الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أو حلق ) أي أزال ( ربع رأسه ) أو ربع لحيته ( أو ) حلق ( محاجمه ) يعني واحتجم وإلا فصدقة كما في البحر عن الفتح ( أو ) حلق ( إحدى إبطيه أو عانته أو رقبته ) كلها ( أو قص أظفار يديه أو رجليه ) أو الكل ( في مجلس واحد ) فلو تعدد المجلس تعدد الدم إلا إذا اتحد [ ص: 550 ] المحل كحلق إبطيه في مجلسين أو رأسه في أربعة ( أو يد أو رجل ) إذ الربع كالكل ( أو طاف للقدوم ) لوجوبه بالشروع ( أو للصدر جنبا ) أو حائضا ( أو للفرض محدثا [ ص: 551 ] ولو جنبا فبدنة إن ) لم يعده والأصح وجوبها في الجنابة وندبها في الحدث ، وأن المعتبر الأول والثاني جابر له ، فلا تجب إعادة السعي جوهرة

وفي الفتح : لو طاف للعمرة جنبا أو محدثا فعليه دم ، وكذا لو ترك من طوافها شوطا لأنه لا مدخل للصدقة [ ص: 552 ] في العمرة

التالي السابق


( قوله أي أزال ) أي أراد بالحلق الإزالة بالموسى أو غيره مختارا أو لا ، فلو أزاله بالنورة أو نتف لحيته أو احترق شعره بخبزه أو مسه بيده وسقط فهو كالحلق ، بخلاف ما إذا تناثر شعر بالمرض أو النار بحر عن المحيط .

قلت : وشمل أيضا التقصير كما في اللباب ، قال شارحه وصرح به في الكافي والكرماني وهو الصواب قياسا على التحلل . ووقع في الكفاية وشرح الهداية أن التقصير لا يوجب الدم . ا هـ . ( قوله ربع رأسه إلخ ) هذا هو الصحيح المختار الذي عليه جمهور أصحاب المذهب . وذكر الطحاوي في مختصره أن في قول أبي يوسف ومحمد لا يجب الدم ما لم يحلق أكثر رأسه شرح اللباب ، وإن كان أصلع إن بلغ شعره ربع رأسه فعليه دم وإلا فصدقة ، وإن بلغت لحيته الغاية في الخفة إن كان قدر ربعها كاملة فعليه دم وإلا فصدقة لباب ، واللحية مع الشارب عضو واحد فتح ( قوله محاجمه ) أي موضع الحجامة من العنق كما في البحر ( قوله وإلا فصدقة ) أي وإن لم يحتجم بعد الحلق فالواجب صدقة ( قوله كما في البحر عن الفتح ) قال في النهر : لم أر ذلك في نسختي من الفتح . ا هـ .

قلت : كأنه سقط من نسخته ، وإلا فقد رأيته في الفتح ، واستشهد له بقول الزيلعي : إن حلقه لمن يحتجم مقصود وهو المعتبر ، بخلاف الحلق لغيرها ( قوله كلها ) أي كل الثلاثة ، وإنما قيد به لأن الربع من هذه الأعضاء لا يعتبر بالكل ، لأن العادة لم تجر فيها بالاقتصار على البعض ، فلا يكون حلق البعض ارتفاقا كاملا ، بخلاف ربع الرأس واللحية فإنه معتاد لبعض الناس . وما في المحيط من أن الأكثر من الرقبة كالكل لأن كل عضو لا نظير له في البدن يقوم أكثره مقام كله ، ضعيف ، وكذا ما في الخانية من أن الإبط إذا كان كثير الشعر يعتبر الربع لوجوب الدم ، وإلا فالأكثر . والمذهب ما ذكره المصنف من اعتبار الربع في الرأس واللحية والكل في غيرهما في لزوم الدم بحر ملخصا . وذكر في اللباب : مثل الثلاثة ما لو حلق الصدر أو الساق أو الركبة أو الفخذ أو العضد أو الساعد فعليه دم ، وقيل صدقة . وإن حلق أقله فصدقة ، ولا يقوم الربع منها مقام الكل . ا هـ . قال شارحه : يشير بقوله وقيل صدقة إلى ما في المبسوط متى حلق عضوا مقصودا بالحلق فعليه دم ، وإن حلق ما ليس بمقصود فصدقة . ثم قال : ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر والساق ، ومما هو مقصود حلق الرأس والإبطين ، ومثله في البدائع والتمرتاشي . وفي النخبة : وما في المبسوط هو الأصح . قال ابن الهمام إنه الحق . ا هـ .

والحاصل أن كل واحد من الثلاثة أعني الإبط أو العانة والرقبة مقصود بالحلق وحده فيجب به دم ، لكن لا يقوم ربعه مقام كله لما مر بخلاف الصدر والساق ونحوهما فيجب بهما صدقة . قال في الفتح لأن القصد إلى [ ص: 550 ] حلقهما إنما هو في ضمن غيرهما ، إذ ليست العادة تنوير الساق وحده بل تنوير المجموع من الصلب إلى القدم فكان بعض المقصود بالحلق . قال في البحر : فعلى هذا فالتقييد بالثلاثة للاحتراز عن الصدر والساق مما ليس بمقصود .

واعلم أن المتفرق من الحلق بجمع كالطيب ، فلو حلق ربع رأسه من مواضع متفرقة فعليه دم لباب وسيأتي أن في حلق الشارب صدقة . [ تنبيه ]

ذكر الحلق في الإبطين تبعا للجامع الصغير إيماء إلى جوازه وإن كان النتف هو السنة ، ولذا عبر به في الأصل .

واختلف في المسنون في الشارب هل هو القص أو الحلق ؟ والمذهب عند بعض المتأخرين من مشايخنا أنه القص . قال في البدائع : وهو الصحيح . وقال الطحاوي : القص حسن والحلق أحسن ، وهو قول علمائنا الثلاثة نهر . قال في الفتح : وتفسير القص أن ينقص حتى ينتقص عن الإطار ، وهو بكسر الهمزة : ملتقى الجلدة واللحم من الشفة ، وكلام صاحب الهداية على أن يحاذيه . ا هـ . وأما طرفا الشارب وهما السبالان ، فقيل هما منه ، وقيل من اللحية ، وعليه فقيل لا بأس بتركهما ، وقيل يكره لما فيه من التشبه بالأعاجم وأهل الكتاب ، وهذا أولى بالصواب ، وتمامه في حاشية نوح . ورجح في البحر ما قاله الطحاوي ، ثم قال : وإعفاء اللحية أي الوارد في الصحيحين تركها حتى تكثر ، والسنة قدر القبضة ، فما زاد قطعه ا هـ وتمامه فيما علقناه عليه ومر بعض ذلك في كتاب الصوم . وأما العانة ، ففي البحر عن النهاية أن السنة فيها الحلق ، لما جاء في الحديث " { عشر من السنة منها الاستحداد } " وتفسيره حلق العانة بالحديد ( قوله كحلق إبطيه في مجلسين ) كون ذلك من اتحاد المحل ، بخلاف قص أظفار اليدين مشكل ، ومع هذا فلا رواية فيه كما ذكره في العناية : أي بل هو من تخريج بعض مشايخ المذهب إن كان أحد نقل أن فيه دما واحدا كما هو مقتضى صنيع الشارح ، ولم أر من صرح بذلك .

وأجاب في العناية عن الإشكال على تقدير ثبوت الرواية بأن ثمة ما يوجب اتحاد المحال وهو التنوير ، فإنه لو نور جميع البدن لم تلزمه إلا كفارة واحدة ، والحلق مثل التنوير ، وليس في صورة النزاع : أي مسألة القص ما يجعلها كذلك . ا هـ . وفيه أن القص كذلك ، على أنه يلزم منه أنه لو تعدد محل الحلق واختلف المجلس يجب فيه كفارة مع أنه يجب لكل مجلس موجب جنايته كما صرح به في البحر وغيره ( قوله أو رأسه في أربعة ) أي بأن حلق في كل مجلس ربعا منه ففيه دم واحد اتفاقا ما لم يكفر للأول شرح اللباب ( قوله لوجوبه بالشروع ) أشار إلى أن الحكم كذلك في كل طواف هو تطوع ، فيجب الدم لو طافه جنبا ، والصدقة لو محدثا كما في الشرنبلالية عن الزيلعي . وأفاد أن الكفارة تجب بترك الواجب الاصطلاحي بلا فرق بين الأقوى والأضعف ، فإن ما وجب بالشروع دون ما وجب بإيجابه تعالى كطواف الصدر لاشتراكهما في الوجوب الثابت بالدليل الظني ، بخلاف الطواف الفرض الثابت بالقطع فلذا وجبت فيه مع الجناية بدنة إظهارا للتفاوت من حيث الثبوت فافهم ( قوله أو للفرض محدثا ) قيد بالحدث لأن الطواف مع نجاسة الثوب أو البدن مكروه فقط . وما في الظهيرية من إيجاب الدم في نجاسة كل الثوب لا أصل له في الرواية ، وأشار إلى أنه لو طاف عريانا قدر ما لا تجوز الصلاة معه يلزمه دم بترك الستر الواجب ، وقيد بالفرض وهو الأكثر لأنه لو طاف أقله محدثا ولم يعد وجب عليه لكل شوط نصف صاع إلا إذا بلغت قيمته [ ص: 551 ] دما فينقص منه ما شاء بحر ( قوله ولو جنبا فبدنة ) أما لو طاف أقله جنبا ولم يعد وجب عليه شاة ، فإن أعاده وجبت عليه صدقة لكل شوط نصف صاع لتأخير الأقل من طواف الزيارة بحر ، لكن في اللباب لو طاف أقله جنبا فعليه لكل شوط صدقة ، وإن أعاده سقطت تأمل .

( قوله إن لم يعده ) أي الطواف الشامل للقدوم والصدر والفرض ، فإن أعاده فلا شيء عليه فإنه متى طاف أي طواف مع أي حدث ثم أعاده سقط موجبه . ا هـ . ح قلت : لكن إذا أعاد طواف الفرض بعد أيام النحر لزمه دم عند الإمام للتأخير ، وهذا إن كانت الإعادة لطوافه جنبا وإلا فلا شيء عليه كما لو أعاده في أيام النحر مطلقا كما في الهداية ، ومشى عليه في البحر وصححه في السراج وغيره ، وزعم في غاية البيان أنه سهو لتصريح الرواية في شرح الطحاوي بلزوم الدم بالتأخير مطلقا ، وأجاب في البحر بأن هذه رواية أخرى . [ تنبيه ]

من فروع الإعادة ما ذكره في اللباب : لو طاف للزيارة جنبا وللصدر طاهرا ، فإن طاف للصدر في أيام النحر فعليه دم لترك الصدر لأنه انتقل إلى الزيارة ، وإن طاف للزيارة ثانيا فلا شيء عليه أي لانتقال الزيارة إلى الصدر ، وإن طاف للصدر بعد أيام النحر فعليه دمان : دم لترك الصدر : أي لتحوله إلى الزيارة ودم لتأخير الزيارة ، وإن طاف للصدر ثانيا سقط عنه دمه ، وإن طاف للزيارة محدثا وللصدر طاهرا ، فإن حصل الصدر في النحر انتقل إلى الزيارة ، ثم إن طاف للصدر ثانيا فلا شيء عليه وإلا فعليه دم لتركه ، وإن حصل بعد أيام النحر لا ينتقل وعليه دم لطواف الزيارة محدثا ، ولو طاف للزيارة محدثا وللصدر جنبا فعليه دمان ( قوله والأصح وجوبها ) أي وجوب الإعادة المفهومة من قوله بعده ، وهذا أيضا شامل للقدوم والصدر والفرض . قال في البحر : لو طاف للقدوم جنبا لزمه الإعادة . ا هـ . وإذا وجبت الإعادة في القدوم ففي الصدر والفرض أولى . ا هـ . ح . [ تنبيه ]

قال في البحر : الواجب أحد شيئين إما الشاة أو الإعادة والإعادة هي الأصل ما دام بمكة ليكون الجابر من جنس المجبور ، فهي أفضل من الدم . وأما إذا رجع إلى أهله ، ففي الحدث اتفقوا على أن بعث الشاة أفضل من الرجوع . وفي الجنابة اختار في الهداية أن الرجوع أفضل لما ذكرنا . واختار في المحيط أن البعث أفضل لمنفعة الفقراء ، وإذا رجع للأول يرجع بإحرام جديد بناء على أنه في حق النساء بطواف الزيارة جنبا ، فإذا أحرم بعمرة يبدأ بها ثم يطوف للزيارة ويلزمه دم لتأخيره عن وقته ( قوله وأن المعتبر الأول ) عطف على وجوبها ، وهذا ما ذهب إليه الكرخي وصححه في الإيضاح خلافا للرازي ، وهذا في الجناية أما في الحدث فالمعتبر الأول اتفاقا سراج ، وقوله فلا تجب إلخ بيان لثمرة الخلاف ، فعلى قول الرازي تجب إعادة السعي لأن الطواف الأول قد انفسخ فكأنه لم يكن سراج ، فقوله في البحر لا ثمرة للخلاف خلاف الواقع ( قوله وفي الفتح إلخ ) عزاه إلى المحيط ، ونقله في الشرنبلالية ، ومثله في اللباب حيث قال : ولو طاف للعمرة كله أو أكثره أو أقله ولو شوطا جنبا أو حائضا أو نفساء أو محدثا فعليه شاة لا فرق فيه بين الكثير والقليل والجنب والمحدث لأنه لا مدخل في طواف العمرة للبدنة ولا للصدقة ، بخلاف طواف الزيارة ، وكذا لو ترك منه أي من طواف العمرة أقله ولو شوطا فعليه دم وإن أعاده سقط عنه الدم ا هـ لكن في البحر عن الظهيرية : لو طاف أقله محدثا وجب عليه لكل شوط نصف صاع من حنطة إلا إذا بلغت قيمته دما فينقص منه ما شاء ا هـ ومثله في السراج . والظاهر أنه قول آخر فافهم ، [ ص: 552 ] وأما ما سيأتي من قول المصنف وكل ما على المفرد به دم بسبب جنايته على إحرامه فعلى القارن دمان وكذا الصدقة . وذكر الشارح هناك أن المتمتع كالقارن ، فلا يرد على ما هنا وإن كانت جناية المتمتع على إحرام الحج وإحرام العمرة لأن المراد هناك الجناية بفعل شيء من محظورات الإحرام ، بخلاف ترك شيء من الواجبات كما سيأتي في كلام الشارح ، وهنا الجناية بترك واجب الطهارة فلا ينافي وجوب الصدقة في العمرة بفعل المحظور ، ولهذا لم يعمم في اللباب ، بل قال لا مدخل في طواف العمرة للصدقة وإن أطلق الشارح العبارة تبعا للفتح فتنبه .




الخدمات العلمية