الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 161 ] باب صلاة التطوع .

تنبيه : يحتمل قوله ( وهي أفضل تطوع البدن ) أن يكون مراده : أنها أفضل من جميع التطوعات فيدخل في ذلك التطوع بالجهاد وغيره ، وهو أحد الوجوه وقدمه في الرعاية الكبرى ، وحواشي ابن مفلح ، وهو ظاهر تعليل ابن منجا في شرحه ، ويحتمل أن يكون مراده : أنها أفضل التطوعات سوى الجهاد ; لقوله في كتاب الجهاد " وأفضل ما يتطوع به الجهاد " ويكون عموم كلامه هنا مخصوصا أو يقال : لم يدخل الجهاد في كلامه ; لأنه في الغالب لا يحصل بالبدن فقط ، ويحتمل أن يكون مراده : أنها أفضل التطوعات المقصورة على البدن ، كالصوم والوضوء والحج ونحوه ، بخلاف المتعدي نفعه كعيادة المريض ، وقضاء حاجة المسلم ، والإصلاح بين الناس والجهاد ، وصلة الرحم ، وطلب العلم ونحوه ، وهو وجه اختاره كثير من الأصحاب على ما يأتي قال في مجمع البحرين : وقول الشيخ يعني به المصنف ( تطوع البدن ) أي غير المتعدي نفعه ، المقصور على فاعله فأما المتعدي نفعه : فهو آكد من نفل الصلاة قال المجد في شرحه عن كلامه في الهداية وهو كلام المصنف وهذه المسألة محمولة عندي على نفل البدن غير المتعدي . انتهى .

واعلم أن تحرير المذهب في ذلك : أن أفضل التطوعات مطلقا الجهاد ، على الصحيح من المذهب نص عليه ، وعليه جماهير الأصحاب ، متقدمهم ومتأخرهم قال في الفروع : الجهاد أفضل تطوعات البدن أطلقه الإمام أحمد ، والأصحاب والصحيح من المذهب أيضا : أنه أفضل من الرباط ، وقيل : الرباط أفضل ، وحكى رواية ، وقال الشيخ تقي الدين : العمل بالقوس والرمح أفضل في الثغر ، وفي غيره نظيرها [ ص: 162 ] فعلى المذهب : النفقة في الجهاد أفضل من النفقة في غيرها ، على الصحيح من المذهب ، ونقل جماعة عن الإمام أحمد : الصدقة على قريبه المحتاج أفضل مع عدم حاجته إليه ، ذكره الخلال وغيره ، ونقل ابن هانئ أن أحمد قال لرجل أراد الثغر " أقم على أختك أحب إلي أرأيت إن حدث بها حدث من يليها ؟ " ونقل حرب : أنه قال لرجل له مال كثير " أقم على ولدك وتعاهدهم أحب إلي " ولم يرخص له يعني في غزو غير محتاج إليه قال ابن الجوزي في كتاب صفوة الصفوة : الصدقة أفضل من الحج ، ومن الجهاد ، ويأتي في آخر باب ذكر أهل الزكاة عند قوله " والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة أهل " : " هل الصدقة أفضل من العتق أم لا ، أم هي أفضل زمن المجاعة ، أو على الأقارب ؟ وهل هي أفضل من الحج أم لا؟ " وقال الشيخ تقي الدين : استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهارا أفضل من الجهاد الذي لم تذهب فيه نفسه وماله ، وهي في غير العشر تعدل الجهاد قال في الفروع : ولعل هذا مرادهم . انتهى . وعنه العلم تعلمه وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره ، ونقل مهنا : طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته قيل : بأي شيء تصح النية ؟ قال : ينوي يتواضع فيه ، وينفي عنه الجهل واختاره في مجمع البحرين ، واختار بعده الجهاد ، ثم بعد الجهاد إصلاح ذات البين ، ثم صلة الرحم ، والتكسب على العيال من ذلك نص عليه الأصحاب . انتهى . وقال في نظمه : الصلاة أفضل ، بعد العلم والجهاد والنكاح المؤكد واختار الحافظ عبد الغني : أن الرحلة إلى سماع الحديث أفضل من الغزو ، ومن سائر النوافل ، وذكر الشيخ تقي الدين : أن تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد ، وأنه [ ص: 163 ] نوع من الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات .

قال : والمتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول أن أفضل ما يتطوع به الجهاد ، وذلك لمن أراد أن ينشئه تطوعا ، باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه ، باعتبار أن الفرض قد سقط عنه فإذا باشره ، وقد سقط عنه الفرض فهل يقع فرضا أو نفلا ؟ على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره ، وانبنى على الوجهين جواز فعلها بعد العصر والفجر مرة ثانية ، والصحيح : أن ذلك يقع فرضا ، وأنه يجوز فعلها بعد العصر والفجر ، وإن كان ابتداء الدخول فيه تطوعا . كما في التطوع الذي يلزم بالشروع فإنه كان نفلا ، ثم يصير إتمامه واجبا . انتهى . وقال في آداب عيون المسائل : العلم أفضل الأعمال ، وأقرب العلماء إلى الله ، وأولاهم به : أكثرهم له خشية . انتهى .

واعلم أن الصلاة بعد الجهاد والعلم أفضل التطوعات ، على الصحيح من المذهب ، وعليه الجمهور قال في الفروع : ذكره أكثر الأصحاب . وقدمه في الفروع ، والحاوي الصغير ، والرعاية الصغرى ، وغيرهم ، وقيل : الصوم أفضل من الصلاة قال الإمام أحمد : لا يدخله رياء قال بعضهم : وهذا يدل على فضيلته على غيره قال ابن شهاب : أفضل ما يتعبد به المتعبد الصوم ، وقيل : ما تعدى نفعه أفضل اختاره المجد ، وصاحب الحاوي الكبير ، ومجمع البحرين ، وقال : اختاره المجد ، وغيره من الأصحاب ، وقال : صرح به الشيخ يعني به المصنف في كتبه ، وحمل المجد كلامه في الهداية على هذا ، وكذا صاحب مجمع البحرين ، حمل كلام المصنف على هذا ، كما تقدم ، ونقل المروذي : إذا صلى وقرأ واعتزل فلنفسه ، وإذا أقرأ فله ولغيره ، يقرئ أعجب إلي ، وأطلقهن ابن تميم ، ونقل حنبل : اتباع الجنازة أفضل من الصلاة ، [ ص: 164 ] وفي كلام القاضي : التكسب للإحسان أفضل من التعلم ; لتعديه قال في الفروع : وظاهر كلام ابن الجوزي وغيره : أن الطواف أفضل من الصلاة في المسجد الحرام واختاره الشيخ تقي الدين ، وذكره عن جمهور العلماء للخبر ، ونقل حنبل أن الإمام أحمد قال : نرى لمن قدم مكة أن يطوف ; لأنه صلاة ، والطواف أفضل من الصلاة ، والصلاة بعد ذلك ، وعن ابن عباس " الطواف لأهل العراق ، والصلاة لأهل مكة " وكذا عطاء ، هذا كلام أحمد ، وذكر في رواية أبي داود عن عطاء ، والحسن ، ومجاهد : الصلاة لأهل مكة أفضل ، والطواف للغرباء أفضل .

قال في الفروع : فدل ما سبق أن الطواف أفضل من الوقوف بعرفة ، لا سيما وهو عبادة بمفرده يعتبر له ما يعتبر للصلاة . انتهى . قلت : وفي هذا نظر ، وقيل : الحج أفضل ، لأنه جهاد ، وذكر في الفروع الأحاديث في ذلك ، وقال : فظهر أن نفل الحج أفضل من صدقة التطوع ، ومن العتق ومن الأضحية ، وعلى هذا إن مات في الحج فكما لو مات في الجهاد ، يكون شهيدا ، وذكر الوارد في ذلك ، وقال : على هذا فالموت في طلب العلم أولى بالشهادة على ما سبق ، ونقل أبو طالب : ليس يشبه الحج شيء ، للتعب الذي فيه ، ولتلك المشاعر ، وفيه مشهد ليس في الإسلام مثله ، عشية عرفة ، وفيه إهلال المال والبدن ، وإن مات بعرفة فقد طهر من ذنوبه ، ونقل مهنا : الفكر أفضل من الصلاة والصوم قال في الفروع : فقد يتوجه أن عمل القلب أفضل من عمل الجوارح ، ويكون مراد الأصحاب : عمل الجوارح ، ولهذا ذكر في الفنون رواية مهنا ، فقال : يعني الفكر في آلاء الله ، ودلائل صنعه ، والوعد والوعيد ; لأنه الأصل الذي ينتج أفعال الخير ، وما أثمر الشيء فهو خير من ثمرته ، وهذا ظاهر المنهاج ، لابن الجوزي فإنه قال فيه : من انفتح له طريق عمل بقلبه بدوام ذكر أو فكر : فذلك الذي لا يعدل به النية . [ ص: 165 ] قال في الفروع : وظاهره أن العالم بالله وبصفاته أفضل من العالم بالأحكام الشرعية ; لأن العلم يشرف بشرف معلومه وبثمراته ، وقال ابن عقيل في خطبة كفايته : إنما تشرف العلوم بحسب مؤدياتها ، ولا أعظم من الباري فيكون العلم المؤدي إلى معرفته وما يجب له وما يجوز : أجل العلوم واختار الشيخ تقي الدين : أن كل أحد بحسبه ، وأن الذكر بالقلب أفضل من القراءة بلا قلب ، وهو معنى كلام ابن الجوزي ، فإنه قال : أصوب الأمور : أن ينظر إلى ما يطهر القلب ويصفيه للذكر والأنس فيلازمه ، وقال الشيخ تقي الدين في الرد على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد ، والشافعي للصلاة ، وأبي حنيفة ومالك للذكر ، والتحقيق : أنه لا بد لكل واحد من الآخرين ، وقد يكون كل واحد أفضل في حال . انتهى .

قال في الفروع : والأشهر عن الإمام أحمد الاعتناء بالحديث والفقه والتحريض على ذلك ، وعجب ممن احتج بالفضيل ، وقال : لعل الفضيل قد اكتفى ، وقال لا يثبط عن طلب العلم إلا جاهل ، وقال : ليس قوم خيرا من أهل الحديث ، وعاب على محدث لا يتفقه ، وقال : يعجبني أن يكون الرجل فهما في الفقه قال الشيخ تقي الدين : قال أحمد : معرفة الحديث ، والفقه فيه أعجب إلي من حفظه ، وقال ابن الجوزي في خطبة المذهب : بضاعة الفقه أربح البضائع ، والفقهاء يفهمون مراد الشارع ، ويفهمون الحكمة في كل واقع ، وفتاويهم تميز العاصي من الطائع ، وقال في كتاب العلم له : الفقه عمدة العلوم ، وقال في صيد الخاطر : الفقه عليه مدار العلوم فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن في التفقه فإنه الأنفع ، وفيه : المهم من كل علم هو المهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية