الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( ومن شج رجلا فذهب عقله أو شعر رأسه دخل أرش الموضحة في الدية ) لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا أوضحه فمات ، وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر ، حتى لو نبت يسقط ، والدية بفوات كل الشعر وقد تعلقا بسبب واحد فدخل الجزء في الجملة كما إذا قطع أصبع رجل فشلت يده . [ ص: 292 ] وقال زفر : لا يدخل لأن كل واحد منهما جناية فيما دون النفس فلا يتداخلان كسائر الجنايات . وجوابه ما ذكرناه . قال ( وإن ذهب سمعه أو بصره أو كلامه فعليه أرش الموضحة مع الدية ) قالوا : هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف . وعن أبي يوسف أن الشجة تدخل في دية السمع والكلام ولا تدخل في دية البصر . وجه الأول أن كلا منهما جناية فيما دون النفس والمنفعة مختصة به فأشبه الأعضاء المختلفة ، بخلاف العقل لأن منفعته عائدة إلى جميع الأعضاء على ما بينا . [ ص: 293 ] ووجه الثاني أن السمع والكلام مبطن فيعتبر بالعقل ، والبصر ظاهر فلا يلحق به . قال ( وفي الجامع الصغير : ومن شج رجلا موضحة فذهبت عيناه فلا قصاص في ذلك ) عند أبي حنيفة . قالوا : وينبغي أن تجب الدية فيهما ( وقالا : في الموضحة القصاص ) قالوا : وينبغي أن تجب الدية في العينين . .

التالي السابق


( قوله لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا أوضحه فمات ) أقول : فيه نظر ، إذ لو كان فوات العقل بمنزلة الموت وكان هذا مدار دخول أرش الموضحة في الدية لما تم ما سبق في فصل فيما دون النفس من أنه قد روي أن عمر رضي الله عنه قضى بأربع ديات في ضربة واحدة ذهب بها العقل والكلام والسمع والبصر ، فإنهم صرحوا بأنه لو مات من الشجة لم يلزمه إلا دية واحدة ، فلو صح كون فوات العقل بمنزلة الموت لما لزم في ضربة ذهب بها العقل إلا دية واحدة فليتأمل ( قوله وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر حتى لو نبت يسقط ) قال صاحب النهاية : أي لو نبت الشعر والتأمت الشجة فصار كما كان لا يجب شيء فثبت بهذا أن وجوب أرش الموضحة بسبب فوات الشعر انتهى . وقال صاحب العناية : قوله وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر لبيان الجزئية ، وقوله حتى لو نبت يعني الشعر يسقط : يعني أرش الموضحة لبيان أن الأرش يجب بالفوات ، كذا في النهاية ، وليس بمفتقر إليه لكونه معلوما ا هـ أقول : إن قوله وليس بمفتقر إليه لكونه معلوما ليس بشيء ، إذ لا ريب أن كون وجوب أرش الموضحة بفوات جزء من [ ص: 292 ] الشعر لا بمجرد تفريق الاتصال ، والإيلام الشديد أمر خفي جدا غير معلوم بدون البيان والإعلام ، إذ كان الظاهر المتبادر مما ذكروا في فصل الشجاج أن لا يشترط في وجوب أرش الموضحة فوات جزء من الشعر بالكلية بأن لا ينبت بعد أصلا ، فإنهم قالوا : الموضحة من الشجاج هي التي توضح العظم : أي تبينه ثم بينوا حكمها بأنه القصاص إن كانت عمدا ، ونصف عشر الدية إن كانت خطأ ، ولا شك أن اسم الموضحة وحدها المذكور يتحققان فيما نبت فيه الشعر أيضا ، فكان اشتراط أن لا ينبت الشعر بعد البرء أصلا في وجوب أرشها أمرا خفيا محتاجا إلى البيان بل إلى البرهان ، ولهذا قال المصنف : وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر حتى لو نبت يسقط .

وقال في الكافي : ووجوب أرش الموضحة باعتبار ذهاب الشعر ، ولهذا لو نبت الشعر على ذلك الموضع واستوى لا يجب شيء . وقال في المبسوط : وجوب أرش الموضحة باعتبار ذهاب الشعر بدليل أنه لو نبت الشعر على ذلك الموضع فاستوى كما كان لا يجب شيء إلى غير ذلك من البيانات الواقعة من الثقات ( قوله وجوابه ما ذكرناه ) قال في العناية : قيل يعني به قوله لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء ، وقيل : قوله وقد تعلقا بسبب واحد وهو أشمل من الأول انتهى . أقول : في قوله وهو أشمل بحث ، لأن المراد بسبب واحد في قول المصنف وقد تعلقا بسبب واحد إنما هو فوات الشعر كما يرشد إليه قوله فدخل الجزء في الجملة ، لأن الجزئية إنما توجد في صورة فوات شعر رأسه بالشجة لا في صورة ذهاب عقله بها ، وقد صرح الشراح حتى صاحب العناية نفسه بكون مراد المصنف بسبب واحد هناك فوات الشعر حيث قال في شرحه قوله وقد تعلقا : يعني أرش الموضحة والدية بسبب واحد وهو فوات الشعر ، لكن سبب الموضحة البعض وسبب الدية الكل فدخل الجزء في الجملة انتهى .

ولا يخفى أن هذا المعنى يختص بالمسألة الثانية ، وهي صورة ذهاب شعر رأسه ، كما أن قوله لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء مختص بالمسألة الأولى وهي صورة ذهاب عقله ، فكيف يصح القول بأن القول الثاني أشمل من الأول ؟ والوجه عندي أن يكون مراد المصنف بقوله ما ذكرناه في قوله وجوابه ما ذكرناه مجموع ما ذكره في تعليلي المسألتين فحينئذ يوجد الشمول بلا غبار كما لا يخفى ( قوله وجه الأول أن كل واحد جناية فيما دون النفس والمنفعة مختصة به فأشبه الأعضاء المختلفة ، بخلاف العقل لأن منفعته عائدة إلى جميع الأعضاء ) قال في معراج الدراية : قال الهندواني : كنا نفرق بهذا الفرق حتى رأيت ما ينقضه ، وهو أنه لو قطع يده فذهب عقله أن عليه دية العقل وأرش اليد بلا خلاف من أحد ، فلو كان زوال العقل كزوال الروح لما وجب أرش اليد كما لو مات ، والصحيح من الفرق أن الجناية وقعت على عضو واحد في العقل ، ووقعت في السمع والبصر على عضوين فلا يدخل انتهى .

أقول : كما ينتقض الفرق المذكور في الكتاب [ ص: 293 ] بالمسألة التي ذكرها الهندواني كذلك ينتقض ما عده صحيحا من الفرق بتلك المسألة ، فإن الجناية وقعت فيها أيضا على عضو واحد وهو اليد ، مع أنه لم يدخل أرش اليد في الدية ، وإن اعتبر العقل في تلك المسألة عضوا مغايرا لعضو اليد فتكون الجناية فيها واقعة على العضوين بذلك الاعتبار ، فلم لم يعتبر العقل في مسألة الشجة أيضا عضوا مغايرا لمحل الشجة حتى تكون هذه المسألة أيضا بذلك الاعتبار من قبيل ما وقعت الجناية على عضوين فلا يدخل الأرش في الدية كما في السمع والبصر . وبالجملة ما عده الهندواني صحيحا من الفرق هنا لا يخلو عن الانتقاض أيضا فتأمل ( قوله ووجه الثاني أن السمع والكلام مبطن ) قال صاحب العناية : قيل يراد به الكلام النفسي بحيث لا ترتسم فيها المعاني ولا يقدر على نظم التكلم ، فإن كان المراد ذلك كان الفرق بينه وبين ذهاب العقل عسرا جدا ، وإن كان المراد به التكلم بالحروف والأصوات ففي جعله مبطنا نظر انتهى .

أقول : يمكن أن المراد به هو الثاني ، والمراد بكون السمع والكلام مبطنا كون محلهما مستورا غائبا عن الحس ، بخلاف البصر فإن محله ظاهر مشاهد فيندفع النظر كما ترى




الخدمات العلمية