الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن باع درهمين ودينارا بدرهم ودينارين جاز البيع وجعل كل جنس بخلافه ) وقال زفر والشافعي رحمهما الله : لا يجوز وعلى هذا الخلاف إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة : ولهما أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه لأنه قابل الجملة بالجملة ، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين ، والتغيير لا يجوز وإن كان فيه تصحيح التصرف ، كما إذا اشترى قلبا بعشرة وثوبا بعشرة باعهما مرابحة لا يجوز وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب ، وكذا إذا اشترى عبدا بألف درهم ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز في المشترى بألف وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه . وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال بعتك أحدهما لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده . وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد العقد في الدرهمين ولا يصرف الدرهم إلى الثوب لما ذكرنا .

ولنا أن المقابلة المطلقة تحتمل [ ص: 145 ] مقابلة الفرد بالفرد كما في مقابلة الجنس بالجنس ، وأنه طريق متعين لتصحيحه فيحمل عليه تصحيحا لتصرفه ، وفيه تغيير وصفه لا أصله لأنه يبقى موجبه الأصلي وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل ، وصار هذا كما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه بخلاف ما عد من المسائل .

أما مسألة المرابحة فلأنه يصير تولية في القلب بصرف الربح كله إلى الثوب . والطريق في المسألة الثانية غير متعين لأنه يمكن [ ص: 146 ] صرف الزيادة على الألف إلى المشتري . وفي الثالثة أضيف البيع إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع والمعين ضده . [ ص: 147 ] وفي الأخيرة العقد انعقد صحيحا والفساد في حالة البقاء وكلامنا في الابتداء .

التالي السابق


( قوله ومن باع درهمين ودينارا بدينارين ودرهم جاز ) البيع ( وجعل كل واحد ) من الجنسين ( بخلافه ) فيعتبر الدرهمان بالدينارين والدرهم بالدينار ( وقال زفر والشافعي رحمهما الله : لا يجوز ، وعلى هذا الخلاف إذا باع كر شعير وكر حنطة بكري شعير وكري حنطة ) أو باع السيف المحلى بفضة بسيف محلى بفضة ولا يدري مقدار الحليتين ، وكذا درهم ودينار بدرهمين ودينارين ( لهما أن في الصرف إلى خلاف الجنس تغيير تصرفه ) أي تصرف العاقد ( لأنه قابل الجملة بالجملة ، ومن قضيته الانقسام على الشيوع لا على التعيين ) وهو أن يكون كل جزء على الشيوع مقابلا لكل جزء على الشيوع [ ص: 145 ] فيندرج فيه جنس ذلك الجزء ، وخلاف جنسه وأجزاء جنسه أكثر إذ أجزاء دينارين أكثر من أجزاء دينار بالضرورة ، وليس المعنى أن كل جزء معين مقابل بكل جزء على العموم وإلا كانت الذرة من الدينار مقابلة بجميع الدينارين والدرهم فلم يبق للذرة ما يقابلها أو يقابل الكل بنفسه أشياء كثيرة ، وهو اعتبار ممكن لكنه مستنكر وهو أن يقايل الذرة بألف ذرة ثم تكون هذه الألف بنفسها مقابلة لذرة أخرى وأخرى ولأنه حينئذ ينتفي الانقسام بأدنى تأمل ، والدليل على أن الانقسام كما ذكرنا ما لو اشترى عبدا وجارية بثوب وفرس ثم استحق العبد يرجع بقيمة العبد في الثوب والفرس جميعا .

ولولا أن الانقسام على الشيوع لما رجع في الثوب والفرس جميعا ، وتغيير تصرفهما لا يجوز وإن كان فيه تصحيح التصرف بدليل الإجماع ، على أن من اشترى قلبا وزنه عشرة بعشرة وثوبا بعشرة ثم باعهما مرابحة صفقة واحدة لا يجوز ، وإن أمكن صرف الربح إلى الثوب وحده ليخلو القلب عن التفاضل ، وكذا إذا اشترى عبدا بألف ثم باعه قبل نقد الثمن من البائع مع عبد آخر بألف وخمسمائة لا يجوز ، ويفسد في المشترى بألف وإن أمكن تصحيحه بصرف الألف إليه ، وكذا إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال بعتك أحدهما لا يجوز وإن أمكن تصحيحه بصرفه إلى عبده . وكذا إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا من غير قبض فسد في الدرهمين ولا يصرف إلى الثوب لما ذكرنا فهذه أحكام إجماعية كلها دالة على أن تغيير التصرف لا يجوز ، [ ص: 146 ] وإن كان يتوصل به إلى تصحيحه . قال إمام الحرمين : والمعتمد عندي في التعليل أنا تعبدنا بالمماثلة تحقيقا وهنا لم تتحقق فيفسد للعقد .

قال صاحب الوجيز : وللخصم أن يقول : تعبدنا بتحقق المماثلة فيما إذا تمحضت مقابلة الجنس بالجنس أم على الإطلاق .

فإن قلت : الثاني ممنوع ، وإن قلت الأول فمسلم ، وليس صورة الخلافية ، انتهى ببعض تغيير .

وحاصله أن على تقدير مقابلة الجملة بالجملة والجزء الشائع بالشائع لا يقتضي الربا والفساد ، وإنما يقتضيه لو كان التفاضل لازما حقيقة ، وذلك لا يكون إلا إذا قوبل معين بمعين وتفاضلا ، وحينئذ لا حاجة في التصحيح إلى التوزيع وصرف كل إلى خلاف جنسه عينا ، لكن الأصحاب اقتحموه بناء على أصلي إجماعي ، وهو أن مهما أمكن تصحيح تصرف المسلم العاقل يرتكب وله نظائر كثيرة ، ولهذا يحمل كلامه على المجاز وتترك حقيقته إذا كان لا يصح على تقديره ، ويدرج في كلامه زيادة لم يتلفظ بها إذا كان لا يصح إلا بذلك ، كأنهم نظروا إلى أن المقابلة على وجه الشيوع إن لم تقتض حقيقة الربا استلزم شبهة ، وشبهة الربا معتبرة كحقيقة ; فقالوا : العقد كذلك إنما يقتضي مطلق المقابلة لا مقابلة الكل بالكل ولا الفرد بالفرد من جنسه أو من خلاف جنسه ، لأن اللفظ مطلق غير متعرض لواحد منهما لكن مع عدم الاقتضاء يحتمل مقابلة الفرد بالفرد وهو الجنس المعين هنا بجنس معين بدليل أنه يصح تفسيره به ; فإنه لو قال : بعت هذين الدرهمين والدينار بدينارين ودرهم على معنى أن الدرهمين بالدينارين والدينار بالدرهم صح وهو طريق متعين للتصحيح فوجب حمله عليه ، وعلى هذا التقدير لا حاجة إلى قول المصنف وفيه تغيير وصف العقد كأنه نظر إلى أن الظاهر هو مقابلة الجملة بالجملة شائعا لا أصله لأنه يبقى موجبه وهو ثبوت الملك في الكل بمقابلة الكل وصار كما اتفقنا عليه فيما إذا باع نصف عبد مشترك بينه وبين غيره ينصرف إلى نصيبه تصحيحا لتصرفه ، بخلاف المسائل المذكورة فإن عدم الصرف فيها لعدم الإمكان والتعيين .

أما مسألة المرابحة فعدم الصرف ; لأنه يتغير أصل العقد إذ يصير تولية في القلب . واعترض بأن مقتضى ما تقدم من وجوب حمل المثنى على الواحد في مسألة الطوق والجارية أن يحمل قوله بعتهما بعشرين مرابحة فيهما بعشرة أن يحمل فيهما على أحدهما : يعني الثوب ، كما حمل قوله خذ هذه الألف من ثمنهما على ثمن أحدهما وهو الطوق وكون الطوق لم يصر مرابحة لا يضر إذ يصدق أن العقد مرابحة بثبوت الربح في بعض مبيعات الصفقة الواحدة ، وفي المسألة الثانية وهو ما إذا باع عبدا اشتراه بألف ممن اشتراه منه مع عبد آخر بألف وخمسمائة طريق تصحيحه غير متعين أن يكون بصرف الخمسمائة إلى العبد الآخر فيكون بائعا ما اشتراه ممن اشتراه منه بمثل ما اشتراه منه ، لأنه كما يكون بذلك يكون بصرف أكثر من الخمسمائة بدرهم أو درهمين أو غير ذلك إلى العبد الآخر فيصير بائعا [ ص: 147 ] للمشتري ممن اشتراه منه بأقل مما اشتراه منه . ونقض بأن طريق الصحة أيضا ليس متعينا فيما قلتم ، بل له وجه آخر وهو أن يعتبر مقابلة درهم من الدرهمين بمقابلة الدرهم ودينار من الدينارين بمقابلة الدينار والدينار الآخر بمقابلة الدرهم .

أجيب بأن التغيير ما أمكن تقليله متعين ، وتصحيح التصرف مع قلة التغيير لا يكون إلا بما قلنا فكان ما قلنا متعينا ، بخلاف ما فرض فإن فيه ثلاث تغييرات . وأيضا فإن الذي ادعيناه طريقا متعينا هو صرف الجنس إلى خلاف الجنس كيف كان لا بخصوص ذلك الطريق ، وما ذكرتم من ذلك ومن أن يصرف نصف درهم إلى نصف درهم والنصف الآخر بمقابلة الدينار في فروض كثيرة لا يخرج عن صرف الجنس إلى خلاف الجنس ، وإلى هذا رجع قول صاحب الكافي في الجواب : التعدد إنما يمنع الجواز إذا لم يكن لأحد الوجوه ترجيح بل تساوت ، لأنه حينئذ يلزم الترجيح بلا مرجح فتتمانع الوجوه فيمتنع ، أما إذا كان فلا ، وفيما اعتبرناه ذلك لأن العقد ورد على اسم الدرهم والدرهمين فلا يغير عنه ، ونحن أسلفنا لنا في أصل هذا الأصل نظرا استند إلى جواز ثبوت الشيء بعلل مستقلة اجتمعت دفعة .

وأما في المسألة الثالثة وهي ما إذا جمع بين عبده وعبد غيره وقال بعتك أحدهما فلأن البيع أضيف إلى المنكر وهو ليس بمحل للبيع لجهالته ، ولأن المعين ضده فلا يحمل الشيء على ضده فليس بشيء لأن المعرفة من ماصدقات النكرة ، فإن زيدا يصدق عليه رجل ولا شك أن يحتمله فيجب حمله عليه . وقد قال أبو حنيفة في قوله عبدي أو حماري حر : إنه يعتق العبد ويجعل استعارة المنكر للمعرفة ، وكذا ما قيل : إن تصحيح العقد يجب في محل العقد وهو لم يضف إلى المعين . واعلم أن ما أورد على دفع النقوض المذكورة إن لحظ له جواب فذاك وإلا فلا يضرك النقض في إثبات المطلوب ، إذ غايته أنه خطأ في محل آخر إذا اعترف بخطئه في محل النقض وذلك لا يوجب خطأ في محل النزاع .

وأما في المسألة الأخيرة وهي ما إذا باع درهما وثوبا بدرهم وثوب وافترقا بلا قبض فليس مما نحن فيه ، فإن العقد انعقد صحيحا ، وإنما طرأ الفساد بالافتراق والصرف لدفع الفساد وهو قد انعقد بلا فساد وكلامنا ليس في الفساد الطارئ .

فإن قيل : فليصرف الجنس إلى خلاف جنسه ليبقى صحيحا كما يصرف لينعقد صحيحا والمقتضى واحد فيهما وهو الاحتيال للصحة . قلنا : الفساد هناك ليس طروه متحققا ولا مظنونا ليجب اعتبار الصرف من أول الأمر بل يتوهم ; لأن الظاهر أنهما يتقايضان بعدما عقدا قبل الافتراق فلا يحتاج إلى ذلك الاعتبار .

وأما المسألة المستشهد بها أولا وهي الرجوع في ثمن الثوب والفرس فإنما تشهد على أن المقابلة للجملة بالجملة على الشيوع ، ونحن نقول : هو الأصل ، وإنما قلنا : إذا كان تصحيح العقد يحصل باعتبار التوزيع وجب المصير إليه وهو ثابت في المسألة المفروضة ; ألا ترى إلى ما في الإيضاح قال : الأصل في هذا الباب أن حقيقة البيع إذا اشتملت على إبدال وجب قسمة أحد البدلين على الآخر .

وتظهر الفائدة في الرد بالعيب والرجوع بالثمن عند الاستحقاق ووجوب الشفعة فيما تجب فيه الشفعة ، فإن كان العقد مما لا ربا فيه ، فإن كان مما لا يتفاوت فالقسمة على الأجزاء ، وإن كان مما يتفاوت فالقسمة على القيمة ، وأما فيما فيه الربا فإنما تجب القسمة على الوجه الذي يصح به العقد .

مثاله : باع عشرة دراهم بخمسة دراهم ودينار يصح العقد ، فإن الخمسة بالخمسة والخمسة الأخرى بإزاء الدينار ، وكذا لو قابل جنسين بجنسين كما في مسألة الكتاب . انتهى .




الخدمات العلمية