الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( كتاب الصرف ) [ ص: 133 ]

قال ( الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان ) سمي به للحاجة إلى النقل في بدليه من يد إلى يد .

والصرف هو النقل والرد لغة ، أو لأنه لا يطلب منه إلا الزيادة إذ لا ينتقع بعينه ، والصرف هو الزيادة لغة كذا قاله الخليل ومنه سميت العبادة النافلة صرفا

[ ص: 134 ] قال ( فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل وإن اختلفا في الجودة والصياغة ) لقوله عليه الصلاة والسلام { الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن يدا بيد والفضل ربا } الحديث . وقال عليه الصلاة والسلام { جيدها ورديئها سواء } وقد ذكرناه في البيوع . .

التالي السابق


( كتاب الصرف )

لما كان قيوده أكثر كان وجوده أقل فقدم ما هو أكثر وجودا . وأيضا لما كان عقدا على الأثمان والثمن في الجملة تبع لما هو المقصود من البيع أخر عن البيوع المتضمنة للمقاصد الأصلية : أعني المبيعات ، ومفهومه لغة وشرعا يذكره المصنف ، وشرطه التقابض للبدلين قبل الافتراق وإن اختلف الجنس ، ولهذا لم يصح فيه أجل ولا خيار شرط ; لأن خيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه على الرأيين منهم وذلك يخل بالقبض المشروط وهو القبض للذي يحصل به التعيين ، بخلاف خيار الرؤية ، والعيب لا يمنع الملك في المبيع فلا يمنع تمام القبض ، فلو افترقا وفي الصرف خيار عيب أو رؤية جاز إلا أنه لا يتصور في النقد وسائر الديون خيار رؤية ; لأن العقد ينعقد على مثلها لا عينها ، حتى لو باعه هذا الدينار بهذه الدراهم لصاحب الدينار أن يدفع غيره ، وكذا لصاحب الدراهم بخلاف الأواني والحلي .

ولو أسقطا في المجلس خيار الشرط والأجل عاد الصرف صحيحا خلافا لزفر ، وأوردب عليه كيف جاز أن يقال التقابض شرط الجواز وهو متأخر عن العقد فإنما هو حكمه .

والجواب أن المختار أنه ليس [ ص: 133 ] إلا شرط بقائه على الصحة ، فالإشكال على قول البعض القائلين : إنه الجواز . وأجابوا بأن تأخره ضرورة نفي إيجاب قبض ملك الغير فهو معتبر مقارنا أو متقدما شرعا وإن كان متأخرا صورة ، ولا يخفى أنه ينبغي أن يستغنى عن هذا التكلف بارتكاب القول الآخر .

وأما مفهومه شرعا فبيع ما من جنس الأثمان بعضها ببعض ، وهذا قول القدوري ( الصرف هو البيع إذا كان كل واحد من عوضيه من جنس الأثمان ) وإنما قال من جنس الأثمان ولم يقتصر على قوله بيع ثمن بثمن ليدخل بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنقد ، فإن المصوغ بسبب ما اتصل من الصنعة به لم يبق ثمنا صريحا ولهذا يتعين في العقد ومع بيعه صرف ، وإنما سمي اصطلاحا به لأن مفهومه اللغوي هو النقل ، ومنه في دعاء الاستخارة : " فاصرفه عني واصرفني عنه " ونقل كل من البدلين عن مالكه إلى الآخر بالفعل شرط جوازه فكان في المسمى معنى اللغة فسمي باسم ذلك المعنى المشروط فيه ( أو هو ) أي معناه اللغوي الزيادة ، وهذا العقد لا يقصد به إلا الزيادة دون الانتفاع بعين البدل الآخر في الغالب لأنه لا ينتفع بعينه ، بخلاف نحو الطعام والثوب والخمار ، والمراد أن قصد كل من المتعاقدين التجارة والربح فيه بالنقل وإلا خلا العقد عن الفائدة ، والزيادة تسمى صرفا وبه سميت العبادة النافلة صرفا في قوله صلى الله عليه وسلم { من انتمى إلى غير أبيه لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا } فذكر المصنف أن المراد بالصرف النافلة التي هي الزيادة ، والعدل الفرض الذي هو حق مستحق عليه ، ولا شك في مناسبة تسمية الفرض عدلا فقيل عليه قد فسر الزمخشري بغير هذا .

قال في الفائق : [ ص: 134 ] في ذكره صلى الله عليه وسلم لأمر المدينة { من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة ، لا يقبل منه صرف ولا عدل } الصرف : التوبة لأنه صرف النفس عن الفجور إلى البر . والعدل : الفدية من المعادلة والفداء يعادل نفسه ، والمراد من إحداث الحدث فعل ما يوجب الحد .

والجواب أن أهل اللغة اختلفوا في ذلك ، فقد ذكر في الجمهرة عن بعض أهل اللغة : الصرف الفريضة ، والعدل النافلة .

وفي الغريبين عن بعضهم : الصرف النافلة والعدل الفريضة كما ذكره المصنف ، ولا اعتراض مع أنه الأنسب .

واعلم أن الأموال تنقسم إلى ثمن كل حال وهي الدراهم والدنانير صحبها حرف الباء أو لا ، وسواء كان ما يقابلها من جنسها أو من غيره ، وإلى ما هو مبيع على كل حال وهو ما ليس من ذوات الأمثال من العروض كالثياب والحيوان ، وإلى ما هو ثمن من وجه مبيع من وجه وهو المكيل والموزون ، فإنها إذا عينت في العقد كانت مبيعة ; وإن لم تعين ، فإن صحبها حرف الباء وقابلها مبيع فهي ثمن ، وإن لم يصحبها حرف الباء ولم يقابلها ثمن فهي مبيعة ، وهذا لأن الثمن ما يثبت في الذمة دينا عند المقابلة .

قال الفراء في قوله تعالى { وشروه بثمن بخس } الثمن ما يثبت في الذمة دينا عند المقابلة والنقود لا تستحق بالعقد إلا دينا خلافا للأئمة الثلاثة فعندهم يتعين الذهب والفضة إذا عينت حتى لو هلكت الدراهم المعينة في البيع قبل القبض بطل البيع ولا يجوز استبدالها . هذا تقسيم المال باعتباره في نفسه ، وينقسم باعتبار الاصطلاح على الثمينة وهو في الأصل سلعة ، فإن كانت رائجة فهي ثمن لا تتعين بالتعيين ، وإن كانت كاسدة فهي سلعة كالفلوس .

( قوله فإن باع فضة بفضة أو ذهبا بذهب لا يجوز إلا مثلا بمثل ) يعني في العلم لا بحسب نفس الأمر فقط ( وإن اختلفا في الجودة والصياغة ) فيدخل الإناء بالإناء ، فلو باعاهما مجازفة ولم يعلما كميتهما وكانا في نفس الأمر متساويين لم يجز ، ولو وزنا في المجلس فظهرا متساويين يجوز ، وعند أبي حنيفة لا يجوز ، ولو وزنا بعد الافتراق لا يجوز ، وإن كانا متساويين خلافا لزفر . هو يقول : الشرط التساوي وقد ثبت ، واشتراط العلم به زيادة بلا دليل . قلنا : بل هو شرط بدليل وهو أن الموهوم في هذا العقد جعل كالمعلوم شرعا ، وما لم تعلم المساواة توهم الزيادة حاصل فيكون كثبوت حقيقة الزيادة ; ومقتضى هذا أن لا يجوز إذا وزن في المجلس فظهر متساويا أيضا ، لكن جاز في الاستحسان عند اتحاد المجلس كأن العقد أنشئ الآن ; لأن ساعاته كساعة واحدة . وأما عدم جواز بيع الحنطة بالحنطة وزنا معلوما فلعدم العلم بالمساواة كيلا ، إذ المساواة وزنا تستلزمه بالنسبة إلى الكيل ، والمعتبر فيما كان مكيلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم التقدير بالكيل على ما سلف .

وعن هذا إذا اقتسما مكيلا موازنة لا يجوز لأن القسمة كالبيع . واستدل المصنف على وجوب المساواة ( بقوله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالذهب مثلا بمثل } الحديث ) وقد تقدم ، وتقدم وجه انتصابه أنه بالعامل المقدر : أي بيعوا ، والأولى حيث كان الذهب [ ص: 135 ] مرفوعا في الحديث أن يجعل عامله متعلق المجرور : أي الذهب يباع بالذهب مثلا بمثل .

نعم حديث الخدري في البخاري عنه صلى الله عليه وسلم { لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل } ظاهر في أنه مفرغ للحال ، وبقية الحديث { ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز } والشف بالكسر من الأضداد يقال للنقصان والزيادة ، والمراد هنا لا تزيدوا بعضها على بعض ، ولا يتضح في معنى النقص وإلا لقال ولا تشفوا بعضها عن بعض ، وقوله وزنا بوزن بعد ذلك ولا تشفوا في حديث البخاري المذكور تفسير لمثلا بمثل ، فإن المثلية أعم ، ففسرها بأنها من حيث المقدار ، وتقدم حديث { جيدها ورديئها سواء } أيضا ، وتخريجه وهو دليل سقوط اعتبار الجودة وسقوط زيادة الصياغة بما روى محمد عن أبي حنيفة عن الوليد بن سريع عن أنس بن مالك قال : أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإناء كسر وإني قد أحكمت صياغته ، فبعثني به لأبيعه فأعطيت وزنه وزيادة ، فذكرت ذلك لعمر فقال : أما الزيادة فلا . هذا ويدخل في إطلاق المساواة المصوغ بالمصوغ والتبر بالآنية ، حتى لو باع إناء فضة أو ذهب بإناء فضة أو ذهب وأحدهما أثقل من الآخر لا يجوز ، بخلاف إناءين من غيرهما نحاس أو شبهه حيث يجوز بيع أحدهما بالآخر وإن تفاضلا وزنا مع أن النحاس وغيره مما يوزن من الأموال الربوية أيضا ، وذلك لأن صفة الوزن في النقدين منصوص عليها فلا يتغير بالصنعة ولا يخرج عن كونه موزونا بتعارف جعله عدديا لو تعورف ذلك ، بخلاف غيرهما فإن الوزن فيه بالعرف فيخرج عن كونه موزونا بتعارف عدديته إذا صيغ وصنع .




الخدمات العلمية