الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل من المتشابه آيات الصفات. ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد، نحو: الرحمن على العرش استوى . كل شيء هالك إلا وجهه . يد الله فوق أيديهم ، ونحوها. وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها. أخرج أبو القاسم اللكائي من طريق في السنة، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة في قوله: الرحمن على العرش استوى ، قال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر. وأخرج أيضا عن محمد بن الحسن، قال: اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه. وقال الترمذي في الكلام على حديث الرؤية: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة - مثل سفيان الثوري، ومالك، وابن المبارك، وابن عيينة، ووكيع، [ ص: 112 ] وغيرهم - أنهم قالوا: نروي هذه الأحاديث كما جاءت ونؤمن - بها، ولا يقال كيف، ولا نفسر ولا نتوهم. وذهبت طائفة من أهل السنة أنا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى، وهذا مذهب الخلف. وكان إمام الحرمين يذهب إليه، ثم رجع عنه، فقال في الرسالة النظامية: الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها. وقال ابن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها. واختار ابن برهان مذهب التأويل، قال: ومنشأ الخلاف بين الفريقين: هل يجوز أن يكون في القرآن شيء لم يعلم معناه أم لا، بل يعلمه الراسخون. وتوسط ابن دقيق العيد، فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر، أو بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به التنزيه. قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، مما في قوله: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله فنحمله على حق الله وما يجب له. وكذا استواؤه على العرش بالعدل والقهر، كقوله: قائما بالقسط ، فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنه أعطى كل شيء خلقه موزونا بحكمته المبالغة. وقد أكثر بعض الناس في جواب هذه الآية حتى أنهاه إلى عشرين حذفناها للإطالة. ومن ذلك قوله تعالى: تعلم ما في نفسي . خرج على سبيل المشاكلة، مرادا به الغيب، لأنه مستتر كالنفس. [ ص: 113 ] وقوله: ويحذركم الله نفسه ، أي عقوبته، وقيل إياه. وقال السهيلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد. وقد استعمل من لفظها النفاسة، والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه. وقال ابن اللبان: أولها العلماء بتأويلات، منها أن النفس عبر بها عن الذات، قال: وهذا وإن كان سائغا في اللغة، ولكن تعدى الفعل إليها بفي المفيد للظرفية محال عليه تعالى. وقد أولها بعضهم بالغيب، أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك. قال: وهذا حسن، لقوله آخر الآية: إنك أنت علام الغيوب. ومن ذلك " الوجه "، وهو مؤول بالذات. وقال ابن اللبان - في قوله: يريدون وجهه . إنما نطعمكم لوجه الله الدهر: 9. ابتغاء وجه الله . المراد إخلاص النية. وقال غيره في قوله: فثم وجه الله ، أي الجهة التي أمر بالتوجه إليها. ومن ذلك "العين"، وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك، بل قال بعضهم: إنها حقيقة في ذلك، خلافا لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز في تسمية العضو بها. وقال ابن اللبان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة، بها سبحانه ينظر للمؤمنين وبها ينظرون إليه. قال: فلما جاءتهم آياتنا مبصرة . نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقا لأنها المرادة المنسوبة إليه. وقال: قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها . قال: فقوله: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا . أي بآياتنا تنظر إليها بنا وننظر بها إليك، قال: ويؤيد أن المراد بالأعين الآيات [ ص: 114 ] كونها علل بها الصبر لحكم ربه صريحا في قوله: إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك . قال: وقوله في سفينة نوح: تجري بأعيننا ، أي بآياتنا، بدليل قوله: وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها . وقال: ولتصنع على عيني أي على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك: أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم . انتهى. وقال غيره: المراد في الآيات كلاءته وحفظه. ومن ذلك اليد في قوله تعالى: لما خلقت بيدي . يد الله فوق أيديهم ، مما عملت أيدينا . وأن الفضل بيد الله ، وهي مؤولة بالقدرة. وقال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: أولي الأيدي والأبصار . ولم يمدحهم بالجواهر، لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر. قال الأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع. والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلا أنها أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فإن في اليد تشريفا لازما. وقال البغوي في قوله: بيدي : في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة، وأنهما هنا صفتان من صفات ذاته. وقال مجاهد: اليد هاهنا صفة وتأكيد، لقوله: ويبقى وجه ربك . قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صفة لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس. [ ص: 115 ] وقال ابن اللبان: فإن قلت: فما حقيقة اليدين في خلق آدم، قلت: الله أعلم بما أراد، ولكن الذي استفسرته من تدبر كتابه أن اليدين استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله ولنوره القائم بصفة عدله، ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله، قال: وصاحبة الفضل هي اليمين التي ذكرها في قوله: والسماوات مطويات بيمينه . ومن ذلك قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق . ومعناه عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق. وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة، عن ابن عباس - أنه سئل عن قوله: يوم يكشف عن ساق . قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:

اصبر عناق إنه شر باق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق     وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة. ومن ذلك صفة الفوقية في قوله: وهو القاهر فوق عباده . يخافون ربهم من فوقهم المراد بها العلو من غير جهة. وقد قال فرعون: وإنا فوقهم قاهرون . ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني. ومن ذلك صفة المجيء في قوله: وجاء ربك الفجر: 23. أو يأتي ربك، أي أمره، لأن الملك مجيء بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى: وهم بأمره يعملون ، فصار كما لو صرح به. وكذا قوله: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون : أي اذهب بربك، أي بتوفيقه وقربه. ومن ذلك صفة الحب في قوله: يحبهم ويحبونه . فاتبعوني يحببكم الله . [ ص: 116 ] وصفة الغضب في قوله: " غضب الله " . وصفة الرضا في قوله: " رضي الله عنهم " . وصفة العجب في قوله: بل عجبت ويسخرون الصافات: 11، - بضم التاء . وقوله: وإن تعجب فعجب قولهم . وصفة الرحمن في آيات كثيرة. وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسر بلازمها. قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة، والفرح. والسرور، والغضب والحياء والكره والاستهزاء لها أوائل ولها غايات، مثاله الغضب، فإن أوله غليان القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار. وكذلك الحياء له أول، وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس. انتهى. وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه. وسئل الجنيد عن قوله: وإن تعجب فعجب قولهم فقال: إن الله لا يعجب من شيء. ولكن الله وافق رسوله، فقال: وإن تعجب فعجب قولهم ، أي هو كما تقول. ومن ذلك لفظة "عند " في قوله: عند ربك الأعراف: 206. و من عنده المائدة: 52، ومعناها الإشارة إلى التمكين والزلفى والرفعة. ومن ذلك قوله: وهو معكم أين ما كنتم الحديد: 4 ، أي بعلمه. وقوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم . قال البيهقي: الأصح أن معناه أنا المعبود في السماوات وفي الأرض، مثل قوله: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . الزخرف: 84. [ ص: 117 ] وقال الأشعري: الظرف متعلق بيعلم، أي عالم بما في السماوات والأرض. ومن ذلك قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان . أي نقصد جزاءكم. قال ابن اللبان: ليس من المتشابه قوله تعالى: إن بطش ربك لشديد لأنه فسره بعده بقوله: إنه هو يبدئ ويعيد . تنبيها على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه وإعادته، وجميع تصرفاته في مخلوقاته.

ومن المتشابه أوائل السور. والمختار فيها أنها أيضا من الأسرار التي انفرد الله بعلمها. وقد كثرت الأقوال فيها، ومرجعها كلها إلى قول واحد، وهو أنها حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى. والاكتفاء ببعض الكلمة معهود من العربية، قال الشاعر:

قلت قفي فقالت قاف

أي وقفت. وقال:

بالخير خيرات وإن شرا فا ...     ولا أريد الشر إلا أن تا
قالوا جميعا كلهم ألا فا     أراد ألا تركبوا ألا فاركبوا.

وهذا القول اختاره الزجاج. وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل على الكلمة التي هو منها. وقيل: إنها الاسم الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وكذا نقله ابن عطية. وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: هو اسم الله الأعظم. قال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال ابن حجر: وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر [ ص: 118 ] عن عد " أبي جاد " والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور. وقد تحصل لي فيها عشرون قولا، وأزيد، ولا أعرف واحدا يحكم عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم. والذي أقول إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -. بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة، وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفا عندهم لا إنكار فيه. وقيل: هي تنبيهات كما في النداء - عده ابن عطية مغايرا للقول بأنها فواتح. والظاهر أنه معناه. قال أبو عبيدة: الم افتتاح كلام. وقال الحوفي: القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده غزيرة، فيريد أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم البشر مشغولا، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله الم، والر، وحم، ليسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت جبريل، فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما، لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتي فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قرع سمعه. وقيل: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سببا لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترق القلوب وتلين الأفئدة. عد هذا جماعة قولا مستقلا. والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى. وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف: [ ص: 119 ] ألف، ب، ت، ث، فجاء بعضها مقطعا مؤلفا، ليدل القوم الذي نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تقريعا لهم، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفونها، ويبنون كلامهم عليها. وفي المحتسب لابن جني أن ابن عباس قرأ حم عسق، بلا عين ويقول: السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون. قال ابن جني: وفي هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور، ولو كانت أسماء لله لم يجز تحريف شيء منها. وقال الكرماني في غرائبه: في قوله: الم أحسب الناس ، الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها. فإن قلت: هل للمحكم على المتشابه مزية أم لا، فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع، أو بالأول فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء، وأنه منزل بالحكمة. وأجاب أبو عبد الله البكراباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه، ويخالفه من وجه، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع، وأنه لا يختار القبيح. ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد. فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال. والمتشابه محتاج إلى فكرة ونظر، ليحمله على الوجه المطابق، ولأن المحكم أصل، والعلم بالأصل أسبق، ولأن المحكم يعلم مفصلا، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا. فإن قلت: وقد أراد الحق البيان والهدى لعباده، وأمر بذلك رسوله في قوله: ليبين للناس ما نزل إليهم. والجواب أن له فوائد: أحدها: الحث للعلماء على النظر فيه الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب إن كان مما يمكن علمه. [ ص: 120 ] وثانيها: إظهار التفاضل وتفاوت الدرجات، إذ لو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق، ولم يظهر فضل العالم على غيره. وإن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد: منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه، والتفويض والتسليم، والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه. وإقامة الحجة عليهم، لأنه لو أنزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وإفهامهم دل على أنه نزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف. وقال الإمام فخر الدين: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر، كقوله: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . والقدري يقول: هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض الذم لهم في قوله: وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر . وفي موضع آخر: وقالوا قلوبنا غلف . ومنكر الرؤية يتمسك بقوله: لا تدركه الأبصار . ومثبت الجهة يتمسك بقوله: يخافون ربهم من فوقهم . الرحمن على العرش استوى . والنافي يتمسك بقوله: ليس كمثله شيء . ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة له متشابهة، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا. قال: والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فوائد لوجوه: منها أنه يوجب مزيد الشقة في الوصول إلى المراد منه، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. [ ص: 121 ] ومنها أنه لو كان القرآن كله محكما لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلا لما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، والانتفاع به، فلما كان مشتملا على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله، ويتوصل إلى الحق. ومنها أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة. ومنها أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنفر في أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول هو الذي يخاطبون به في أول الأمر من التشابهات. والقسم الثاني هو الذي يكشف لهم في آخر الأمر من المحكمات.

التالي السابق


الخدمات العلمية