأن المصحح فيه كون المسلم فيه معلوما على وجه لا يكون بينهما فيه نزاع وذلك يتحقق باتفاقهما على الوزن ، بخلاف بيعها بجنسها فإن المصحح هناك التماثل بالمسوى الشرعي المعين ، فما لم يكن ذلك المسوى التحق بالجزاف فلا يجوز ، وهذا مختار الطحاوي .

وروى الحسن عن أصحابنا رحمهم الله أنه لا يجوز لأنها مكيل بالنص .

والحاصل أن فيه روايتين . والفتوى على الأول وقد عرفت الفرق . وقوله في الكافي : الفتوى على عادة الناس يقتضي أنهم لو اعتادوا أن يسلموا فيها كيلا فأسلم وزنا لا يجوز ولا ينبغي ذلك ، بل إذا اتفقا على معرف كيل أو وزن ينبغي أن يجوز لوجود المصحح وانتفاء المانع . وفي جمع التفاريق روي عنهما جواز السلم وزنا في المكيلات وكذا عن أبي يوسف في الموزونات كيلا أنه يجوز ، وكذا أطلقه الطحاوي فقال : لا بأس بالسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا ، هذا الذي ذكره فرق بين الكيلي نصا والوزني عادة وقلبه ، فأما الوزن نصا وعادة كما في إناءين من جنس واحد حديد أو ذهب أو فضة أحدهما أكثر وزنا من الآخر ; ففي الإناءين من غير النقدين يجوز بيع أحدهما بالآخر إذا كانت العادة أن لا يباعا وزنا لأنه عددي متقارب ، وفي أواني الذهب والفضة لا يجوز .

فإنه يجري فيهما ربا الفضل ، وإن كانت لا تباع وزنا في العادة فإن الوزن في الذهب والفضة منصوص عليه فلا يتغير للصنعة بالعادة ، وأما في الحديد ونحوه فالوزن فيه ثابت بالعرف فيخرج بالصنعة أيضا من أن يكون موزونا بالعرف ( قوله وكل ما ينسب إلى الرطل فهو وزني ) هذا في التحقيق تفسير لبعض ألفاظ ربما ينسب إليها المبيع بلفظ [ ص: 17 ] يقدر ولم يشتهر فيها أنها اسم يرجع إلى الوزن كما اشتهر في المن والقنطار أو إلى الكيل كما في الصاع والمد فلا يدري أهذه الأسماء من قبيل الوزن فيجري حكم الوزن على المبيع أو المكيل فيجري عليه حكم الكيلي وذلك كاسم الرطل وهو بفتح الراء وكسرها والأوقية ، فأفاد أن المنسوب إليها من المبيعات وزني فيجري عليه ذلك ، فلو بيع ما ينسب إلى الرطل والأوقية كيلا بكيل متساويين يعرف قدرهما كيلا ولا يعرف وزن ما يحلهما لا يجوز لاحتمال عدم تساويهما في الوزن فيكون بيع الجزاف . ولو تبايعا كيلا متفاضلا وهما متساويا الوزن صح ، وليس قولنا لاحتمال عدم تساويهما وزنا لإفادة أنه لو ظهر تساويهما وزنا يجوز ، فإنا قدمنا أن أموال الربا لو بيعت مجازفة ثم ظهر تساويهما لا يجوز خلافا لزفر ، وقول الشافعي كقولنا ، بل لإفادة أنه لو علم تساويهما فيما يجب نسبتهما إليه من الكيل والوزن كان جائزا .

ثم الرطل والأوقية مختلف فيها عرف الأمصار ، ويختلف في المصر الواحد أمر المبيعات ، فالرطل الآن بالإسكندرية وزن ثلاثمائة درهم واثنا عشر درهما بوزن كل عشرة سبعة مثاقيل ، وفي مصر مائة وأربعة وأربعون درهما ، وفي الشام أكثر من ذلك فهو أربعة أمثاله ، وفي حلب أكثر من ذلك ، وتفسير أبي عبيد الرطل بأنه مائة وثمانية وعشرون تفسير للرطل العراقي الذي قدر به الفقهاء كيل صدقة الفطر وغيرها من الكفارات ، ثم في الإسكندرية الرطل المذكور لغير الكتان ، ورطل الكتان مائتا درهم بوزن سبعة ، وكل رطل في عرف ديار مصر والشام وأقطاره اثنا عشر أوقية ، وربما كان في غيرها عشرين أوقية ، وحينئذ لا يشكل اختلاف كمية الأوقية باختلاف الرطل .

وفي زمنه صلى الله عليه وسلم كانت أربعين درهما ثم الأوقية مثلا اثنا عشر كما ذكرنا ، وفي نحو المسك والزعفران عشرة . والحاصل أن هذه الأسماء مع أسماء أخر توقيفية من جهة الاصطلاح تعرف بالاستكشاف والسؤال عنها فيعرف الحال . وقوله بمكيال لا يعرف وزنه إلى آخره عرف تقريره




الخدمات العلمية