الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 247 ] باب الشهيد فعيل بمعنى مفعول لأنه مشهود له بالجنة أو فاعل لأنه حي عند ربه فهو شاهد . ( هو كل مكلف مسلم طاهر ) فالحائض إن رأت ثلاثة أيام غسلت وإلا لا لعدم كونها حائضا { ولم يعد عليه السلام [ ص: 248 ] غسل حنظلة لحصوله بفعل الملائكة } ، بدليل قصة آدم ( قتل ظلما ) بغير حق ( بجارحة ) أي بما يوجب القصاص ( ولم يجب بنفس القتل مال ) بل قصاص ، حتى لو وجب المال بعارض كالصلح [ ص: 249 ] أو قتل الأب ابنه لا تسقط الشهادة ( ولم يرتث ) فلو ارتث غسل كما سيجيء ( وكذا ) يكون شهيدا ( لو قتله باغ أو حربي أو قاطع طريق ولو ) تسببا أو ( بغير آلة جارحة ) فإن مقتولهم شهيد بأي آلة قتلوه ، لأن الأصل فيه شهداء أحد ولم يكن كلهم قتيل سلاح ( أو وجد جريحا ميتا في معركتهم ) المراد بالجراحة علامة القتل ; كخروج الدم من [ ص: 250 ] عينه أو من أذنه أو حلقه صافيا ، لا من أنفه أو ذكره أو دبره أو حلقه جامدا

التالي السابق


باب الشهيد .

أخرجه من صلاة الجنازة مبوبا له مع أن المقتول ميت بأجله لاختصاصه بالفضيلة التي ليست لغيره نهر ( قوله فعيل إلخ ) وهو إما من الشهود : أي الحضور ، أو من الشهادة أي الحضور مع المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة قهستاني ( قوله لأنه مشهود له بالجنة ) أفاد أنه من باب الحذف والإيصال حذف اللام فاستتر الضمير المجرور ح ، وهذا على أنه من الشهادة ، وأما على أنه من الشهود فلأن الملائكة تشهده إكراما له ( قوله لأنه حي إلخ ) هذا على أنه من الشهود ، وأما على أنه من الشهادة فلأن عليه شاهدا يشهد له وهو دمه وجرحه ، أو لأنه شاهد على من قتله بالكفر ( قوله هو إلخ ) أي الشهيد في العرف ما ذكر ، وهو تعريف له باعتبار الحكم الآتي أعني عدم تغسيله ونزع ثيابه لا لمطلقه لأنه أعم من ذلك كما سيأتي ( قوله : كل مكلف ) هو البالغ العاقل ، خرج به الصبي والمجنون فيغسلان عنده خلافا لهما لأن السيف أغنى عن الغسل لكونه طهرة ولا ذنب للصبي ، ولا للمجنون ، وهذا يقتضي أن يقيد المجنون بمن بلغ كذلك وإلا فلا خفاء في احتياجه إلى ما يطهر ما مضى من ذنوبه ، إلا أن يقال : إذا مات على جنونه لم يؤاخذ بما مضى لعدم قدرته على التوبة بحر . ولا يخفى أن هذا مسلم فيما إذا جن عقب المعصية ، أما لو مضى بعدها زمن يقدر فيه على التوبة فلم يفعل كان تحت المشيئة نهر ( قوله : مسلم ) أما الكافر فليس بشهيد ، وإن قتل ظلما فلقريبه المسلم تغسيله كما مر وما في ط عن القهستاني غير ظاهر ( قوله طاهر ) أي ليس به جنابة ولا حيض ولا نفاس ولا انقطاع أحدهما كما هو المتبادر ، فإذا استشهد الجنب يغسل ، وهذا عنده خلافا لهما ، فإذا انقطع الحيض والنفاس واستشهدت فعلى هذا الخلاف ، وإن استشهدت قبل الانقطاع تغسل على أصح الروايتين عنه كما في المضمرات قهستاني .

وحاصله أنها تغسل قبل الانقطاع في الأصح كما بعده . وفي رواية لا تغسل قبله لأن الغسل لم يكن واجبا عليها كما لو انقطع قبل الثلاث فإنها لا تغسل بالإجماع كما في السراج والمعراج ( قوله فالحائض ) المراد بها من كانت من ذوات الحيض لا من اتصفت بالحيض لئلا ينافي قوله لعدم كونها حائضا فافهم . واقتصر في التفريع على بعض أفراد المحترزات لخفائه ، لما فيه من التفصيل ، ولم يفصل في النفساء لأن النفاس لا حد لأقله ( قوله : وإلا لا ) أي ، وإن لم تره ثلاثة أيام لا تغسل بالإجماع كما نقلناه آنفا عن السراج والمعراج ; فما في الإمداد من أن الحائض تغسل سواء كان القتل بعد انقطاع الدم ، أو قبل استمراره ثلاثة أيام فيه سهو أو سقط ، وصوابه ، أو قبله بعد استمراره إلخ فتنبه ( قوله : ولم يعد إلخ ) استدل الإمام على وجوب الغسل لمن قتل جنبا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لما قتل حنظلة بن أبي عامر الثقفي " { إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة ، فسألوا زوجته ، فقالت : خرج وهو [ ص: 248 ] جنب فقال عليه الصلاة والسلام : لذلك غسلته الملائكة } .

وأورد الصاحبان أنه لو كان واجبا لوجب على بنى آدم ولما اكتفي بفعل الملائكة . والجواب بالمنع وهو ما أشار إليه الشارح من أنه يحصل بفعلهم بدليل قصة آدم المارة لأن الواجب نفس الغسل ، فأما الغاسل فيجوز أن يكون أيا كان كما في المعراج . واعترضه في البحر بأن هذا الغسل عنده للجنابة لا للموت ا هـ أي وإذا كان للجنابة كما هو ظاهر قوله في الحديث لذلك غسلته الملائكة لم يحسن الاستدلال بقصة الملائكة لأن تغسيلهم لآدم كان للموت لا للجنابة ، لكن فيه أنه إذا وجب للجنابة كان كوجوبه للموت ، فدلت القصة على الاكتفاء بفعل الملائكة لكن تقدم في بحث الغسل أن الميت لو وجد في الماء لا بد من تغسيله لأنا أمرنا به ، فيحركه في الماء بنيته لإسقاط الفرض عن ذمة المكلفين لا لطهارته ; فلو صلى عليه بلا إعادة لغسله صح وإن لم يسقط عنهم الوجوب ، ومقتضاه أنه لا يكتفى بفعل الملائكة إلا أن يفرق بأنه واجب على المكلفين إذا لم يغسله غيرهم لقيام فعله مقام فعلهم .

ولذا صح تغسيل الذمي أو الصبي لمسلم مات بين نساء ليس معهن سواهما كما مر . على أن فعل الملائكة بإذن من الله - تعالى ، فهو إذن من صاحب الحق بالاكتفاء عن فعل المكلفين ، ولا سيما على القول بتكليفهم ، وبعثه نبينا صلى الله عليه وسلم إليهم ، والقصة والحديث دليلان على الاكتفاء بفعلهم . وأما وقوعه في الماء فليس فيه تغسيل من أحد فلم يسقط الفرض عنهم ، وإن حصلت الطهارة كما لو غسله مكلف بلا نية فإنه يجزي لطهارته لا لإسقاطه الفرض عن ذمتنا فتصح الصلاة عليه وإن لم يسقط الفرض عنا ; فلذا وجب إعادة غسل الغريق أو تحريكه عند إخراجه بنية الغسل فيكون فعلا منا فيسقط به الفرض عنا ; إذ بدونه لم يحصل فعل منا ، ولا ممن ناب عنا ، فاتضح الفرق ، هذا ما ظهر لي فاغتنمه فإنه نفيس ( قوله : قتل ظلما ) لم يقل قتله مسلم كما في الكنز لأن الذمي كذلك .

وقيد بالقتل ; لأنه لو مات حتف أنفه أو بترد أو حرق أو غرق أو هدم لم يكن شهيدا في حكم الدنيا ، وإن كان شهيدا في الآخرة كما سيأتي وبقوله ظلما لما يأتي من أنه لو قتل بحد أو قصاص مثلا لا يكون شهيدا فيغسل ، ودخل فيه المقتول مدافعا عن نفسه أو ماله أو المسلمين أو أهل الذمة فإنه شهيد ، لكن لا يشترط كون قتله بمحدد كما في البحر عن المحيط ، واستشكله في النهر ، ويأتي جوابه ( قوله : بغير حق ) تفسير لقوله ظلما ( قوله بجارحة ) أي خلافا لهما كما في النهاية ، وهذا قيد في غير من قتله باغ أو حربي أو قاطع طريق بقرينة العطف الآتي ، واحترز بها عن المقتول بمثقل فإنه لا يوجب القصاص عنده ( قوله : أي بما يوجب القصاص ) أي فالمراد بها ما يفرق الأجزاء ، فيدخل فيه النار والقصب كما في الفتح ( قوله : بل قصاص ) أي بل وجب به قصاص أشار به إلى أن وضع المسألة فيمن علم قاتله كما صرح به شراح الهداية ; إذ لا قصاص إلا على قاتل معلوم ، خلافا لما زعمه صدر الشريعة كما حققه في الدرر .

أما إذا لم يعلم قاتله فسيأتي أنه يغسل ، لكن كان عليه أن يزيد أو لم يجب به شيء أصلا كقتل الأسير مثله في دار الحرب عند أبي حنيفة وقتل السيد عبده عند الكل كما في شرح المنية ( قوله : حتى لو وجب إلخ ) تفريع على مفهوم قوله بنفس القتل ، فإن المال لم يجب بنفس القتل العمد لأن الواجب به القصاص ، وإنما سقط بعارض وهو الصلح أو شبهة الأبوة ، فلا يغسل في الرواية المختارة كما في الفتح . [ ص: 249 ] فالحاصل أنه إذا وجب بقتله القصاص وإن سقط لعارض أو لم يجب بقتله شيء أصلا فهو شهيد كما علمته . أما إذا وجب به المال ابتداء فلا ; وذلك بأن كان قتله شبه العمد كضرب بعصا ، أو خطإ كرمي غرض فأصابه أو ما جرى مجراه كسقوط نائم عليه ، وكذا إذا وجب به القسامة لوجوب المال بنفس القتل شرعا .

وكذا لو وجد مذبوحا ولم يعلم قاتله سواء وجبت فيه القسامة أو لا هو الصحيح لاحتمال أنه لم يقتل ظلما كما سيأتي ، وهو الذي حققه في شرح الدرر ا هـ ملخصا من القهستاني وشرح المنية ( قوله : أو قتل الأب ابنه ) أو قتله شخص آخر يرثه الابن بحر ، كما إذا قتل زوجته ، وله منها ولد فإن الولد استحق القصاص على أبيه فيسقط للأبوة ( قوله ولم يرتث ) بالبناء للمجهول وتشديد المثلثة آخره ، أشار إلى أن شرط عدم الارتثاث ليس خاصا بشهيد المعركة ، ولذا لما قتل عمر وعلي غسلا لأنهما ارتثا وعثمان أجهز عليه في مصرعه ولم يرتث فلم يغسل كما في البدائع وسيجيء بيان الارتثاث ( قوله : وكذا يكون شهيدا إلخ ) أي بشرط أن لا يرتث أيضا ( قوله : أو قاطع طريق ) والمكابرون في المصر ليلا بمنزلة قطاع الطريق كما في البحر عن شرح المجمع ، فمن قتله ولو بغير محدد فهو شهيد كما لو قتله القطاع ; وكذا من قتله اللصوص ليلا كما سيأتي . وذكر في البحر أنه زاد في المحيط سببا رابعا وهو من قتل مدافعا ولو عن ذمي فإنه شهيد بأي آلة قتل وإن لم يكن واحدا من الثلاثة أي ممن قتله باغ أو حربي أو قاطع طريق ، وقال في النهر : كونه شهيدا ، وإن قتل بغير محدد مشكل جدا لوجوب الدية بقتله ، فتدبره ممعنا النظر فيه . ا هـ .

قلت : يمكن حمله على ما إذا لم يعلم قاتله عينا ، كما لو خرج عليه قطاع طريق أو لصوص أو نحوهم . وفي البحر عن المجتبى إذا التقت سريتان من المسلمين وكل واحدة ترى أنهم مشركون فأجلوا عن قتلى من الفريقين . قال محمد : لا دية على أحد ولا كفارة لأنهم دافعوا عن أنفسهم ، ولم يذكر حكم الغسل . ويجب أن يغسلوا لأن قاتلهم لم يظلمهم ا هـ . ومفاده أنه لو كانت إحدى الفرقتين ظالمة للأخرى ، بأن علموا حالهم لا يغسل من قتل من الأخرى ، وإن جهل قاتله عينا لكونه مدافعا عن نفسه وجماعته تأمل ( قوله ولو تسببا ) لأن موته يكون مضافا إليهم ، فلو أوطئوا دابتهم مسلما ، أو نفروا دابة مسلم فرمته ، أو رموا نارا في سفينة فاحترقت ونحو ذلك ; فهو شهيد .

أما لو قتل بانفلات دابة مشرك ليس عليها أحد أو دابة مسلم أو برمينا إليهم فأصابه أو نفر المسلمون منهم فألجئوهم إلى خندق أو نار أو نحوه فمات لم يكن شهيدا خلافا لأبي يوسف لأن فعله يقطع النسبة إليهم ، وتمامه في البحر ( قوله المراد بالجراحة علامة القتل ) ليشمل ما ذكره من الجراحة الباطنة ، وما ليس بجراحة أصلا كخنق وكسر عضو . وفيه إشارة إلى أن الأولى قول الهداية وغيرها أو وجد في المعركة وبه أثر . ا هـ . فلو لم يكن به أثر أصلا لا يكون شهيدا ، لأن الظاهر أنه لشدة خوفه انخلع قلبه فتح : أي فلم يكن بفعل مضاف إلى العدو بدائع ( قوله : كخروج الدم إلخ ) أي إن كان الدم يخرج من مخارقه ينظر ، إن كان موضعا يخرج منه الدم من غير آفة في الباطن كالأنف والذكر والدبر لم يكن شهيدا لأن المرء قد يبتلى بالرعاف ، وقد يبول دما لشدة الفزع ، وقد يخرج الدم من الدبر من غير جرح في الباطن فوقع الشك في سقوط الغسل فلا يسقط بالشك ، وإن كان يخرج من أذنه أو عينه كان شهيدا لأنه لا يخرج منهما عادة إلا لآفة في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج منهما [ ص: 250 ] الدم ; وإن كان يخرج من فمه ، فإن نزل من رأسه لم يكن شهيدا ، وإن كان يعلو من جوفه كان شهيدا لأنه لا يصعد إلا لجرح في الباطن وإنما يميز بينهما بلون الدم بدائع ; فالنازل من الرأس صاف ، والصاعد من الجوف علق جوهرة وفتح والعلق : الجامد . واستشكله في الفتح بأن المرتقي من الجوف قد يكون رقيقا من قرحة في الجوف على ما تقدم في الطهارة فلا يلزم كونه من جراحة حادثة بل هو أحد المحتملات . ا هـ . ( قوله صافيا ) قيد لقوله أو حلقه ، وكذا قوله الآتي جامدا ، وفيه قلب . والصواب ذكر جامدا في الأول وصافيا في الثاني كما علم مما نقلناه آنفا




الخدمات العلمية