الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا ) معناه اختلفا في البدل أو في المبدل لأن التحالف في البيع قبل القبض على وفاق القياس على ما مر ، والإجارة قبل قبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع وكلامنا قبل استيفاء المنفعة ( فإن وقع الاختلاف في الأجرة يبدأ بيمين المستأجر ) لأنه منكر لوجوب الأجرة [ ص: 233 ] ( وإن وقع في المنفعة يبدأ بيمين المؤجر ، وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه ، وأيهما أقام البينة قبلت ، ولو أقاماها فبينة المؤجر أولى إن كان الاختلاف في الأجرة ، وإن كان في المنافع فبينة المستأجر أولى ، وإن كان فيهما قبلت بينة كل واحد منهما فيما يدعيه من الفضل ) نحو أن يدعي هذا شهرا بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة يقضي بشهرين بعشرة .

قال ( وإن اختلفا بعد الاستيفاء لم يتحالفا [ ص: 234 ] وكان القول قول المستأجر ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ظاهر ، لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما ، وكذا على أصل محمد لأن الهلاك إنما لا يمنع عنده في المبيع لما أن له قيمة تقوم مقامه فيتحالفان عليها ، ولو جرى التحالف هاهنا وفسخ العقد فلا قيمة لأن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد وتبين أنه لا عقد . وإذا امتنع فالقول للمستأجر مع يمينه لأنه هو المستحق عليه ( وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي وكان القول في الماضي قول المستأجر ) لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في كل جزء من المنفعة كأن ابتداء العقد عليها ، بخلاف البيع لأن العقد فيه دفعة واحدة ، فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل . .

التالي السابق


( وإن اختلفا في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه تحالفا وترادا ) هذا لفظ القدوري في مختصره . قال المصنف : ( معناه اختلفا في البدل ) أي الأجرة ( أو في المبدل ) أي المعقود عليه وهو المنفعة ، وهذا احتراز عن اختلافهما في الأجل ، فإنه لا يجري التحالف بينهما فيه . بل القول فيه قول من ينكر الزيادة . كذا في النهاية ومعراج الدراية . ثم إن الظاهر كان أن يزيد المصنف على قوله في البدل أو المبدل أو فيهما كما زاده صاحب الكافي ليتناول الصور الثلاثة الآتية ، فكأنه أراد بقوله في البدل أو المبدل منع الخلو احترازا عما ذكرناه آنفا لا منع الجمع فيتناولهما أيضا فتدبر ( لأن التحالف في البيع قبل القبض على وفاق القياس ) من حيث إن كل واحد من المتبايعين منكر لما يدعيه صاحبه فكان اليمين على من أنكر ( على ما مر ) أي من أول هذا الباب ( والإجارة قبل قبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع ) من حيث إن كل واحد منهما عقد معاوضة يلحقه الفسخ ليس فيه معنى التبرع ( وكلامنا قبل استيفاء المنفعة ) لأن وضع مسألتنا في الاختلاف في الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه فصار الاختلاف في الإجارة قبل قبض المنفعة كالاختلاف في البيع قبل قبض المبيع فجرى التحالف هاهنا كما جرى ثمة .

فإن قيل : قيام المعقود عليه شرط التحالف والمنفعة معدومة فوجب أن لا يجري فيها التحالف . قلنا : في معدوم يجري التحالف كما في السلم وأن العين المستأجرة أقيمت مقام المنفعة في حق إيراد العقد عليها فصارت كأنها قائمة ، كذا ذكره الإمام الزيلعي في التبيين ( فإن وقع الاختلاف في الأجرة يبدأ بيمين المستأجر لأنه منكر لوجوب الأجرة ) أي لوجوب زيادة الأجرة على حذف المضاف . قال صاحب العناية أخذا من شرح تاج الشريعة : فإن قيل : كان الواجب أن يبدأ بيمين الآجر لتعجيل فائدة النكول ، فإن تسليم المعقود واجب أولا على الآجر ثم وجبت الأجرة على المستأجر بعده . أجيب بأن الأجرة إن كانت مشروطة التعجيل فهو الأسبق إنكارا فيبدأ به ، وإن لم تشترط لا يمتنع الآجر من تسليم العين المستأجرة لأن تسليمه لا يتوقف على قبض الأجرة فبقي إنكار المستأجر لزيادة الآجر فيحلف انتهى .

وقد اقتفى أثر الشارح العيني . أقول : في الجواب بحث من وجوه : الأول أن المؤجر وإن لم يمتنع من تسليم العين المستأجرة بما ادعاه من الأجرة ولكن يمتنع من تسليمها بما اعترف به المستأجر منها فإن تسليمه إياها وإن لم يتوقف على قبض الأجرة إلا أنه يتوقف على تعينها وإلا لم يكن المؤجر منكرا لوجوب تسليم المعقود عليه بما عينه المستأجر فيلزم أن لا تكون الإجارة قبل قبض المنفعة نظير البيع قبل قبض المبيع وهذا خلف . والثاني أن ما ذكره هاهنا منقوض بما إذا اختلف المتبايعان في البيع دون الثمن فإن المشتري هناك أيضا لا يمتنع من تسليم الثمن بناء على أن تسليمه لا يتوقف على قبض المبيع مع أنه يبدأ فيه بيمين المشتري كما يبدأ بيمينه في صورة الاختلاف في الثمن ، ويعلل بتعجيل فائدة النكول ، والثالث أن قوله فبقي إنكار المستأجر لزيادة الأجرة فيحلف إن أراد به أنه لا إنكار للمؤجر أصلا كما هو المتبادر من العبارة فليس بصحيح ، إذ يلزم حينئذ أن لا يحلف أصلا فيختل وضع المسألة لأن وضعها [ ص: 233 ] في التحالف لا في حلف الواحد .

وإن أراد به أن للمؤجر أيضا إنكار المستأجر ما يقتضي البدء بيمينه فهو أول المسألة ولم يظهر بعد . ثم إن تاج الشريعة أجاب بعد الجواب المذكور بوجه آخر حيث قال : ولأن الإجارة اعتبرت بالبيع ، ومن شرط القياس أن لا يغير حكم النص في الفرع بل يعدي حكم الأصل بعينه وذلك فيما قلنا انتهى .

أقول : وفيه أيضا بحث لأن هذا منقوض بالصورة الثانية الآتية ، وهي ما إذا وقع الاختلاف في المنفعة فإنه يبدأ فيها بيمين المؤجر فيلزم مما ذكر أن يغير فيها حكم النص ، وأن لا يعدي حكم الأصل بعينه فإن حكمه أن يبدأ بيمين المشتري من غير فصل بين أن يقع الاختلاف في البدل وأن يقع في المبدل على ما مر . ثم إن التحقيق أن حكم النص مجرد ثبوت التحالف للمتعاقدين عند اختلافهما في العقد من غير تعيين من يبدأ بيمينه منهما ، وإنما يستفاد ذلك من دليل آخر فلا يلزم تغيير النص في شيء من الصورتين ولا يتم الجواب ( وإن وقع ) أي الاختلاف ( في المنفعة بدئ بيمين المؤجر ) لأنه منكر لزيادة المنفعة ( وأيهما نكل لزمه دعوى صاحبه ) لأن نكوله بدل أو إقراره على ما مر ( وأيهما أقام البينة قبلت ) لأنه نور دعواه بالحجة ( ولو أقاماها ) أي البينة ( فبينة المؤجر أولى إن كان الاختلاف في الأجرة ) لأن بينته تثبت الزيادة حينئذ ( وإن كان ) أي الاختلاف ( في المنافع فبينة المستأجر ) أي فبينة المستأجر أولى لأنها تثبت الزيادة حينئذ ( وإن كان فيهما ) أي وإن كان الاختلاف في الأجرة والمنافع معا ( قبلت بينة كل واحد منهما فلا يدعيه من الفضل نحو أن يدعي هذا ) أي المؤجر ( شهرا بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة يقضي بشهرين بعشرة ) لا يقال : كان الأحسن أن يقدم ذكر أحوال إقامة البينة على ذكر أحوال اليمين والنكول لأن المصير إلى اليمين بعد العجز عن إقامة البينة والنكول فرع تكليف اليمين .

وقد عكس المصنف الأمر ، لأنا نقول : العمدة في هذا الباب بيان أمر التحالف وباقي الأقسام استطرادي ، فقدم الأهم في هذا المقام ، فكأن صاحب العناية لم يتنبه لهذه النكتة حيث غير أسلوب المصنف فقدم ذكر أحوال إقامة البينة ( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإن اختلفا بعد الاستيفاء ) أي بعد استيفاء المعقود عليه بتمامه ( لم يتحالفا [ ص: 234 ] وكان القول قول المستأجر ، وهذا ) أي عدم التحالف هاهنا ( عند أبي حنيفة وأبي يوسف ظاهر ، لأن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف عندهما ) وقد هلك المعقود عليه هاهنا بعد الاستيفاء لأنه المنفعة وهي عرض والعرض لا يبقى زمانين ( وكذا على أصل محمد لأن الهلاك إنما لا يمنع عنده في المبيع لما أن له ) أي للمبيع ( قيمة تقوم مقامه ) لأن العين متقومة بنفسها فكانت القيمة قائمة مقامها ( فيتحالفان عليها ) أي المتعاقدان عنده على القيمة ( ولو جرى التحالف هاهنا وفسخ العقد ) بناء على أن فائدة التحالف هي الفسخ ( فلا قيمة ) أي للمعقود عليه ( لأن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد ) أي بل تتقوم بالعقد ( وتبين أنه لا عقد ) أي وتبين بحلفهما أنه لا عقد بينهما لانفساخه من الأصل ، فظهر حينئذ أنه لا قيمة للمنفعة ، وإذا كان كذلك كان المبيع غير قائم ولا الذي يقوم مقامه فامتنع التحالف ( وإذا امتنع فالقول للمستأجر مع يمينه لأنه هو المستحق عليه ) أي وهو الذي استحق عليه ، ومتى وقع الاختلاف في الاستحقاق كان القول قول المستحق عليه ، كذا في الكافي ( وإن اختلفا بعد استيفاء بعض المعقود عليه تحالفا وفسخ العقد فيما بقي وكان القول في الماضي قول المستأجر ) هذا لفظ القدوري في مختصره .

وقال المصنف في تعليله ( لأن العقد ) أي عقد الإجارة ( ينعقد ساعة فساعة ) على حسب حدوث المنفعة ( فيصير ) أي العقد ( في كل جزء من المنفعة كأن ابتداء العقد عليها ) أي على كل جزء من المنفعة فصار ما بقي من المنافع كالمنفرد بالعقد فكان الاختلاف بالنسبة إليه قبل استيفاء المعقود عليه ، وفيه التحالف . وأما الماضي فالقول فيه قول المستأجر لأن المنافع الماضية هالكة ، فكان الاختلاف بالنسبة إليها بعد الاستيفاء ولا تحالف فيه ، والقول قول المستأجر بالاتفاق كما مر آنفا ( بخلاف البيع لأن العقد فيه دفعة واحدة ، فإذا تعذر في البعض تعذر في الكل ) ضرورة .




الخدمات العلمية