الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف وقالت تزوجني بألفين فأيهما أقام البينة تقبل بينته ) لأنه نور دعواه بالحجة . [ ص: 228 ] ( وإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة ) لأنها تثبت الزيادة ، معناه إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته ( وإن لم يكن لهما بينة تحالفا عند أبي حنيفة ولا يفسخ النكاح ) لأن أثر التحالف في انعدام التسمية ، وأنه لا يخل بصحة النكاح لأن المهر تابع فيه ، بخلاف البيع لأن عدم التسمية يفسده على ما مر فيفسخ ، [ ص: 229 ] ( ولكن يحكم مهر المثل ، فإن كان مثل ما اعترف به الزوج أو أقل قضى بما قال الزوج ) لأن الظاهر شاهد له ( وإن كان مثل ما ادعته المرأة [ ص: 230 ] أو أكثر قضى بما ادعته المرأة ، وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضى لها بمهر المثل ) لأنهما لما تحالفا لم تثبت الزيادة على مهر المثل ولا الحط عنه .

قال رحمه الله : ذكر التحالف أولا ثم التحكيم ، وهذا قول الكرخي رحمه الله لأن مهر المثل لا اعتبار له مع وجود التسمية وسقوط اعتبارها بالتحالف ولهذا يقدم في الوجوه كلها ، ويبدأ بيمين الزوج عند أبي حنيفة ومحمد تعجيلا لفائدة النكول كما في المشتري ، وتخريج الرازي بخلافه [ ص: 231 ] وقد استقصيناه في النكاح وذكرنا خلاف أبي يوسف فلا نعيده

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإذا اختلف الزوجان في المهر فادعى الزوج أنه تزوجها بألف وقالت : تزوجني بألفين فأيهما أقام البينة تقبل بينته ) قال المصنف في تعليله : ( لأنه نور دعواه بالحجة ) قال الشراح : أما قبول بينة المرأة فظاهر [ ص: 228 ] لأنها تدعي الزيادة ، وإنما الإشكال في قبوله بينة الزوج لأنه منكر الزيادة فكان عليه اليمين لا البينة ، وإنما قبلت لأنه مدع في الصورة وهي كافية لقبولها انتهى ( فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة ) هذا من تمام كلام القدوري .

قال المصنف في تعليله ( لأنها ) أي لأن بينة المرأة ( تثبت الزيادة ) وقال في توجيهه ( معناه إذا كان مهر مثلها ) أي مهر مثل المرأة ( أقل مما ادعته ) وقال صاحب العناية في تفصيل المسألة : وإن أقاما فلا يخلوا إما أن يكون مهر المثل أقل مما ادعته أو لا ، فإن كان الأول فالبينة للمرأة لأنها تثبت الزيادة ، وإن كان الثاني فالبينة للزوج لأنها تثبت الحط وبينتها لا تثبت شيئا لثبوت ما ادعته بشهادة مهر المثل انتهى .

أقول : في تحريره خلل ، حيث حكم في الأول على الإطلاق بكون البينة للمرأة وليس كذلك ، بل الأول أيضا لا يخلو من أن يكون مهر المثل مثل ما اعترف به الزوج أو أقل منه . ومن أن يكون أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة ، فإن كان الأول فالبينة للمرأة لأنها تثبت الزيادة . وإن كان الثاني فتتعارض بينتاهما حيث تثبت بينتها الزيادة وتثبت بينته الحط فيتهاتران فيجب مهر المثل . وقد صرح بهذا التفصيل في عامة الكتب المعتبرة حتى المتون في باب المهر ، بل صرح به صاحب العناية أيضا في ذلك الباب من شرح هذا الكتاب .

وأما قول المصنف : معناه إذا كان مهر مثلها أقل مما ادعته فليس بهذه المثابة من الخلل ، إذ يمكن أن يكون مراده به مجرد الاحتراز عما إذا كان أكثر مما ادعته لا التعميم لقسمي كون مهر مثلها أقل مما ادعته ، بخلاف تحرير صاحب العناية فإن عبارة لا يخلو في قوله وإن أقاما فلا يخلو إما أن يكون مهر المثل أقل مما ادعته أو لا تقتضي شمول الأقسام كما لا يخفى على ذوي الأفهام . ولقد أحسن الإمام الزيلعي في هذا المقام حيث قال في شرح قول صاحب الكنز : وإن برهنا فللمرأة ، هذا إذا كان مهر المثل يشهد للزوج بأن كان مثل ما يدعي الزوج أو أقل ، لأن الظاهر يشهد للزوج وبينة المرأة تثبت خلاف الظاهر فكانت أولى ، وإن كان مهر المثل يشهد لها بأن كان مثل ما تدعيه المرأة أو أكثر كانت بينة الزوج أولى لأنها تثبت الحط وهو خلاف الظاهر والبينات للإثبات ، وإن كان مهر مثلها لا يشهد لها ولا له بأن كان أقل مما ادعته المرأة وأكثر مما ادعاه الزوج فالصحيح أنهما يتهاتران لأنهما استويا في الإثبات ، لأن بينتها تثبت الزيادة وبينته تثبت الحط فلا تكون إحداهما أولى من الأخرى انتهى .

( وإن لم يكن لهما بينة ) أي عجزا من إقامة البينة ( تحالفا عند أبي حنيفة ، ولا يفسخ النكاح لأن أثر التحالف في انعدام التسمية ، وإنه لا يخل بصحة النكاح لأن المهر تابع فيه ) أي في النكاح فلا حاجة إلى الفسخ ( بخلاف البيع لأن عدم التسمية يفسده ) لبقائه بيعا بلا ثمن وهو فاسد ( على ما مر ) أي في كتاب البيوع ، بل في هذا الباب أيضا حيث قال : ويقال إذا لم يثبت البدل بقي بيعا بلا بدل وهو فاسد ( فيفسخ ) أي البيع ، قال صاحب النهاية : فإن قلت : النص [ ص: 229 ] بشرعية التحالف إنما ورد في البيع والنكاح ليس في معناه وهو ظاهر فكيف تعدى حكم النص من البيع إلى النكاح ، أو نقول : إن التحالف إنما شرع في عقد يحتمل الفسخ لما أن الفسخ من أحكام التحالف ولا فسخ في النكاح بعد التحالف بالاتفاق فيجب أن لا يشرع فيه التحالف لعدم حكمه .

قلت : أما الأول وهو ورود النص في البيع فقلنا : إن المعنى الموجب للتحالف هناك موجود هاهنا من كل وجه فيثبت التحالف في النكاح أيضا بدلالة النص ، وذلك لأن الموجب للتحالف هناك هو أن كل واحد من المتعاقدين مدع ومنكر ، ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر في الدعوى والإنكار لتساويهما فيهما ، فلذلك قوبلت بينتهما ويمينهما لأن كل واحد منهما ينكر ما يدعيه الآخر فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } وأما الثاني وهو أن الفسخ حكم التحالف والفسخ ليس بثابت هاهنا وجوابه مذكور في الكتاب . وإيضاح ذلك هو أن التحالف إنما أوجب الفسخ في التحالف لأنه لما تعذر إثبات دعوى كل واحد منهما بسبب يمين الآخر لزم إخلاء العقد عن البدل ، والبدل إذا خلا في البيع يفسد البيع والفاسد يفسخ .

وأما النكاح إذا خلا العوض عنه فلا يفسد كما لو لم يذكر التسمية ، وإذا لم يفسد النكاح لا يفسخ إذ الفسخ إنما كان بسبب الفساد فافترقا ، إلى هذا أشار في الفوائد الظهيرية انتهى . وقد اقتفى أثره في هذين السؤالين وهذين الجوابين صاحب معراج الدراية وصاحب العناية . أقول : في كل واحد من الجوابين بحث . أما في الأول فلأن المعنى الموجب للتحالف وهو كون كل واحد من المتعاقدين مدعيا ومنكرا مع عدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر إنما يوجد هاهنا قبل تسليم المرأة بضعها إلى الزوج ، وأما بعد التسليم فلا يوجد لأن الزوج لا يدعي على المرأة حينئذ شيئا إذ المعقود عليه سالم له .

بقي دعوى المرأة في زيادة المهر والزوج ينكرها على قياس ما تقرر في الاختلاف في البيع بعد القبض ، والمسألة فيما نحن فيه ليست بمفروضة قبل القبض بل هي عامة لما قبل القبض وما بعده ، بل كانت مصورة في بعض الشروح بصورة تخص بما بعد القبض فبقي السؤال في هذه الصورة ، إلا على قول محمد فإنه يرى النص معلوما بعد القبض أيضا كما مر . وأما في الثاني فلأن حاصله بيان سبب عدم ثبوت الفسخ في النكاح ، وهو لا يدفع السؤال إذ ليس فيه ما يشعر بالنزاع أو التردد في عدم ثبوت الفسخ في النكاح ، بل حاصله أن التحالف إنما شرع لحكمه وهو الفسخ ، فإن لم يثبت الفسخ في النكاح ينبغي أي لا يجري فيه التحالف أيضا ، ويؤيده أن التحالف لم يجر فيما إذا اختلفا في الإقالة في السلم لعدم احتمال الإقالة في باب السلم الفسخ كما مر قبيل مسألتنا هذه فتأمل ( ولكن يحكم مهر المثل ) هذا استدراك من قوله ولا يفسخ النكاح أي لكن يحكم مهر المثل لقطع النزاع ( فإن كان ) أي مهر المثل ( مثل ما اعترف به الزوج أو أقل ) أي مما اعترف به الزوج ( قضى بما قال الزوج لأن الظاهر ) أي ظاهر الحال ( شاهد له ) أما في صورة كون مهر المثل مثل ما اعترف به الزوج فظاهر لموافقة قوله مهر المثل .

وأما في صورة كون مهر المثل أقل مما اعترف به الزوج فلكون قوله أقرب إلى مهر المثل من قولنا ( وإن كان ) أي مهر المثل ( مثل ما ادعته المرأة أو أكثر ) أي مما ادعته المرأة ( قضى بما ادعت المرأة ) [ ص: 230 ] لأن الظاهر لها شاهد حينئذ لمثل ما بيناه آنفا ( وإن كان مهر المثل أكثر مما اعترف به الزوج وأقل مما ادعته المرأة قضى لها بمهر المثل لأنهما لما تحالفا لم تثبت الزيادة على مهر المثل ) أي بسبب حلف الزوج ( ولا الحط عنه ) أي بسبب حلف المرأة ( قال ) أي المصنف ( ذكر ) أي القدوري ( التحالف أولا ثم التحكيم ، وهذا ) أي ما ذكره القدوري ( قول الكرخي لأن مهر المثل لا اعتبار له مع وجود التسمية ) لأنه موجب نكاح لا تسمية فيه ( وسقوط اعتبارها بالتحالف ) أي سقوط اعتبار التسمية إنما هو بالتحالف ( فلهذا يقدم ) أي التحالف ( في الوجوه كلها ) يعني فيما إذا كان مهر المثل ما اعترف به الزوج أو أقل منه ، أو كان مثل ما ادعته المرأة أو أكثر منه ، أو كان أكثر مما اعترف به الزوج وأقل ما ادعته المرأة فهذه خمسة وجوه ( ويبدأ بيمين الزوج عند أبي حنيفة ومحمد تعجيلا لفائدة النكول ) لأن أول التسمية عليه فيكون أول اليمينين عليه ، كذا في النهاية ومعراج الدراية نقلا عن الفتاوى الظهيرية ( كما في المشتري ) أي كما يبدأ بيمين المشتري على القول الصحيح تعجيلا لفائدة النكول كما مر من تخريج الرازي ( بخلافه ) أي تخريج أبي بكر الرازي ، بخلاف قول الكرخي فإن الرازي يقول بتحكيم مهر المثل أولا إذا [ ص: 231 ] شهد مهر المثل لأحدهما ، ثم يقول بالتحالف إذا لم يشهد ذلك لأحدهما .

قال المصنف : ( وقد استقصيناه ) أي تخريج الرازي ( في النكاح ) أي في كتاب النكاح ( وذكرنا خلاف أبي يوسف ) هو أن القول في جميع ذلك قول الزوج إلا أن يأتي بشيء قليل ، وفي رواية : إلا أن يأتي بشيء مستنكر ، وتكلموا في تفسيره على ما مر بيانه في كتاب النكاح ( فلا نعيده ) أي لا نعيد ذكر خلافه هاهنا . قال صاحب النهاية : وهذا أي قول الرازي هو الأصح ، لأن تحكيم مهر المثل هاهنا ليس لإيجاب مهر المثل بل لمعرفة من يشهد له الظاهر ، ثم الأصل في الدعاوى أن يكون القول قول من يشهد له الظاهر مع يمينه ، كذا ذكره الإمام قاضي خان والمحبوبي انتهى ، وقال صاحب غاية البيان : قالوا : إن قول الكرخي هو الصحيح لأن مهر المثل لا يثبت مع وجود التسمية ، وإنما تنعدم التسمية بالتحالف لأنه حينئذ يكون كأن العقد لم يكن فيه تسمية أصلا فيصار إلى مهر المثل ، فلما لم يثبت مهر المثل مع وجود التسمية كيف يكون الظاهر مع الذي وافقه مهر المثل انتهى .

وقال صاحب العناية : أقول : إن أرادوا بقولهم هو الصحيح أن غيره يجوز أن يكون أصح فلا كلام ، وإن أرادوا أن غيره فاسد فالحق ما قاله صاحب النهاية ، لأن التسمية تمنع المصير إلى مهر المثل لإيجابه ، وأما لتحكيمه لمعرفة من يشهد له الظاهر فممنوع انتهى ، وأنا أقول : إن قوله إن أرادوا بقولهم هو الصحيح أن غيره يجوز أن يكون أصح ، فلا كلام ليس بصحيح إذ لا مجال لإرادة هذا المعنى من ذلك اللفظ ، لأنهم ما قالوا هو صحيح حتى لا ينافي كون غيره أصح ، بل قالوا : هو الصحيح بقصر المسند على المسند إليه وهو قصر الصفة على الموصوف كما ترى ، فإذا كانت صفة الصحة مقصورة عليه فكيف يجوز أن يتصف غيره بالأصحية والاتصاف بالأصحية يستلزم الاتصاف بأصل الصحة لأنها زيادة الصحة ، اللهم إلا أن يكون مراده لا كلام في المراد لا في الإرادة فتأمل .

ثم قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : ما بالهم لا يحكمون قيمة المبيع إذا اختلف المتبايعان في الثمن لمعرفة من يشهد له الظاهر كما في النكاح فإنه لا محظور فيه . ويمكن أن يجاب عنه بأن مهر المثل معلوم ثابت بيقين فجاز أن يكون حكما ، بخلاف القيمة فإنها تعلم بالحرز والظن فلا تفيد المعرفة فلا تجعل حكما انتهى . وأقول : في جوابه تحكم ، حيث جعل مهر المثل أمرا معلوما ثابتا بيقين ، والقيمة أمرا مظنونا غير مفيد للمعرفة ، والحال أنهما إن كانا متفاوتين في المعرفة فمهر المثل أخفى من القيمة ، إذ قد تقرر في باب المهر أن مهر المثل يعتبر بقرابة المرأة من قوم أبيها ويعتبر فيه التساوي بين المرأتين سنا وجمالا ومالا وعقلا ودينا وبلدا وعصرا وبكارة وثيابة ، ولا يخفى أن معرفة هذه الشرائط عسر جدا ، بخلاف القيمة إذ يكفي فيها نوع خبرة بأحوال الأمتعة كما لا يخفى .

فالصواب في الجواب ما ذكره صاحب النهاية والكفاية حيث قالا : قلنا القضاء هناك بما يدعيه أحدهما غير ممكن ، وإن كانت القيمة مطابقة لما يدعيه أحدهما لأن القيمة لا يمكن إثباتها ثمنا بمطلق العقد ، ومهر المثل يمكن إثباته مهرا بمطلق العقد ، وهذا هو الفرق بينهما انتهى ، وقال صاحب النهاية : إلى هذا أشار في الفوائد الظهيرية :




الخدمات العلمية