الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ثم ذكر الثالث منها وهي النجاسة المتوسطة وهي منقسمة كما قبلها إلى عينية وإلى حكمية ، وقد شرع يتكلم على ذلك فقال ( وما نجس بغيرهما ) أي غير الكلب وبول الصبي المتقدم ( إن لم تكن عينا ) بأن كانت حكمية ، وهي ما لا يدرك لها عين ولا وصف ، سواء أكان عدم [ ص: 258 ] الإدراك لخفاء أثرها بالجفاف كبول جف فذهبت عينه ولا أثر له ولا ريح فذهب وصفه أم لا ، لكون المحل صقيلا لا تثبت عليه النجاسة كالمرآة والسيف ( كفى جري الماء عليه ) وإن لم يكن بفعل فاعل كمطر ولو سكينا سقيت وهي محماة نجسا فلا يحتاج إلى سقيها ماء طهورا أو لحما طبخ بنجس فيطهر بغسله ولا حاجة لإغلائه ولا لعصره ( وإن كانت ) عينا سواء أتوقف طهرها على عدد أم لا ، وهي ما نجس طعما أو لونا أو ريحا كما يؤخذ من تعريف نقيضها المار ( وجب ) بعد زوالها ( إزالة الطعم ) وإن عسر زواله لسهولته غالبا فألحق به نادرها لا سيما وبقاؤه يدل على بقائها .

                                                                                                                            نعم قال في الأنوار : لو لم يزل إلا بالقطع عفي عنه ، ويظهر تصويره فيما إذا دميت لثته أو تنجس فمه بنجاسة أخرى ، وليس في هذه ذوق نجاسة محققة لأنه إنما حصل بعد الغسل وغلبة الظن بحصول الطهارة ، فلا يرد عليه تصريحهم بحرمة ذوق النجاسة وإنما نظيره ذوقها قبل الغسل ولا شك في منعه .

                                                                                                                            وقد قال البلقيني : لو غلب على ظنه زوال طعمها جاز له ذوق المحل استظهارا .

                                                                                                                            وتقدم في الأواني أن المرجح فيها جواز الذوق ، وأن محل منعه إذا تحقق وجودها فيما يريد ذوقه انحصرت فيه ( ولا يضر ) ( بقاء لون ) كلون الدم ( أو ريح ) كريح الخمر [ ص: 259 ] ( عسر زواله ) بحيث لا يزول بالمبالغة بنحو الحت والقرص سواء في ذلك الأرض والثوب والإناء وسواء أطال بقاء الرائحة أم لا ، ومعنى قوله لا يضر : أنه طاهر حقيقة لا نجس معفو عنه حتى لو أصابه بلل لم يتنجس .

                                                                                                                            إذ لا معنى للغسل إلا الطهارة والأثر الباقي شبيه بما يشق الاحتراز عنه ، وظاهر إطلاقه أنه لا فرق بين المغلظة وغيرها ، فلو عسرت إزالة لون نحو دم مغلظ أو ريحه طهر ، وهو كذلك خلافا للزركشي في خادمه ، وإنما لم يعف عن قليل دمه لسهولة إزالة جرمه وخرج ما سهل زواله فلا يطهر مع بقائه لدلالته على بقاء العين ( وفي الريح قول ) أنه يضر أمعاءه كسهل الزوال ( قلت : فإن أبقيا معا ) في محل واحد وإن عسر زوالهما ( ضر على الصحيح ، والله أعلم ) لقوة دلالتهما على بقاء العين ، فإن أميا في محلين لم يضر كما لو تخرقت بطانة الخف وظهارته من محلين غير متحاذيين لانتفاء العلة التي هي قوة دلالتهما على بقائها ، ولو توقف زوال ذلك ونحوه على أشنان أو صابون أو حت أو قرص وجب وإلا استحب ، وبه يجمع بين قولي الوجوب والاستحباب ، والأوجه أن يعتبر لوجوب نحو الصابون أن يفضل ثمنه عما يفضل عنه ثمن الماء في التيمم ، وإن لم يقدر على الحت ونحوه لزمه أن يستأجر عليه بأجرة مثله إذا وجدها فاضلة عن ذلك أيضا ، وأنه لو تعذر ذلك حسا أو شرعا احتمل أن لا يلزمه استعماله بعد ذلك لو وجده لطهارة المحل حقيقة ، ويحتمل اللزوم وأن كلا من الطهر والعفو إنما كان للتعذر وقد زال ، وهذا هو الموافق للقواعد ، بل قياس فقد الماء عند حاجته عدم الطهر مطلقا وهو الأوجه ، ومقابل الصحيح أنه لا يضر لاغتفارهما منفردين فكذا مجتمعين ; وأفتى الوالد رحمه الله تعالى في ماء نقل من البحر ووضع في زير فوجد فيه طعم زبل أو ريحه أو لونه بنجاسته ، فقد قال الأصحاب : وشرع تقديم المضمضة والاستنشاق ليعرف طعم الماء ورائحته انتهى . [ ص: 260 ] وقضية هذا أنه لو وجد فيه طعم شيء لا يكون إلا للنجاسة حكم بنجاسته ، وبه صرح البغوي في تعليقه ، ولا يشكل عليه أنه لا يحد بريح الخمر لوضوح الفرق .

                                                                                                                            وصورة المسألة ألا يكون بقربه جيفة يحتمل أن يكون ذلك منها ، ونظيره ما لو رأى في فراشه أو ثوبه منيا لا يحتمل أنه من غيره فإنه يجب عليه الغسل .

                                                                                                                            هذا والأوجه خلاف ما قاله البغوي ، لأن الأصل طهارة الماء وعدم وقوع النجاسة فيه ، فالحكم مع ذلك بنجاسة الماء حكم بها بالشك ، ويفرق بينه وبين ما ذكر من نظائره ، ولا يرد عليه ما نقلناه عن الولد في الماء المزيل لأنه عهد بول الحيوانات في الماء المنقول منه في الجملة ، فأشبه السبب الظاهر ، ولا كذلك مسألتنا فلم يتقدم ما يمكن الإحالة عليه أصلا ، ولا ما نقل عن الأصحاب من حكمة شروع المضمضة والاستنشاق ، إذ ليس فيه تصريح بأن الطعم مقتض لنجاسته لإمكان حمله على البحث عن حاله إذا وجد طعمه أو ريحه متغيرا .

                                                                                                                            نعم يمكن حمل كلام البغوي على ما إذا علم سبق ما يحال عليه ( ويشترط ورود الماء ) على محلها إن كان قليلا ، بخلاف ما إذا وردت عليه فإنه ينجس بالملاقاة كما علم مما مر ، فلو طهر إناء أدار الماء على جوانبه ، وقضية كلام الروضة أنه يطهر قبل أن يصب النجاسة منه وهو كذلك إذا لم تكن النجاسة مائعة باقية فيه .

                                                                                                                            أما لو كانت مائعة باقية فيه لم يطهر ما دام عينها مغمورا بالماء ( لا العصر في الأصح ) فيهما لكنه يستحب فيما يمكن عصره خروجا من خلاف من أوجبه ، ولا فرق بين ما له خمل كالبساط أو لا كما اقتضاه إطلاقهم ، فقول الغزي يشترط اتفاقا في الأول ضعيف ، ومقابله في الأولى قول ابن سريج في الماء القليل إذا أورد عليه المحل النجس لتطهيره كالثوب يغمس في إجانة ماء لذلك أنه يطهره كما لو كان واردا ، بخلاف ما لو ألقته الريح فيه فينجس به ، والخلاف في الثانية مبني على الخلاف الآتي في طهارة الغسالة إن قلنا بطهارتها وهو الأظهر لم يشترط العصر وإلا اشترط ، ويقوم مقامه الجفاف في الأصح .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : ولا أثر له ولا ريح ) الجملة حالية ( قوله : من تعريف نقيضها المار ) أي في قوله في تعريف الحكمية وهي ما لا يدرك له عين ولا وصف ( قوله : بعد زوالها ) أي زوال جرمها ففي العبارة تسامح .

                                                                                                                            ( قوله : فألحق به ) أي بالغالب ، وقوله : نادرها : أي الزوال ، وأنث الضمير لأنه بمعنى الإزالة ( قوله : عفي عنه ) أي فيحكم بطهارة محله مع ماء الطعم أخذا مما سيأتي للشارح فيما لو عسر زوال اللون أو الريح من قوله ومعنى قوله إلخ ( قوله : ويظهر تصويره ) أشار به إلى دفع ما يقال كيف يدرك بها الطعم مع حرمة ذوق النجاسة ، أو يقال إنما يحرم ذوق النجاسة إذا كانت محققة ، وما هنا اختبار لمحلها هل بقيت فيه النجاسة أو زالت كما يأتي ( قوله : وليس في هذا . . إلخ ) لا يظهر ترتيبه على ما ذكره من التصوير بل هو جواب مستقل ( قوله : وإنما نظيره إلخ ) وعليه فلو أصيب الثوب بنجاسة لا يعرف طعمها فأراد ذوقها قبل الغسل ليتصور الطعم فيعلمه لو صب الماء عليه ثم ذاقه ، فظاهر عبارته امتناع ذلك لتحقق النجاسة حال ذوق المحل فيغسل إلى أن يغلب على الظن زوال النجاسة ثم إذا ذاقه فوجد فيه طعما حمله على النجاسة ( قوله : جاز له ذوق المحل ) ومنه يعلم ما صرح به حج حيث قال : وظاهر أنه بعد ظن الطهر لا يجب شم ولا نظر .

                                                                                                                            نعم ينبغي شمه هنا ، فعلم أنه لو زال شمه أو بصره خلقة أو لعارض لم يلزمه سؤال غيره أن يشم أو ينظر له ( قوله : وانحصرت فيه ) قضيته أنه لو ذاق أحدهما امتنع عليه ذوق [ ص: 259 ]

                                                                                                                            الآخر لانحصار النجاسة فيه ، وقد مر له ما يخالفه ( قوله : والقرص ) أي بالصاد بالمهملة .

                                                                                                                            قال في المصباح : قال الجوهري : القرص الغسل بأطراف الأصابع ، وقيل هو القلع بالظفر ونحوه ( قوله : والأثر الباقي إلخ ) أي وهو لا ينجس ( قوله : عن قليل دمه ) أي المغلظ وقوله : لسهولة إزالة إلخ : أي فلو عولج ولم يزل كان مما نحن فيه : أي فيعفى عنه ( قوله : ضر ) قضيته أنه لا فرق في الضرر إذا بقيا معا بين كونهما من نجاسة واحدة أو نجاستين ، وقد يؤيد ذلك قوله : قبل كلون الدم وريح الخمر ، لكن نقل عن بعضهم تقييد الضرر بما إذا كانا في محل واحد من نجاسة واحدة ، ويوجه بأن بقاءهما من نجاسة واحدة دليل على قوة النجاسة ، بخلاف ما لو كانا من ثنتين فإن كل واحدة منهما مستقلة لا ارتباط لها بالأخرى وكل واحدة بانفرادها ضعيفة ( قوله : وأنه لو تعذر ذلك ) أي نحو الصابون ( قوله : وهذا هو الموافق للقواعد ) الإشارة راجعة لقوله ويحتمل اللزوم ( قوله : عدم الطهر إلخ ) ومقتضى هذه الأوجه أنه يقضي ما صلاه به مدة الفقد ، لكن عبارة قم قوله : وجب إزالة أوصافه : أي ولو بالاستعانة بنحو صابون حتى لو لم يجده لم يطهر المحل كما لو لم يجد الماء أو التراب في المغلظة وفاقا في ذلك لمر ، لكنه خالف ذلك ثانيا وقال : لو عجز عن تحصيله فالمتجه أنه يحكم بالطهارة للضرورة ، وتصح صلاته بلا قضاء ، ومتى قدر عليه وجبت الاستعانة به في إزالة الوصف لزوال الضرورة فإنها تتقدر بقدرها انتهى بمعناه .

                                                                                                                            وذكر غالبه في شرحه للمنهاج ، ولا يخفى أن فيه نظرا لأن من يوجب الاستعانة يجعلها شرطا في التطهير ، وشرط التطهير إذا فات لعذر لا يحصل التطهير ، غاية الأمر أن تصح الصلاة للضرورة ويقضيها فليحرر .

                                                                                                                            ثم اعترف بأن القياس يقتضي أنه لا يطهر ، بل وبأنه ظاهر كلامهم ( قوله : أنه لا يضر ) أي بقاؤهما ( قوله : فوجد فيه طعم زبل أو ريحه أو لونه بنجاسته ) نقل بالدرس عن فتاوى والده القول بعدم النجاسة انتهى .

                                                                                                                            ويوجه بأن هذا مما عمت به البلوى وما كان [ ص: 260 ] كذلك لا ينجس ( قوله : حكم بنجاسته ) ضعيف ( قوله : لوضوح الفرق ) أي وهو أن الحد يسقط بالشبهة ولا كذلك هنا ( قوله : ولا كذلك مسألتنا ) هي ما لو وجد في الماء طعم لا يكون إلا للنجاسة ( قوله : وهو كذلك ) منه ما لو تنجس فمه بدم اللثة أو بما يخرج بسبب الجشاء فتفله ثم تمضمض وأدار الماء في فمه بحيث عمه ولم يتغير بالنجاسة فإن فمه يطهر ولا يتنجس الماء فيجوز ابتلاعه لطهارته ، فتنبه له فإنه دقيق ، هذا وبقي ما لو كانت تدمى لثته من بعض المآكل بتشويشها على لحم الأسنان دون بعض ، فهل يعفى عنه فيما تدمى به لثته لمشقة الاحتراز عنه أم لا لإمكان الاستغناء عنه بتناول البعض الذي لا يحصل منه دمي اللثة ؟ فيه نظر .

                                                                                                                            والظاهر الثاني لأنه ليس مما تعم به البلوى حينئذ ، وبتقدير وقوعه يمكن تطهير فمه منه وإن حصل له مشقة لندرة ذلك في الجملة ( قوله : لكنه يستحب إلخ ) ومحل الخلاف إن صب عليه في إجانة مثلا ، فإن صب عليه وهو بيده لم يحتج لعصر قطعا كالنجاسة المخففة والحكمية انتهى حج ( قوله : خروجا من خلاف إلخ ) منه تعلم أن الاستحباب لرعاية الخلاف لا يتوقف على كونه بين الأئمة الأربعة ، بل يسن الخروج منه وإن كان خلافا لأهل المذهب كما هنا ، لكن ذكر حج أنه يشترط لاستحباب الخروج منه قوة الخلاف ، ومحل ذلك فيما لم ينصوا على استحبابه خروجا من الخلاف .

                                                                                                                            أما هو فتسن مراعاته وإن شذ .

                                                                                                                            قال حج : ويجوز أن يكون سنهم له لدليل قام عندهم في ذلك ، إما بالاعتراض على من حكم عليه بالشذوذ ، أو بكونه مع شذوذه عندنا موافقا لبعض المذاهب ، فيكون فعله خروجا من خلاف ذلك المذهب ( قوله : يشترط ) أي العصر ، وقوله : في الأول هو قوله : ما له خمل ( قوله : ويقوم مقامه ) أي على المقابل



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 257 ] قوله : وهي ما لا يدرك لها عين ) المراد بالعين هنا الجرم ، فهو غير العين المذكورة في المتن [ ص: 258 ] قوله : ولا أثر له ) يعني من طعم أو لون بقرينة ما بعده ( قوله : أم لا لكون المحل صقيلا ) صريحه أن نجاسة الصقيل حكمية ولو قبل الجفاف ، وليس كذلك بل نجاسته حينئذ عينية ، وإنما نصوا عليه للإشارة للرد على المخالف القائل بأنه يكتفى فيه بالمسح .

                                                                                                                            وعبارة الروضة : قلت إذا أصابت النجاسة شيئا صقيلا كسيف وسكين ومرآة لم يطهر بالمسح عندنا بل لا بد من غسلها ( قوله : بعد زوالها ) أي زوال جرمها ، وفي نسخة : زوال عينها ( قوله : قال في الأنوار : لو لم يزل إلا بالقطع نفى عنه ) أي ولم يطهر بخلاف ما سيأتي في اللون والريح خلافا لمن وهم فيه ( قوله : ويظهر تصويره ) يعني تصوير إدراك بقاء الطعم على وجه غير محرم وإن قصرت عنه عبارته ( قوله وليس في هذا ذوق نجاسة محققة ; لأنه إلخ ) هذا جواب مستقل لا تعلق له بما قبله ، وكان الأولى له الاقتصار عليه ; لأن الكلام هنا في نجاسة غسلها وشك في طعمها لا في نجاسة شك فيها ابتداء ( قوله : وتقدم في الأواني إلخ ) مراده به جواب آخر ، وهو أن المرجح أن حرمة الذوق إنما هي عند تحقق النجاسة ، إلا أن الأنسب هنا جواب البلقيني لما قدمناه [ ص: 259 ] قوله : ولو توقف زوال ذلك ) يعني لون النجاسة أو ريحها . وليس خاصا بقول المصنف . قلت : فإن بقيا إلخ وإن [ ص: 260 ] أوهمه سياقه ( قوله : إذ ليس فيه تصريح إلخ ) وحينئذ فلا شاهد فيه لإفتاء والده ، على أن الإفتاء المذكور لا يخلو عن توقف وإن وجهه الشارح بقوله ; لأنه عهد بول الحيوانات إلخ ، وعليه فيقال : بمثله في نظائر ذلك ، ويكون تقييدا لكلام البغوي




                                                                                                                            الخدمات العلمية