الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( و ) إذا صار ذميا ( يجري القصاص بينه وبين المسلم ) - [ ص: 170 ] ويضمن المسلم قيمة خمره وخنزيره إذا أتلفه وتجب الدية عليه إذا قتله خطأ ويجب كف الأذى عنه [ ص: 171 ] ( وتحرم غيبته كالمسلم ) فتح . وفيه : لو مات المستأمن في دارنا وورثته ثمة وقف ماله لهم ، ويأخذوه ببينة ولو من أهل الذمة فبكفيل ولا يقبل كتاب ملكهم

التالي السابق


مطلب في أحكام المستأمن قبل أن يصير ذميا

( قوله وإذا صار ذميا يجري القصاص إلخ ) أما قبل صيرورته ذميا فلا قصاص بقتله عمدا بل الدية . قال في شرح السير : الأصل أنه يجب على الإمام نصرة المستأمنين ما داموا في دارنا ، فكان حكمهم كأهل الذمة إلا أنه لا قصاص على مسلم أو ذمي بقتل مستأمن ، ويقتص من المستأمن بقتل مثله ، ويستوفيه وارثه إن كان معه وذكر أيضا أن المستأمن في دارنا إذا ارتكب ما يوجب عقوبة لا يقام عليه إلا ما فيه حق العبد من قصاص ، أو حد قذف ، وعند أبي يوسف : يقام عليه كل ذلك إلا حد الخمر كأهل الذمة ، ولو أسلم عبد المستأمن أجبر على بيعه ، ولم يترك يخرج به ولو دخل مع امرأته ومعهما أولاد صغار ، فأسلم أحدهما أو صار ذميا فالصغار تبع له ، بخلاف الكبار ، ولو إناثا لانتهاء التبعية بالبلوغ عن عقل ، ولا يصير الصغير تبعا لأخيه أو عمه أو جده ولو الأب ميتا في ظاهر الرواية . وفي رواية الحسن : يصير مسلما بإسلام جده والصحيح الأول إذ لو صار مسلما بإسلام الجد الأدنى ، لصار مسلما بإسلام الأعلى ، فيلزم الحكم بالردة لكل كافر لأنهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام ، ولو أسلم في دارنا وله أولاد صغار في دارهم لم يتبعوه إلا إذا أخرجوا إلى دارنا قبل موت أبيهم ا هـ ملخصا وسنذكر عنه أن تبعية الصغير تثبت وإن كان - ممن يعبر عن نفسه ، وذكر في موضع آخر أن المستأمن لو قتل مسلما ولو عمدا أو قطع الطريق أو تجسس أخبارنا ، فبعث بها إليهم أو زنى بمسلمة أو ذمية كرها أو سرق لا ينتقض عهده ا هـ ملخصا . وحاصله : أن المستأمن في دارنا قبل أن يصير ذميا حكمه حكم الذمي إلا في وجوب القصاص بقتله ، وعدم المؤاخذة بالعقوبات غير ما فيه حق العبد ، وفي أخذ العاشر منه العشر وقدمنا قبل هذا الباب أنه التزم أمر المسلمين فيما يستقبل . مطلب ما يؤخذ من النصارى زوار بيت المقدس لا يجوز

أقول : وعلى هذا فلا يحل أخذ ماله بعقد فاسد ، بخلاف المسلم المستأمن في دار الحرب ، فإن له أخذ مالهم برضاهم ، ولو بربا أو قمار لأن مالهم مباح لنا إلا أن الغدر حرام ، وما أخذ برضاهم ليس غدرا من المستأمن ، بخلاف المستأمن منهم في دارنا لأن دارنا محل إجراء الأحكام الشرعية فلا يحل لمسلم في دارنا أن يعقد مع المستأمن إلا ما يحل من العقود مع المسلمين ، ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء لا يلزمه شرعا وإن جرت به العادة ، كالذي يؤخذ من زوار بيت المقدس كما قدمناه في باب العاشر عن الخير الرملي . وسيأتي تمامه في الجزية . [ ص: 170 ] مطلب مهم فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى سوكرة وتضمين الحربي ما هلك في المركب

وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا : وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربي يدفعون له أجرته ، ويدفعون أيضا مالا معلوما لرجل حربي مقيم في بلاده ، يسمى ذلك المال : سوكرة على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره ، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم ، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التجار مال السوكرة وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماما ، والذي يظهر لي : أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله لأن هذا التزام ما لا يلزم . فإن قلت : إن المودع إذا أخذ أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت قلت ليست مسألتنا من هذا القبيل لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة بل في يد صاحب المركب ، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيرا مشتركا قد أخذ أجرة على الحفظ ، وعلى الحمل ، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك . فإن قلت : سيأتي قبيل باب كفالة الرجلين قال لآخر اسلك هذا الطريق ، فإنه آمن فسلك ، وأخذ ماله لم يضمن ولو قال : إن كان مخوفا وأخذ مالك فأنا ضامن ضمن وعلله الشارح هنالك بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصا ا هـ أي بخلاف الأولى ، فإنه لم ينص على الضمان بقوله فأنا ضامن ، وفي جامع الفصولين الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور فيصار كقول الطحان لرب البر : اجعله في الدلو فجعله فيه ، فذهب من النقب إلى الماء ، وكان الطحان عالما به يضمن ; إذ غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة . ا هـ . قلت : لا بد في مسألة التغرير من أن يكون الغار عالما بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة ، وأن يكون المغرور غير عالم إذ لا شك أن رب البر لو كان عالما بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره ، ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة لما في القاموس غره غرا وغرورا فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو . ا هـ .

ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار ، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا ، وأما الخطر من اللصوص ، والقطاع فهو معلوم له ، وللتجار لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعا في أخذ بدل الهالك ، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضا ، نعم : قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب ، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة في بلادهم ، ويأخذ منه بدل الهالك ، ويرسله إلى التاجر فالظاهر أن هذا يحل للتاجر أخذه لأن العقد الفاسد جرى بين حربيين في بلاد الحرب ، وقد وصل إليه مالهم برضاهم فلا مانع من أخذه ، وقد يكون التاجر في بلادهم ، فيعقد معهم هناك ، ويقبض البدل في بلادنا أو بالعكس ، ولا شك أنه في الأولى إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا تقضى للتاجر بالبدل ، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن هنا يحل له أخذه لأن العقد الذي صدر في بلادهم ، لا حكم له فيكون قد أخذ مال حربي برضاه وأما في صورة العكس بأن كان العقد في بلادنا ، والقبض في بلادهم فالظاهر أنه لا يحل أخذه ، ولو برضا الحربي لابتنائه على العقد الفاسد الصادر [ ص: 171 ] في بلاد الإسلام ، فيعتبر حكمه هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة فاغتنمه فإنك لا تجده في غير هذا الكتاب ( قوله وتحرم غيبته كالمسلم ) لأنه بعقد الذمة ، وجب له مالنا فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته بل قالوا : إن ظلم الذمي أشد ( قوله ويأخذوه ببينة ) في بعض النسخ : ويأخذونه ، وهو المناسب لعدم ما يقتضي حذف النون ( قوله ولو من أهل الذمة إلخ ) قال في الفتح : فإن أقاموا بينة من أهل الذمة قبلت استحسانا لأنهم لا يمكنهم إقامتها من المسلمين لأن أنسابهم في دار الحرب لا يعرفها المسلمون ، فصار كشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال فإذا قالوا لا نعلم له وارثا غيرهم دفع إليهم المال ، وأخذ منهم كفيلا لما يظهر في المآل من ذلك قيل هو قولهما لا قول أبي حنيفة كما في المسلمين وقيل بل قولهم جميعا ولا يقبل كتاب ملكهم ولو ثبت أنه كتابه أي لأن شهادته وحده لا تقبل فكتابه بالأولى

.



الخدمات العلمية