الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 382 ] باب طلب الشفعة والخصومة فيها قال ( وإذا علم الشفيع بالبيع أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة ) اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه : طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم ، حتى لو بلغ الشفيع البيع ولم يطلب شفعة بطلت الشفعة لما ذكرنا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام { الشفعة لمن واثبها } ولو أخبر بكتاب والشفعة في أوله أو في وسطه فقرأ الكتاب إلى آخره بطلت شفعته وعلى هذا عامة المشايخ ، وهو رواية عن محمد .

وعنه أن له مجلس العلم ، والروايتان في النوادر . وبالثانية أخذ الكرخي ; لأنه لما ثبت له خيار التملك لا بد له من زمان التأمل كما في المخيرة ، ولو قال بعدما بلغه [ ص: 383 ] البيع الحمد لله أو " لا حول ولا قوة إلا بالله " أو قال " سبحان الله " لا تبطل شفعته ; لأن الأول حمد على الخلاص من جواره والثاني تعجب منه لقصد إضراره ، والثالث لافتتاح كلامه فلا يدل شيء منه على الإعراض ، وكذا إذا قال من ابتاعها وبكم بيعت ; لأنه يرغب فيها بثمن دون ثمن ويرغب عن مجاورة بعض دون بعض ، والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة ، والإشهاد فيه ليس بلازم ، إنما هو لنفي التجاحد والتقييد بالمجلس إشارة إلى ما اختاره الكرخي .

ويصح الطلب بكل لفظ يفهم منه طلب الشفعة كما لو قال : طلبت الشفعة أو أطلبها أو أنا طالبها ; لأن الاعتبار للمعنى ، وإذا بلغ الشفيع بيع الدار لم يجب عليه الإشهاد حتى [ ص: 384 ] يخبره رجلان أو رجل وامرأتان أو واحد عدل عند أبي حنيفة ، وقالا : يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صبيا كان أو امرأة إذا كان الخبر حقا .

وأصل الاختلاف في عزل الوكيل وقد ذكرناه بدلائله وأخواته فيما تقدم ، وهذا بخلاف المخيرة إذا أخبرت عنده ; لأنه ليس فيه إلزام حكم ، وبخلاف ما إذا أخبره المشتري ; لأنه خصم فيه والعدالة غير معتبرة في الخصوم . والثاني طلب التقرير والإشهاد ; لأنه محتاج إليه لإثباته عند القاضي على ما ذكرنا ، ولا يمكنه الإشهاد ظاهرا على طلب المواثبة ; لأنه على فور العلم بالشراء فيحتاج بعد ذلك إلى طلب الإشهاد والتقرير وبيانه ما قال في الكتاب ( ثم ينهض منه ) يعني من المجلس ( ويشهد على البائع إن كان المبيع في يده ) معناه لم يسلم إلى المشتري ( أو على المبتاع أو عند العقار ، فإذا فعل ذلك استقرت شفعته ) وهذا لأن كل واحد منهما خصم فيه ; لأن للأول اليد وللثاني الملك ، وكذا يصح الإشهاد عند المبيع ; لأن الحق متعلق به ، فإن سلم البائع المبيع لم يصح الإشهاد عليه لخروجه من أن يكون خصما ، إذ لا يد له ولا ملك [ ص: 385 ] فصار كالأجنبي . وصورة هذا الطلب أن يقول : إن فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك . وعن أبي يوسف أنه يشترط تسمية المبيع وتحديده ; لأن المطالبة لا تصح إلا في معلوم . والثالث طلب الخصومة والتملك ، وسنذكر كيفيته من بعد إن شاء الله تعالى . .

التالي السابق


( باب طلب الشفعة والخصومة فيها )

لما لم تثبت الشفعة بدون الطلب شرع في بيانه وكيفيته وتقسيمه ، كذا في عامة الشروح . أقول : هذا بيان من الشراح لوجه ذكر الشطر الأول من شطري عنوان الباب وهو طلب الشفعة ، ولم يتعرض أحد منهم لوجه ذكر الشطر الثاني منهما وهو قوله والخصومة فيها ، ولعل وجهه أنه لما كان للخصومة في الشفعة شأن مخصوص وتفاصيل زائدة على سائر الخصومات كما ستظهر شرع في بيانها أيضا أصالة ( قوله اعلم أن الطلب على ثلاثة أوجه : طلب المواثبة وهو أن يطلبها كما علم ، حتى لو بلغه البيع ولم يطلب بطلت شفعته لما ذكرنا ) قال الشراح : قوله لما ذكرنا إشارة إلى قوله قبل الباب ; لأنه حق ضعيف يبطل بالإعراض فلا بد من الإشهاد والطلب ليعلم بذلك رغبته فيه دون إعراض عنه .

أقول : فلقائل أن يقول : ما ذكره هناك كما يدل على لزوم طلب المواثبة يدل أيضا على لزوم الإشهاد فيه حيث قال : فلا بد من الإشهاد والطلب ، وسيأتي التصريح منه بأن الإشهاد فيه ليس بلازم إنما هو لنفي التجاحد . والجواب أن المراد بالإشهاد المذكور هناك هو الذي في طلب التقرير دون طلب المواثبة يرشد إليه تقديم الإشهاد على الطلب في قوله فلا بد الإشهاد والطلب ، إذ لو كان المراد بالإشهاد هناك هو الإشهاد على طلب المواثبة لكان ذكر الطلب بعده لغوا ، إذ لا يتصور الإشهاد على طلب المواثبة بدون تحقق نفس ذلك الطلب ، ويدل عليه قوله قبيل ذلك وتستقر بالإشهاد إذ الشفعة لا تستقر إلا بعد طلب التقرير والإشهاد على مقتضى ما سيأتي في الكتاب فلا تنافي بين كلامي المصنف ( قوله ولقوله عليه الصلاة والسلام { الشفعة لمن واثبها } ) أقول : في وجه الاستدلال بهذا الحديث نوع إشكال ، [ ص: 383 ] لأنه إن كان مداره على نفي الشفعة عمن لم يواثبها بطريق مفهوم المخالفة فنحن لا نقول بمفهوم المخالفة فكيف يكون حجة لنا ؟ وإن كان مداره على أن لام الجنس في الشفعة ولام الاختصاص في { لمن واثبها } تدلان على اختصاص الشفعة بمن واثبها ، كما قالوا في { الحمد لله } أن لامي الجنس والاختصاص دلتا على الحمد بالله تعالى ، فيرد علينا النقض بقوله صلى الله عليه وسلم { الشفعة لشريك لم يقاسم } كما ذكر في صدر هذا الكتاب ، إذ يلزم حينئذ أن يدل ذلك أيضا على نفي الشفعة عمن ليس بشريك لم يقاسم مع أن الشفعة ثابتة عندنا لغير الشريك أيضا كالجار الملاصق فتأمل ( قوله والمراد بقوله في الكتاب أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة ، طلب المواثبة والإشهاد فيه ليس بلازم إنما هو لنفي التجاحد ) قال صاحب النهاية : وذلك ; لأن طلب المواثبة ليس لإثبات الحق ، وإنما شرط هذا الطلب ليعلم أنه غير معرض عن الشفعة وغير راض بجوار هذا الدخيل والإشهاد ليس بشرط فيه ا هـ .

واقتفى أثره صاحب العناية وعده تحقيقا حيث قال : وتحقيقه أن طلب المواثبة ليس لإثبات الحق ، وإنما شرط ليعلم أنه غير معرض عن الشفعة والإشهاد في ذلك ليس بشرط ا هـ . أقول : لقائل أن يقول : طلب التقرير والإشهاد أيضا ليس لإثبات الحق بل ليعلم أنه غير معرض عن الشفعة ، وإنما الذي لإثبات الحق طلب الخصومة مع أن الإشهاد في طلب التقرير لازم على ما يقتضيه كلام المصنف في بيان طلب التقرير والإشهاد فيما بعد ، فكان ذلك الوجه الذي عده صاحب العناية تحقيقا منقوضا بلزوم الإشهاد في طلب التقرير كما ترى . فإن قلت لزوم الإشهاد في طلب التقرير ; لأنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي ولا يمكنه إلا بالإشهاد كما ذكره المصنف فيما قبل الباب ، وسيأتي ذكره مرة أخرى في بيان طلب التقرير والإشهاد في هذا الباب . قلت : ذاك إنما يكون وجها للزوم الإشهاد في طلب التقرير ، وهو لا يدفع انتقاض الوجه الذي ذكره الشارحان المزبوران لعدم لزوم الإشهاد في طلب المواثبة بلزومه في طلب التقرير كما بيناه ، وكلامنا في هذا الوجه على أن في ذلك الوجه أيضا كلاما ; لأنه إن أريد أنه يحتاج إلى إثبات طلبه عند القاضي كأن اعترف به الخصم فهو ممنوع ، وإن أريد أنه يحتاج إلى إثباته عند التجاحد فكذا الحال في طلب المواثبة أيضا ، ثم أقول : يمكن أن يمنع لزوم الإشهاد في طلب التقرير أيضا بناء على ما ذكره الإمام قاضي خان في فتاواه حيث قال : وإنما سمي الثاني طلب الإشهاد لا لأن الإشهاد شرط بل ليمكنه إثبات الطلب عند جحود الخصم ا هـ . فإنه يدل على أن الإشهاد في طلب التقرير أيضا ليس بلازم ، بل إنما هو لنفي التجاحد كما في طلب المواثبة ، وبناء على ما ذكره [ ص: 384 ] صاحب البدائع حيث قال : وأما الإشهاد على ظاهر الطلب فليس بشرط ، وإنما هو لتوثقه على تقدير الإنكار كما في الطلب الأول ا هـ . فحينئذ كان الوجه الذي ذكره الشارحان المزبوران سالما من الانتقاض كما لا يخفى .

( قوله وقالا : يجب عليه أن يشهد إذا أخبره واحد حرا كان أو عبدا صبيا أو امرأة إذا كان الخبر حقا ) أقول : في التقييد بقوله إذا كان الخبر حقا ضرب إشكال ; لأن الكلام فيما إذا بلغ الشفيع بيع الدار بالإخبار ، وفي ذلك إنما يحصل له العلم بكون الخبر حقا لسبب الوثوق بإخبار مخبره ، والظاهر أن مدار الوثوق بإخبار مخبره فيما إذا كان طريق العلم منحصرا في الإخبار هو حال المخبر كعدالته وتعدده مما يورث الوثوق بإخباره ، ولهذا اعتبره أبو حنيفة رحمه الله ، وإذا لم يكن شيء من العدد والعدالة شرطا عندهما فيما نحن فيه وفي نظائره كما صرحوا به بل كان خبر الواحد مطلقا كافيا فما معنى تعليق وجوب الإشهاد على الشفيع إذا أخبره واحد مطلقا بكون الخبر حقا ولا طريق للعلم بكونه حقا في صورة هذه المسألة سوى إخبار الواحد .

فإن أفاد مثل ذلك الإخبار العلم تعين كونه حقا ، وإن لم يفده فلا مجال للعلم بكونه حقا ، وعلى كل حال لا يرى للتعليق بكونه حقا وجه ظاهر فتفكر [ ص: 385 ] ثم اعلم أنه مما يجب التنبه له أن المراد بالإشهاد هاهنا نفس طلب المواثبة لا الإشهاد على ذلك الطلب ، وإلا يلزم أن يكون قوله هاهنا يجب عليه أن يشهد مناقضا لقوله فيما مر والإشهاد فيه ليس بلازم ، وقد نبه عليه تاج الشريعة عند قول المصنف والإشهاد فيه ليس بلازم حيث قال : هذا لا يناقض قوله يجب عليه أن يشهد ; لأن المراد من الأول الإشهاد على الطلب ، ومن الثاني طلب المواثبة وأنه واجب على تقدير أن يطلب الشفعة ا هـ .

وسيأتي نظير هذا في الكتاب في أول باب ما يبطل به الشفعة ، فإنه لما قال هناك وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته حمل عامة الشراح الإشهاد المذكور هناك على نفس طلب المواثبة لئلا يخالف ما ذكره المصنف من قبل وذكر في الذخيرة وغيرها أيضا من أن الإشهاد في طلب المواثبة ليس بلازم ، وإنما هو لنفي التجاحد ( قوله وصورة هذا الطلب أن يقول : إن فلانا اشترى هذه الدار أنا شفيعها وقد كنت طلبت الشفعة وأطلبها الآن فاشهدوا على ذلك ) أقول : في هذا التصوير نوع تقصير ; لأنه إنما يتمشى فيما إذا كان الإشهاد عند الدار ، فإن الإشارة بهذه الدار إنما تتصور في هذه الصورة ، والمذكور فيما قبل مجموع الأقسام الثلاثة للإشهاد : أعني الإشهاد على البائع أو على المشتري أو عند العقار ، اللهم إلا أن يكون المراد مجرد التمثيل دون إحاطة الأقسام ، لكنه لا يدفع التقصير حقيقة ، فالأولى الجامع للأقسام ما ذكره صاحب الذخيرة حيث قال : وصورة هذا الطلب أن يحضر الشفيع عند الدار ويقول : إن [ ص: 386 ] فلانا اشترى هذه الدار وأنا شفيعها بالجوار بدار حدودها كذا ، وقد كنت طلبت الشفعة وأنا أطلبها الآن أيضا فاشهدوا بذلك ، أو يحضر المشتري ويقول : هذا مشتر من فلان دارا التي حدودها كذا وأنا شفيعها بالجوار إلى آخر ما ذكرنا . أو يحضر البائع ويقول : هذا باع من فلان دارا التي حدودها كذا إلى آخر ما ذكرنا ا هـ .




الخدمات العلمية