الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله عندنا والفسق الأصلي والطارئ سواء ) وقال الشافعي : يحجر عليه زجرا له وعقوبة عليه كما في السفيه ولهذا لم يجعل أهلا للولاية والشهادة عنده . ولنا قوله تعالى { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } الآية . وقد أونس منه نوع رشد فتتناوله النكرة المطلقة ، ولأن الفاسق من أهل الولاية عندنا لإسلامه فيكون واليا للتصرف ، وقد قررناه فيما تقدم [ ص: 269 ] ويحجر القاضي عندهما أيضا وهو قول الشافعي بسبب الغفلة وهو أن يغبن في التجارات ولا يصبر عنها لسلامة قلبه لما في الحجر من النظر له .

التالي السابق


( قوله ولنا قوله تعالى { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } الآية وقد أونس منه نوع رشد فتتناوله النكرة المطلقة ) قال في النهاية وفي المبسوط : فقوله تعالى رشدا منكر في موضع الإثبات ، والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تعم ، فإذا أوجد رشد ما فقد وجد الشرط فيجب دفع المال إليه انتهى .

أقول : تقرير دليل أئمتنا في هذه المسألة على الوجه المذكور في الكتاب ، وفي المبسوط : ينتقض بقول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في السفيه المصلح في دينه دون ماله فإنه يحجر عليه عندهما كما مر ، مع أنه قد أونس منه نوع رشد وهو الرشد في دينه ، فتتناوله النكرة المطلقة فيجب أن يدفع إليه أيضا ماله .

والأظهر في تقرير استدلال أئمتنا بالآية المذكورة ما ذكره صاحب الكفاية بعد ذكر ما في الكتاب وشرحه على وفق ما في المبسوط حيث قال : ولأن الرشد في المال مراد بالإجماع ، فلا يكون الرشد في الدين مرادا كي لا تعم النكرة المطلقة ، أو لأن الدفع معلق بإيناس رشد واحد لأنه نكرة في موضع الإثبات ، فلا يكون الرشد في الدين مرادا لأنه حينئذ يكون معلقا برشدين انتهى فتدبر ( قوله ولأن الفاسق من أهل الولاية عندنا لإسلامه فيكون واليا للتصرف ) أقول : يرد النقض بالسفيه المصلح في دينه دون ماله على قولهما لا محالة ، لأن الإسلام فيه أيضا متحقق بل فيه أقوى ، فلزم أن يكون من أهل الولاية فينبغي أن يكون واليا للتصرف أيضا غير [ ص: 269 ] محجور عليه كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله ( قوله ويحجر القاضي عندهما أيضا ; وهو قول الشافعي بسبب الغفلة ، وهو أن يغبن في التجارات إلخ ) .

واعترض بأنه خلاف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه ما حجر على حبان بن منقذ وكان يغبن في التجارات ، بل قال له { قل لا خلابة لي الخيار ثلاثة أيام } فأثبت له البيع بشرط الخيار وما حجر . وأجيب بأن الحجر على المغفل ثبت بدلالة قوله تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } لما أنه يتلف الأموال كالسفيه فلا يعارضه خبر الواحد ، كذا ذكره تاج الشريعة . قال صاحب العناية بعد ذكر الاعتراض والجواب . ورد بأن ذلك المنع المال وليس النزاع فيه ، وإنما النزاع في الحجر انتهى .

وقال بعض الفضلاء : ويجوز أن يقال : يفهم منه الحجر أيضا بطريق الدلالة وإن لم يفد المنع كما سبق من دليلهما ا هـ .

أقول : ويجوز أن يرد هذا أيضا بأن الحجر أبلغ من منع المال في العقوبة كما مر في دليل أبي حنيفة على عدم الحجر على السفيه ، فأنى يفهم من منع المال الحجر بطريق الدلالة وأن منع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والصدقات ، وذلك يقف على اليد كما مر هذا أيضا في دليله جوابا عن قولهما المنع لا يفيد بدون الحجر فيسقط قول ذلك القائل هاهنا وإن لم يفد المنع كما سبق من دليلهما . وقال الشارح العيني بعد نقل ما ذكره تاج الشريعة وصاحب العناية قلت : فيه نظر ، لأن في حديث حبان بن منقذ نوع حجر ، لأنه عليه الصلاة والسلام أطلق له البيوع كلها بالخيار فصار كالمحجور في البيوع المطلقة فافهم ا هـ .

أقول : ليس ما قاله بشيء ، إذ لا شك أنه لا حجر في الحديث المزبور على حبان في شيء ، بل فيه إرشاده إلى ما يليق بحاله من شرط الخيار في البيع ، وقول الشارح المذكور فصار كالمحجور في البيوع المطلقة يشعر باعترافه أيضا بأنه لم يصر محجورا عليه حقيقة في شيء فلا يجدي ما قاله شيئا هاهنا ، ولو سلم دلالة الحديث على كونه محجورا عليه في البيوع المطلقة : أي في البيوع التي لم يشترط فيها الخيار فلا نفع لها في دفع مادة الاعتراض هاهنا فإن مذهب الإمامين والشافعي أن يحجر القاضي على المغفل في بيوعه مطلقا : أي سواء شرط فيها الخيار أم لا ، فيرد عليه أن الحجر على المغفل في بيوعه التي شرط فيها الخيار خلاف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حبان بن منقذ .




الخدمات العلمية