الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وذبيحة المسلم والكتابي حلال ) لما تلونا . ولقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة ، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك [ ص: 488 ] بالقصد .

وصحة القصد بما ذكرنا . والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا ، وإطلاق الكتابي ينتظم الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي ، لأن الشرط قيام الملة على ما مر . قال ( ولا تؤكل ذبيحة المجوسي ) لقوله عليه الصلاة والسلام { سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم } ولأنه لا يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا ودعوى . قال ( والمرتد ) لأنه لا ملة له . فإنه لا يقر على ما انتقل إليه ، بخلاف الكتابي إذا تحول إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله . قال ( والوثني ) لأنه لا يعتقد الملة .

[ ص: 489 ] قال ( والمحرم ) يعني من الصيد ( وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد ) والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم ، والذبح في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم ، وهذا لأن الذكاة فعل مشروع وهذا الصنيع محرم فلم تكن ذكاة ، بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع ، إذ الحرم لا يؤمن الشاة ، وكذا لا يحرم ذبحه على المحرم .

التالي السابق


( قوله وذبيحة المسلم والكتابي حلال ) لما تلونا ولقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } عنى بقوله لما تلونا قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } وهو في حق المسلم وقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } في حق الكتابي من باب اللف والنشر ، كذا ذكره تاج الشريعة ، وهو الأحسن عندي أيضا في بيان مراد المصنف هنا . قال صاحب العناية : وقوله لما تلونا إشارة إلى قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } ولما استشعر أن يقال { إلا ما ذكيتم } عام مخصوص لخروج الوثني والمرتد والمجوسي فلا يكون قاطعا في الإفادة ، ضم إليه قوله عز من قائل { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } إلى هنا كلامه أقول : فيه بحث .

أما أولا فلأنا لا نسلم أن الخطاب في قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } عام للكفار بل الظاهر أنه مخصوص بالمؤمنين كما يدل عليه السياق والسياق في النظم الشريف ، ألا يرى أن ما قبله أول سورة المائدة وهو قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم } ولا شك أن الخطابات الواقعة هنا للمؤمنين خاصة [ ص: 488 ] ثم قال عز وجل { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم } وقال القاضي البيضاوي وغيره من المفسرين : إن قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } إلخ بيان لما يتلى عليكم ، فلا جرم ويكون الخطاب في { حرمت عليكم } و { إلا ما ذكيتم } للمؤمنين خاصة أيضا فلا يكون مما يعم الوثني ونحوه ، ولئن سلم عمومه للوثني ونحوه أيضا فلا نسلم أنه من قبيل العام الذي خص منه البعض ، بل هو من قبيل العام الذي نسخ بعضه بإخراج الوثني والمجوسي والمرتد من حكمه ، إذ قد تقرر في علم الأصول أن التخصيص عندنا إنما يطلق على قصر العام على بعض ما يتناوله بما هو مستقل موصول بالعام ، وأن قصره على بعض ما يتناوله بما هو مستقل غير موصول به هو النسخ لا التخصيص ، وأن الذي لا يكون قطعيا إنما هو العام الذي خص منه بعض ما يتناوله دون العام الذي نسخ بعض ما يتناوله فإنه يكون قطعيا في الباقي بلا ريب ، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأول لأن الذي يخرج الوثني ونحوه غير موصول بقوله تعالى { إلا ما ذكيتم } فكان قطعيا في الإفادة .

ولئن سلم كونه ظنيا غير قاطع في الإفادة فهو كاف في إفادة المطلوب هنا بلا حاجة إلى ضم شيء آخر ، إذ قد تقرر في علم الأصول أيضا أن الدليل الظني يفيد وجوب العمل وإن لم يفد وجوب الاعتقاد وما نحن فيه من العمليات وأما ثانيا فلأن مثل ما ذكره صاحب العناية في قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } يتجه على الاستدلال بقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } بأن يقال أيضا : إنه عام مخصوص لخروج ما لم يذكر اسم الله عليه فيقتضي أن يضم إليه أيضا دليل آخر . وأما ثالثا فلأن الضم المذكور إنما يفيد في حق ذبيحة الكتابي دون ذبيحة المسلم لاختصاص الدليل المضموم بالكتابي فيلزم أن يبقى الدليل قاصرا عن إفادة حل ذبيحة المسلم على مبنى زعم الشارح المزبور ، اللهم إلا أن يدعي أن الدليل الثاني إذا أفاد حل ذبيحة الكتابي أفاد حل ذبيحة المسلم أيضا دلالة . ثم إن المراد بالطعام في قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب } ذبائحهم قال البخاري في صحيحه : قال ابن عباس : طعامهم ذبائحهم . واستدل صاحب الكافي وكثير من الشراح على ذلك بأنه لو لم يحمل على ذلك لم يكن لتخصيص أهل الكتاب بالذكر فائدة ، إذ يستوي الكتابي وغيره فيما سوى الذبائح من الأطعمة ، فإن المجوسي إذا اصطاد سمكة حل أكلها .

ورد عليهم صاحب العناية حيث قال بعد نقل استدلالهم المذكور : وفيه نظر ، فإن التخصيص باسم العلم لا يدل على النفي عما سواه ا هـ أقول : ليس ذاك بشيء ، إذ لا يخفى على الفطن أنه ليس مدار استدلالهم المذكور على أن التخصيص باسم العلم يدل على النفي عما سواه ، بل مرادهم كما ينادي عليه كلامهم أنه لو لم يحمل على ذلك لخلا تخصيص أهل الكتاب بالذكر في كلام رب العزة عن الفائدة تعالى عنه علوا كبيرا ، ولا يذهب عليك أن الاستدلال بهذا الوجه متمش على أصل من لا يقول بمفهوم المخالفة أيضا ، إذ لا يرضى أحد بخلو كلام الله تعالى عن الفائدة ( قوله والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا ) اختلف الشراح في تعيين مراد المصنف بقوله لما ذكرنا ، فقال صاحب النهاية [ ص: 489 ] وغاية البيان أراد به الآيتين المذكورتين وهما قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } وقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } لأن الخطاب عام ، ورده صاحب العناية حيث قال بعد نقله : وفيه نظر ، لأن عادته في مثله لما تلونا .

وقال تاج الشريعة : أراد به قوله لأن حل الذبيحة يعتمد الملة . ورده أيضا صاحب العناية حيث قال بعد نقله أيضا : وهذا ليس بمذكور في الكتاب أقول : يمكن أن يقال من جانب تاج الشريعة إن ذلك وإن لم يكن مذكورا في الكتاب صراحة إلا أنه مذكور فيه ضمنا حيث قال فيما مر : ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد ثم قال صاحب العناية : والأولى أن يجعل إشارة إلى الآية وإلى قوله ولأن به يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر وعادته في مثله ذلك انتهى أقول : فيه نظر ، لأن قوله ولأن به يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر إنما يدل على كون الذكاة شرط حل الذبيحة ولا يدل على أن أهل الذبح من هو كيف وتميز الدم النجس من اللحم الطاهر يحصل بذبح الوثني والمجوسي والمرتد أيضا مع أن أحدا منهم ليس بأهل للذبح قطعا ، وقول المصنف لما ذكرنا تعليل لاستواء الأقلف والمختون في الأهلية للذبح فكيف يصلح أن يجعل إشارة إلى ما لا دلالة فيه على ذلك أصلا وهو قوله لأن به يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر .

ثم أقول : هنا احتمال آخر أقرب مما ذكروا ، وهو أن يكون قوله لما ذكرنا إشارة إلى قوله ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة ، فإنه قد علم من ذلك أن مدار حل الذبيحة أن يكون الذابح ممن يعقل التسمية والذبيحة ويضبط ، ولا يخفى أن الأقلف والمختون لا يتفاوتان في ذلك فكانا سواء في حكم حل ذبيحتهما تدبر تفهم




الخدمات العلمية