الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 50 - 51 ] ( فصل في بيع الفضولي )

قال ( ومن باع ملك غيره بغير أمره فالمالك بالخيار ، إن شاء أجاز البيع ; وإن شاء فسخ ) وقال الشافعي رحمه الله : لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية شرعية لأنها بالملك أو بإذن المالك وقد فقدا ، ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية . [ ص: 52 - 53 ] ولنا أنه تصرف تمليك وقد صدر من أهله في محله فوجب القول بانعقاده ، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره ، بل فيه نفعه حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثمن وغيره ، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء ، وفيه نفع المشتري فثبت للقدرة الشرعية تحصيلا لهذه الوجوه ، كيف وإن الإذن ثابت دلالة لأن العاقل يأذن في التصرف النافع ، [ ص: 54 ] قال ( وله الإجازة إذا كان المعقود عليه باقيا والمتعاقدان بحالهما ) لأن الإجازة تصرف في العقد فلا بد من قيامه وذلك بقيام العاقدين والمعقود عليه .

التالي السابق


( فصل في بيع الفضولي )

مناسبة هذا الفصل مع الاستحقاق ظاهرة ، لأن دعوى الاستحقاق تتضمن دعوى الفضولي على أحسن الوجوه ، لأنه يتضمن إما دعواه أن بائعك باع ملكي بغير أمري لغصبه أو فضوله . وأحسن المخارج الملتمسة فيه فضوله ، والفضول جمع فضل غلب في الاشتغال بما لا يعنيه وما لا ولاية فيه ، فقول بعض الجهلة لمن يأمر بالمعروف أنت فضولي يخشى عليه الكفر ( قوله ومن باع ملك غيره بغير إذنه فالمالك بالخيار ، إن شاء أجاز البيع ، وإن شاء فسخ ) وهو قول مالك وأحمد ( وقال الشافعي : لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية شرعية لأنها بالملك أو بإذن المالك وقد فقدا ، ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية ) وصار كبيع الآبق والطير في الهواء في عدم القدرة على التسليم ، وطلاق الصبي العاقل في عدم الولاية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام { لا تبع ما ليس عندك } .

قلنا : المراد البيع الذي تجري فيه المطالبة من الطرفين وهو النافذ ، أو المراد أن يبيعه ثم يشتريه فيسلمه بحكم [ ص: 52 ] ذلك العقد ، وذلك غير ممكن لأن الحادث يثبت مقصورا على الحال ، وحكم ذلك السبب ليس هذا ، بل أن يثبت بالإجازة من حين ذلك العقد ولهذا يستحق المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة . وسبب ذلك النهي يفيد هذا وهو قول حكيم { يا رسول الله إن الرجل يأتيني فيطلب مني سلعة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فأشتريها فأسلمها ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا تبع ما ليس عندك } .

وقال الكرخي : حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزي قال : حدثنا الحسن بن القزاز قال : حدثنا سفيان عن شبيب بن غرقدة سمعه من قومه عن عروة البارقي .

وحدثنا إبراهيم قال : حدثنا ميمون الخياط قال : حدثنا سفيان عن شبيب بن غرقدة : حدثنا الحي { عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به أضحية فاشترى شاتين ، فباع إحداهما بدينار وجاء بشاة ودينار ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم في بيعه بالبركة ، فكان لو اشترى ترابا ربح فيه } وروي { أنه صلى الله عليه وسلم دفع دينارا إلى حكيم بن حزام ليشتري به أضحية ، فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ، ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بذلك فقال : صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك في صفقتك ; فأما الشاة فضح بها ، وأما الدينار فتصدق به } وقولك لا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية ، إن أردت لا انعقاد على وجه النفاذ سلمناه ولا يضر ، وإن أردت لا انعقاد على وجه التوقف إلى أن يرى المالك مصلحة في الإجازة فيجيز فعله أو عدمها فيبطله ممنوع ، ولا دليل عليه بل الدليل دل على ثبوته وهو تحقق الحاجة والمصلحة لكل من العاقد والمالك والمشتري من غير ضرر ولا مانع شرعي فيدخل ثبوته في العمومات .

أما تحقق ما ذكرنا فإن المالك يكفي مؤنة طلب المشتري ووفور الثمن وقراره ونفاق سلعته وراحته منها ووصوله إلى البدل المطلوب له المحبوب والمشتري وصوله إلى حاجة نفسه ودفعها بالمبيع وارتفاع ألم فقدها إذا كان مهما له والعاقد يصون كلامه عن الإلغاء والإهدار بل وحصول الثواب له إذا نوى الخير لله تعالى من الإعانة على حصول الرفق لأخيه المسلم . ولما كان هذا التصرف خيرا لكل من جماعة عباد الله من غير ضرر كان الإذن في هذا العقد ثابتا دلالة ، إذ كل عاقل يأذن في التصرف النافع له بلا ضرر يشينه أصلا وبالعمومات فوجب اعتباره وصار كالوصية من المديون ، [ ص: 53 ] المستغرق وبأكثر من الثلث إذا كان المعقود عليه باقيا حيث يتوقف على إجازة المستحق بالإجماع ، فهذا أصل لقياس صحيح .

لا يقال : فإذا ثبت الإذن دلالة ينبغي أن ينفذ العقد . لأنا نقول : الثابت دلالة ما لا ضرر فيه ، وذلك هو الانعقاد موقوفا على رأي المالك فثبت بهذا القدر .

فأما نفاذه بلا رأيه ففيه إضرار به ، إذ قد لا يريد بيعه فيثبت ، بخلاف بيع الطير في الهواء والسمك في الماء لا يجوز لعدم المحل ، فإن الطير ليس بمملوك أصلا قبله وما ليس بمملوك لأحد لا يكون محلا للبيع ، وبيع الآبق ينعقد فاسدا وهو عندنا مفيد للملك إذا اتصل به القبض وعدم توقف طلاق الصبي ولو بمال لحق الشرع فإنه أنزله كالمجنون فيما نحن فيه وإن كان عاقلا إذ صح توكيله بذلك من غيره ، وطلاق المرأة ضرر ظاهر فإن عقد النكاح شرع للتراحم والتعاون وانتظام المصالح فلذا لم يتوقف ذلك منه لا على إجازة وليه ولا على إجازته بعد البلوغ ، بخلاف ما لو اشترى أو زوج أمته فإن هذه التصرفات تتوقف على إجازة وليه أو إجازته بعد البلوغ . فإن قيل : يجب أن يلغو لعدم المقصود منه وهو الملك .

قلنا : لا يلزم من عدم ترتيبه في الحال عدمه مطلقا بل هو مرجو فلا يلزم عدمه ، وكون متعلق العقد مرجوا كاف في صحة التصرف . وعن هذا صح تعليق الطلاق والعتاق بالشرط ، وإلا فلا وقوع في الحال ولا يقطع بوقوعه فكان ينبغي أن يلغى ، لكن لما كان بحيث يرجى صح وانعقد سببا في الحال مضافا أو عند الشرط كقولنا هذا .

وقول المصنف ( تصرف تمليك ) من إضافة العام إلى الخاص كحركة الإعراب ، والإضافة في مثله بيانية : أي تصرف هو تمليك وحركة هي إعراب ، ولا حاجة إلى هذا القيد هنا لأن تصرفات الفضولي تتوقف عندنا إذا صدرت ، وللتصرف مجيز : أي من يقدر على الإجازة سواء كان تمليكا كالبيع والإجارة والهبة والتزويج والتزوج أو إسقاطا ، حتى لو طلق الرجل امرأة غيره أو أعتق عبده فأجاز طلقت وانعقد ، وكذا سائر الإسقاطات للديون وغيرها ، وكان الأحسن أن يقول تصرف شرعي ، وأما القياس على الفضولي بالشراء ففي شراء الفضولي تفصيل ذكره في شرح الطحاوي ، وطريقه الخلاف وهو أنه لو قال بع هذا لفلان فقال المالك بعت فقال الفضولي قبلت لأجله فهو على هذا الخلاف فلا يصح القياس ، أما إذا قال الفضولي اشتريت هذا لأجل فلان فقال بعت أو قال المالك ابتداء بعت منك هذا العبد لأجل فلان فقال اشتريت نفذ على الفضولي غير متوقف على إجازة فلان لأنه وجد نفاذا على المشتري فلا يتوقف لأنه أضيف إليه ظاهرا فلا حاجة إلى إيقافه إلى رضا الغير .

وقوله لأجل فلان [ ص: 54 ] يحتمل لأجل شفاعته أو رضاه ، بخلاف البيع لم يجد نفاذا ( قوله وله الإجازة ) أي للمالك ( إذا كان المعقود عليه باقيا ) وهو المبيع ( و ) كذا ( المتعاقدان ) وهما الفضولي والذي خاطبه فلا بد من بقاء أربعة : الثلاثة المذكورة ، والمالك حتى لو مات لا تصح إجازة الوراث كما سنذكر ، هذا فيما إذا كان الثمن دينا : أي مما لا يتعين وهذا ( لأن الإجازة تصرف في العقد فلا بد من قيام العقد ) الذي هو مورد هذا التصرف وقيامه ( بقيام العاقدين والمعقود عليه ) وإنما لم يذكر المالك لأنه ذكر أن الإجازة منه وهو فرع وجوده .

وفي الإيضاح . عقد الفضولي في حق وصف الجواز موقوف على الإجازة فأخذت الإجازة حكم الإنشاء ، ولا بد في الإنشاء من قيام الأربعة ، وبالتفصيل شرط بقاء المعقود عليه لأن الملك لم ينتقل فيه وإنما ينتقل بعد الإجازة ، ولا يمكن أن ينتقل بعد الهلاك والمشتري ليلزمه الثمن ، وبعد الموت لا يلزمه ما لم يكن لزمه حال أهليته والبائع لأنه يلزمه حقوق العقد بالإجازة ولا تلزم [ ص: 55 ] إلا حيا والمالك لأن الإجازة تكون منه لا من وارثه .




الخدمات العلمية