الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            [ ص: 171 ] فصل ) في صدقة التطوع وهي المرادة عند الإطلاق غالبا ( صدقة التطوع سنة ) مؤكدة للآيات والأحاديث الكثيرة الشهيرة فيها منها الخبر الصحيح { كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس } وقد تحرم إن علم : أي ولو بغلبة ظنه أنه يصرفها في معصية .

                                                                                                                            لا يقال : تجب للمضطر لتصريحهم بعدم وجوب البدل إلا بعوض ولو في الذمة لمن لم يكن معه شيء .

                                                                                                                            نعم من لم يتأهل للالتزام ، وليس له ثم ولي يمكن جريان ذلك فيه ، وسيأتي في السير أنه يلزم الموسرين على الكفاية نحو إطعام المحتاجين ( وتحل لغني ) ولو من ذوي القربى لخبر { تصدق الليلة على غني ، فلعله أن يعتبر فينفق مما آتاه الله } ويكره له التعرض لأخذها وإن لم يكفه ماله أو كسبه إلا يوما وليلة ، والأوجه أخذا مما مر آنفا عدم الاعتبار بكسب حرام أو غير لائق به .

                                                                                                                            قال الإسنوي : ويكره له أخذها وإن لم يتعرض لها ، ويحرم عليه ذلك إن أظهر الفاقة ، [ ص: 172 ] واستثنى في الإحياء من تحريم سؤال القادر على الكسب ما لو كان يستغرق الوقت في طلب العلم ، وفيه أيضا سؤال الغني حرام إن وجد ما يكفيه هو وممونه يومهم وليلتهم وسترتهم وآنية يحتاجون إليها ، والأوجه جواز سؤال ما يحتاج إليه بعد يوم وليلة إن كان السؤال عند نفاذ ذلك غير متيسر وإلا امتنع ، وقيد بعضهم غاية ذلك بسنة ، ونازع الأذرعي في التحديد بها وبحث جواز طلب ما يحتاج إليه إلى وقت يعلم عادة تيسر السؤال والإعطاء فيه ، ولا يحرم على من علم غنى سائل أو مظهر للفاقة الدفع إليه خلافا للأذرعي ، كما صرح بعدمها في شرح مسلم ; لأن الحرمة إنما هي لتغريره بإظهار الفاقة من لا يعطيه لو علم غناه ، فمن علم وأعطاه لم يحصل له تغرير ، ومعلوم أن سؤال ما اعتيد سؤاله من الأصدقاء ونحوهم مما لا يشك في رضا باذله وإن علم غنى آخذه لا حرمة فيه ولو على الغني لاعتياد المسامحة به ، ومن أعطى لوصف يظن به كفقر أو صلاح أو نسب أو علم وهو في الباطن بخلافه أو كان به وصف باطنا بحيث لو علم لم يعطه حرم عليه الأخذ مطلقا ، ويجري ذلك في الهدية أيضا فيما يظهر ، بل الأوجه إلحاق سائر عقود التبرع بها كوصية وهبة ونذر ووقف ، وبحث الأذرعي ندب التنزه عن قبول صدقة التطوع إلا إن حصل للمعطى نحو تأذ أو قطع رحم ، وهو محمول على ما إذا كان في الأخذ نحو شك في الحل أو هتك للمروءة أو دناءة في التناول لئلا يعارضه خبر { ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه } ، وفي شرح مسلم وغيره : متى أذل نفسه أو ألح في السؤال أو آذى المسئول حرم اتفاقا وإن كان محتاجا كما أفتى به ابن الصلاح ، وفي الإحياء : متى أخذ من جوزنا له المسألة عالما بأن باعث [ ص: 173 ] المعطي الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما أعطاه فهو حرام إجماعا ويلزمه رده . ا . هـ .

                                                                                                                            وحيث أعطاه على ظن صفة وهو في الباطن بخلافها ، ولو علم ما به لم يعطه لم يملك الآخذ ما أخذه كهبة الماء في الوقت كما قاله بعض المتأخرين وهو ظاهر ، وما ذهب إليه الجيلي من حرمة السؤال بالله تعالى إن أدى إلى تضجر ولم يأمن أن يرده ، وإلى أن رد السائل صغيرة ما لم ينهره وإلا فكبيرة يتعين حمل أوله على ما إذا آذى بذلك وثانيه على نحو مضطر مع العلم بحاله ، وإلا فعموم ما قاله غريب ( وكافر ) لخبر { في كل كبد رطبة أجر } وشمل كلامه الحربي ، وبه صرح في البيان عن الصيمري ، لكن الأوجه كما قاله الأذرعي أن ذلك فيمن له عهد أو ذمة أو قرابة أو يرجى إسلامه أو كان بأيدينا بأسر ونحوه ، فإن لم يكن فيه شيء من ذلك فلا ويأتي منع إعطائه من أضحية التطوع ( ودفعها سرا ) أفضل منه جهرا لآية { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } ; ولأن مخفيها بحيث لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه كناية عن المبالغة في إخفائها من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، نعم إن كان ممن يقتدى به وأظهرها للتأسي به من غير رياء ولا سمعة فهو أفضل ، أما الزكاة فإظهارها أفضل إجماعا كما في المجموع ، وقول الماوردي إلا المال الباطن محمول على ما لو خاف محذورا وإلا فهو ضعيف .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            [ ص: 171 ] فصل ) في صدقة التطوع ( قوله : عند الإطلاق غالبا ) أي وإلا فقد تطلق على الواجب كالزكاة ، وهل تطلق على النذر والكفارة ودماء الحج أم لا ؟ فيه نظر ، وفي كلام البهجة وشرحها للشيخ ما يفيد الثاني ( قوله : حتى يفصل بين الناس ) أي في يوم القيامة ( قوله : أنه يصرفها في معصية ) وهل يملكها حينئذ أم لا ؟ فيه نظر ، والأقرب الأول ، ولا يلزم من الحرمة عدم الملك كما في بيع العنب لعاصر الخمر ( قوله : يمكن جريان ذلك ) أي الوجوب المفهوم من يجب للمضطر ( قوله : أنه يلزم الموسرين ) راجع الفرق بين هذا وما ذكره في المضطر ، وقد يصور ما ذكر في المضطر المحتاج بما إذا كان الباذل من غير المياسير ، أو كان المضطر غنيا لكن فقد ما يتناوله ووجده مع غيره فلا يلزمه دفعه له مجانا فلا إشكال ا هـ سم على حج ( قوله : وإن لم يكفه ماله أو كسبه ) يؤخذ منه أن المراد بالغني هنا ما يشمل القادر على الكسب ( قوله : عدم الاعتبار ) أي فله أخذ الصدقة ( قوله : ويكره له ) أي للغني ( قوله : ويحرم عليه ) أي الغني ولو بالقدرة على الكسب ، وحينئذ فيتضح الاستثناء الآتي عن الغزالي ، وأفهم قوله : إن أظهر الفاقة أنه لا يحرم عليه السؤال لمن يعرف ( قوله : إن أظهر الفاقة ) أي أو سأل ا هـ حج : أي ومع حرمة القبول حينئذ يملك المدفوع إليه كما أفتى به شيخنا الشهاب الرملي ا هـ سم على حج .

                                                                                                                            وقول سم : يملك المدفوع إليه : أي فيما لو سأل ، أما لو أظهر الفاقة وظنه الدافع متصفا بها لم يملك ما أخذه ; لأنه قبضه من غير رضا من صاحبه إذ لم يسمح له إلا عن ظن [ ص: 172 ] الفاقة ( قوله : واستثنى ) أي الغزالي ( قوله : ما لو كان يستغرق الوقت ) أي بحيث كان اشتغاله بالعلم يمنعه من الاكتساب ومنه ما لو كان الزمن الذي يزيد على أوقات الاشتغال لا يتأتى له فيه الاكتساب عادة فهو كالعدم ( قوله : سؤال الغني حرام ) أي ومع ذلك يملك ما أخذه ، ومحل حرمة السؤال في غير ما اعتيد سؤاله على ما يأتي ( قوله : وآنية يحتاجون إليها ) قال في القوت عن الإحياء : ويكفي كونها خزفية ا هـ سم على حج .

                                                                                                                            وظاهره وإن لم تلق بهم وينبغي خلافه ( قوله : ونازع الأذرعي إلخ ) معتمد ، وقوله : ما اعتيد سؤاله ، أي كقلم وسواك ، وقوله : إنما هو لتغريره وقضية التعليل بما ذكر أنه لا يحرم عليه سؤال من عرف بحاله لعدم تغريره له ( قوله : حرم عليه الأخذ مطلقا ) هل يملك في هذه الحالة على قياس ما يأتي عن فتوى شيخنا الشهاب الرملي أو لا ، ويفرق بأنه إنما يعطى هنا لأجل ذلك الوصف فيه نظر .

                                                                                                                            والثاني أوجه ما لم يوجد نقل بخلافه ، وعليه فهل يبطل الوقف والنذر ؟ فيه نظر ، ثم رأيت قوله الآتي : وحيث حرم الأخذ لم يملك ما أخذه إلخ فتعين الفرق ، لكن في بطلان ذلك عدم انعقاد الوقف والنذر ا . هـ على حج .

                                                                                                                            وقد يقال : لا يلزم من عدم ملك الصدقة بطلان الوقف والنذر لجواز إلحاقهما بما فيه معاوضة ، والأقرب عدم صحته ( قوله : وهو محمول ) أي ندب التنزه ( قوله : وأنت غير مستشرف ) أي : متعرض للسؤال ( قوله : متى أذل نفسه ) ومنه بل أقبحه ما اعتيد من سؤال اليهود والنصارى ومع ذلك يملك ما أخذه حيث لم يعط على ظن صفة ليست فيه ( قوله : أو ألح في السؤال ) ظاهر ، وإن لم يؤذ المسئول . ا . هـ سم على حج ( قوله : أو آذى المسئول حرم اتفاقا ) أي ومع ذلك يملك ما أخذه ( قوله : وإن كان محتاجا ) أي إلا أن يضطر كما هو ظاهر ا هـ سم على [ ص: 173 ] حج ( قوله : وحيث أعطاه ) أي وحيث حرم السؤال ملك ما أخذه بخلاف هبة الماء في الوقت كما أفتى به شيخنا الشهاب الرملي ا هـ سم على حج .

                                                                                                                            وكتب أيضا قوله : حيث أعطاه إلخ ، وقضيته أنه لو أعطى غنيا يظنه فقيرا ولو علم غناه لم يعطه لم يملك ما أعطاه ، فما مر عن فتاوى شيخنا أنه حيث حرم السؤال ملك الآخذ ما أخذه ينبغي حمله على غير ذلك ، وأن مظهر الفاقة يملك إلا أن يكون المتصدق لو علم لم يعطه ، وهو يفيد كما صرح به الشارح أن كل من أخذ وظن الدافع فيه صفة لولاها لما دفع له ، ولم تكن فيه لم يملك ما أخذه وحرم عليه قبوله ، وأنه إذا أظهر صفة لم تكن فيه كالفقر أو سأل على وجه أذل به نفسه حرم عليه الأخذ ، ولكن يملك ما أخذه إذا كان بحيث لو علم الدافع بحاله لم يمتنع من الدفع إليه ( قوله : يتعين حمل أوله ) هو قوله : يتعين السؤال ، وقوله : وثانيه هو قوله : وإلى أن رد السائل ( قوله : على نحو مضطر ) لعل صورته أنه غلب على ظنه أن غيره يعطيه ما يزيل اضطراره وإلا فينبغي أن رده كبيرة ( قوله : أن ذلك ) أي أن محل استحبابه في حقه فيمن إلخ وهي ظاهرة ، ويعلم منها أن المراد من حلها على الغني والكافر الاستحباب ، وعبارة سم على منهج : قوله وكافر : أي ولو حربيا خلافا لبعضهم ا هـ حج ( قوله : فإن لم يكن فيه شيء من ذلك فلا ) أي فلا يستحب له ( قوله : ويأتي منع إعطائه ) أي الكافر



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 171 ] ( فصل ) في صدقة التطوع ( قوله : وقد تحرم إن علم إلخ ) أي وكما يأتي في استدراك المصنف الآتي ( قوله : أي ولو بغلبة ظنه ) لا يخفى أن حقيقة العلم مباينة لحقيقة الظن فلا يصح أخذه غاية فيه ، وعبارة التحفة : وقد تحرم إن علم وكذا إن ظن فيما يظهر إلخ ( قوله : يمكن جريان ذلك فيه ) قال الشهاب حج : حيث لم ينو الرجوع ، وكتب عليه الشهاب سم ما نصه : فيه نظر دقيق فتأمله . ا هـ .

                                                                                                                            وكأن وجه النظر أنه صار بالقيد المذكور مخيرا بين الصدقة وبين دفعه بنية الرجوع فلم تجب الصدقة عينا فساوى المتأهل ومن له ولي حاضر ، إذ لا خفاء أنه مخير فيه أيضا بين الصدقة وبين البذل بعوض ، وكأن الشارح إنما حذف هذا القيد لهذا النظر ، لكنه إنما يتم له إن كان الحكم أنه لا رجوع له على غير المتأهل [ ص: 172 ] المذكور وإن قصد الرجوع فليراجع ( قوله : واستثنى في الإحياء ) يجب تأخيره عن قوله وفيه أيضا سؤال الغني حرام إلخ إذ هو إنما استثناه منه كما في التحفة وغيرها ( قوله : من لا يعطيه ) معمول لتغريره ( قوله : بل الأوجه إلحاق سائر عقود التبرع إلخ ) لعل المراد إلحاق الأخذ بعقد من عقود التبرع ليساوي الملحق ما ألحق به ( قوله : حرم اتفاقا ) [ ص: 173 ] أي السؤال على وجه من هذه الوجوه كما يصرح به كلام غيره ( قوله : وإلى أن رد السائل إلخ ) لم يتقدم ما يصح عطفه عليه ، وهو تابع فيه لحج لكن ذاك صدر عبارته ، وذهب الحليمي إلى حرمة السؤال بالله تعالى ، إلى أن قال : وإلى أن رد السائل فالعطف في كلامه صحيح ( قوله : كناية إلخ ) تفسير لقوله بحيث لا تعلم إلخ وقوله من السبعة خبر




                                                                                                                            الخدمات العلمية