الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وبول انتضح كرءوس إبر ) وكذا [ ص: 323 ] جانبها الآخر وإن كثر بإصابة الماء للضرورة ، لكن لو وقع في ماء قليل نجسه في الأصح ; لأن طهارة الماء [ ص: 324 ] آكد جوهرة . وفي القنية : لو اتصل وانبسط وزاد على قدر الدرهم ينبغي أن يكون كالدهن النجس إذا انبسط . وطين شارع [ ص: 325 ] وبخار نجس ، وغبار سرقين ، ومحل كلاب ، وانتضاح غسالة لا تظهر مواقع قطرها في الإناء عفو

التالي السابق


( قوله : وبول انتضح ) أي : ترشش ، وشمل بوله وبول غيره بحر . وكالبول الدم على ثوب القصاب حلية عن الحاوي القدسي . وظاهر التقييد بالقصاب أي : اللحام أنه لا يعفى عنه في ثوب غير القصاب ; لأن العلة الضرورة ولا ضرورة لغيره ، وتأمله مع قول البحر المار وشمل بوله وبول غيره . ( قوله : كرءوس إبر ) بكسر الهمزة جمع إبرة احتراز عن المسلة كما في شرح المنية والفتح . ( قوله : وكذا جانبها الآخر ) أي : خلافا لأبي جعفر الهندواني حيث منع بالجانب الآخر ، وغيره من المشايخ قالوا : لا يعتبر الجانبان واختاره في الكافي حلية ; فرءوس الإبر تمثيل للتقليل كما في القهستاني عن الطلبة ، لكن فيه أيضا عن الكرماني أن هذا ما لم ير على الثوب وإلا وجب غسله إذا صار بالجمع أكثر من قدر الدرهم . ا هـ . وكذا نبه عليه في شرح المنية فقال : والتقييد بعدم إدراك الطرف ذكره المعلى في نوادره عن أبي يوسف . مطلب إذا صرح بعض الأئمة بقيد لم يصرح غيره بخلافه وجب اتباعه

وإذا صرح بعض الأئمة بقيد لم يرد عن غيره منهم تصريح بخلافه يجب أن يعتبر سيما والموضع موضع احتياط ولا حرج في التحرز عن مثله ، بخلاف ما لا يرى كما في أثر أرجل الذباب ، فإن في التحرز عنه حرجا ظاهرا . ا هـ .

أقول : الذي يظهر لي أن هذا التقييد موافق لقول الهندواني ، وقد علمت تصريح غيره من المشايخ بخلافه [ ص: 323 ] ; لأن مقدار الجانب الآخر من الإبرة يدركه الطرف ، ثم رأيت في الحلية ذكر أن ما في غاية البيان من أن التقييد برءوس الإبر احتراز عن رءوس المسال هو بما عن الهندواني أشبه ، ولعله المراد بما في نوادر المعلى . ا هـ . وهذا عين ما فهمته - ولله الحمد - .

والحاصل أن في المسألة قولين مبنيين على الاختلاف في المراد من قول محمد كرءوس الإبر :

أحدهما أنه قيد احترز به عن رأسها من الجانب الآخر وعن رءوس المسال ، ويؤيده رواية المعلى عن أبي يوسف من التقييد بما لا يدركه الطرف .

ثانيهما أنه غير قيد وإنما هو تمثيل للتقليل ، فيعفى عنه سواء كان مقدار رأسها من جانب الخرز أو من جانب الثقب ، ومثله ما كان كرأس المسلة ، وقد علمت أنه في الكافي اختار القول الثاني ، ولكن ظاهر المتون والشروح اختيار الأول ; لأن العلة الضرورة قياسا على ما عمت به البلوى مما على أرجل الذباب فإنه يقع على النجاسة ثم يقع على الثياب . قال في النهاية : ولا يستطاع الاحتراز عنه ، ولا يستحسن لأحد استعداد ثوب لدخول الخلاء . وروي أن محمد بن علي زين العابدين تكلف لبيت الخلاء ثوبا ثم تركه ، وقال : لم يتكلف لهذا من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء رضي الله عنهم ا هـ .

وقد يقال : إن قول المتون كرءوس الإبر اتباع لعبارة محمد لا للاحتراز عن الجانب الآخر ، ولذا لم يجعله للاحتراز إلا الهندواني ، وخالفه غيره من المشايخ معللين بدفع الحرج ، ولا شك في وجود الحرج في ذلك فلذا اختاره في الكافي اتباعا لما عليه أكثر المشايخ . وقال في متن مواهب الرحمن : وعفي عن رشاش بول كرءوس الإبر ، وقيل : يعتبره أي : أبو يوسف إن رئي أثره ، فأفاد بقيل ضعف اعتبار ما يدركه الطرف وهو رواية المعلى السابقة ; وقد ظهر مما قررناه أن الخلاف فيما يرى أثره وهو ما يدركه الطرف ، وأن الأرجح العفو عنه وعدم اعتباره كما مشى عليه الشارح ، وظهر أن المراد به ما كان مثل رأس الإبرة من الجانب الآخر لا أكبر من ذلك . وظهر أيضا أن ما لا يدركه الطرف ما كان مثل رءوس الإبر وأرجل الذباب فإنه لا يدركه الطرف المعتدل ما لم يقرب إليه جدا أي : مع مغايرة لون الرشاش للون الثوب ، وإلا فقد لا يرى أصلا . وينبغي أنه لو شك أنه يدركه بالطرف أم لا أنه يعفى عنه اتفاقا ; لأن الأصل طهارة الثوب وشك فيما ينجسه ، هذا ما ظهر لي في هذا المحل - والله أعلم - . ( قوله : نجسه في الأصح ) قال في الحلية : ثم لو وقع هذا الثوب المنتضح عليه البول مثل رءوس الإبر في الماء القليل هل ينجس ؟ ففي الخلاصة عن أبي جعفر : لقائل أن يقول ينجس ، ولقائل أن يقول لا ينجس ، وهذا فرع مسألة الاستنجاء ; يعني لو استنجى بغير الماء ثم ابتل ذلك الموضع ثم أصاب من ذلك ثوبه أو بدنه فالمختار أنه يتنجس إن كان أكثر من قدر الدرهم . ا هـ . ثم ذكر في الحلية عن الكفاية ما يفيد أن الكلام فيما يرى أثره ، ثم قال : وهو المتجه . ا هـ . ويدل عليه ما قدمناه من اختيار أكثر المشايخ عدم اعتبار رءوس الإبر من الجانبين خلافا للهندواني . وقول الخلاصة المار : المختار أنه ينجس إن كان أكثر من قدر الدرهم غير ظاهر ; لأن الماء ينجسه ما قل وكثر ، فإذا لم ينجس بأقل من الدرهم لا ينجس بالأكثر منه .

ثم اعلم أن وقوع الرشاش في الماء ابتداء مثل وقوع هذا الثوب فيه كما في السراج وغيره . هذا ، وفي القهستاني عن التمرتاشي : إن استبان أثره على الثوب بأن تدركه العين أو على الماء بأن ينفرج أو يتحرك فلا عبرة به . وعن الشيخين أنه معتبر . ا هـ . وظاهره أن المعتمد عدم اعتبار ما ظهر أثره في الثوب والماء ، وفي ذلك تأييد لما قدمناه فافهم [ ص: 324 ] قوله : جوهرة ) ومثله في القهستاني وقدمناه عن الفيض أيضا خلافا لما مشى عليه المصنف تبعا للدرر في فصل البئر فافهم . نعم يؤيده ما نقله القهستاني آنفا عن التمرتاشي - والله أعلم - . ( قوله : لو اتصل وانبسط ) أي : ما يصيب الثوب مثل رءوس الإبر كما هو عبارة القنية ونقلها في البحر فافهم . ( قوله : ينبغي أن يكون كالدهن إلخ ) أي : فيكون مانعا للصلاة . ووجه إلحاقه بالدهن أن كلا منهما كان أولا غير مانع ثم منع بعد زيادته على الدرهم ، لكن قد يفرق بينهما بأن البول الذي كرءوس الإبر اعتبر كالعدم للضرورة ولم يعتبروا فيه قدر الدرهم بدليل ما في البحر أنه معفو عنه للضرورة وإن امتلأ الثوب . ا هـ . ومعلوم أن ما يملأ الثوب يزيد على الدرهم ، وكذا قول الشارح وإن كثر بإصابة الماء ، فإنه لا فرق بين كثرته بالماء وبين اتصال بعضه ببعض . ونظيره ما ليس فيه قوة السيلان من الخارج من الجسد فإنه ساقط الاعتبار وإن كثر وعم الثوب . وقد صرح في الحلية بعين ما قلنا فقال : ما ليس بكثير من النجاسة منه ما هو مهدر الاعتبار فلا يجمع بحال . وعليه ما في الحاوي القدسي أن ما أصاب من رش البول مثل رءوس الإبر ، ونحوه الدم على ثوب القصاب وما لا ينقض الوضوء من بلة الجرح أو القيء معفو عنه وإن كثر . وما في المحيط من أنه لو أصاب موضع ذلك الرش ماء فإنه لا ينجسه . ا هـ . نعم لو كان الرش مما يدرك بالطرف بأن كان أكبر من رءوس الإبر من الجانب الآخر على ما مر فإنه يجمع ويمنع وإن كان في مواضع متفرقة كما يعلم مما قدمناه عن القهستاني عن الكرماني .

وفي القهستاني أيضا . لو أصاب قدر ما يرى من النجاسة أثوابا عمامة وقميصا وسراويل مثلا منع الصلاة إذا كان بحيث إذا جمع صار أكثر من قدر الدرهم ا هـ . لكن كلام القنية صريح في أن الذي يجمع ويمنع ما كان مثل رءوس الإبر كما قدمناه ، فيرد عليه ما علمته من أن ما كان كذلك فهو مهدر الاعتبار ولا ينفعه هذا التأويل ، فافهم واغتنم هذا التحرير . مطلب في العفو عن طين الشارع

. ( قوله : وطين شارع ) مبتدأ خبره قوله : عفو والشارع الطريق ط . وفي الفيض : طين الشوارع عفو وإن ملأ الثوب للضرورة ولو مختلطا بالعذرات وتجوز الصلاة معه . ا هـ . . وقدمنا أن هذا قاسه المشايخ على قول محمد آخرا بطهارة الروث والخثي ، ومقتضاه أنه طاهر لكن لم يقبله الإمام الحلواني كما في الخلاصة . قال في الحلية : أي : لا يقبل كونه طاهرا وهو متجه ، بل الأشبه المنع بالقدر الفاحش منه إلا لمن ابتلي به بحيث يجيء ويذهب في أيام الأوحال في بلادنا الشامية لعدم انفكاك طرقها من النجاسة غالبا مع عسر الاحتراز ، بخلاف من لا يمر بها أصلا في هذه الحالة فلا يعفى في حقه حتى إن هذا لا يصلي في ثوب ذاك . ا هـ .

أقول : والعفو مقيد بما إذا لم يظهر فيه أثر النجاسة كما نقله في الفتح عن التجنيس . وقال القهستاني : إنه الصحيح ، لكن حكى في القنية قولين وارتضاهما ; فحكى عن أبي نصر الدبوسي أنه طاهر إلا إذا رأى عين النجاسة ، وقال : وهو صحيح من حيث الرواية وقريب من حيث المنصوص ; ثم نقل عن غيره فقال : إن غلبت النجاسة لم يجز ، وإن غلب الطين فطاهر . ثم قال : وإنه حسن عند المنصف دون المعاند ا هـ .

والقول الثاني مبني على القول بأنه إذا اختلط ماء وتراب وأحدهما نجس فالعبرة للغالب ، وفيه أقوال ستأتي في الفروع .

والحاصل أن الذي ينبغي أنه حيث كان العفو للضرورة ، وعدم إمكان الاحتراز أن يقال بالعفو وإن غلبت [ ص: 325 ] النجاسة ما لم ير عينها لو أصابه بلا قصد وكان ممن يذهب ويجيء ، وإلا فلا ضرورة . وقد حكى في القنية أيضا قولين فيما لو ابتلت قدماه مما رش في الأسواق الغالبة النجاسة ، ثم نقل أنه لو أصاب ثوبه طين السوق أو السكة ثم وقع الثوب في الماء تنجس . ( قوله : وبخار نجس ) في الفتح مرت الريح بالعذرات وأصاب الثوب ، إن وجدت رائحتها تنجس ، لكن نقل في الحلية أن الصحيح أنه لا ينجس ; وما يصيب الثوب من بخارات النجاسة ، قيل ينجسه ، وقيل لا وهو الصحيح . وفي الحلية : استنجى بالماء وخرج منه ريح لا ينجس عند عامة المشايخ وهو الأصح ، وكذا إذا كان سراويله مبتلا .

وفي الخانية ماء الطابق نجس قياسا لا استحسانا . وصورته : إذا أحرقت العذرة في بيت فأصاب ماء الطابق ثوب إنسان لا يفسده استحسانا ما لم يظهر أثر النجاسة فيه ، وكذا الإصطبل إذا كان حارا ، وعلى كوته طابق أو كان فيه كوز معلق فيه ماء فترشح ، ، وكذا الحمام لو فيها نجاسات فعرق حيطانها وكواتها وتقاطر . قال في الحلية : والظاهر العمل بالاستحسان ، ولذا اقتصر عليه في الخلاصة ، والطابق : الغطاء العظيم من الزجاج أو اللبن . ا هـ . مطلب : العرقي الذي يستقطر من دردي الخمر نجس حرام ، بخلاف النوشادر

وقال في شرح المنية : والظاهر أن وجه الاستحسان فيه الضرورة لتعذر التحرز ، وعليه فلو استقطرت النجاسة فمائيتها نجسة لانتفاء الضرورة فبقي القياس بلا معارض ، وبه يعلم أن ما يستقطر من دردي الخمر وهو المسمى بالعرقي في ولاية الروم نجس حرام كسائر أصناف الخمر ا هـ .

أقول : وأما النوشادر المستجمع من دخان النجاسة فهو طاهر كما يعلم مما مر ، وأوضحه سيدي عبد الغني في رسالة سماها ( إتحاف من بادر إلى حكم النوشادر ) . ( قوله : وغبار سرقين ) بكسر السين : أي : زبل ويقال سرجين كما في القاموس . قال في القنية راقما : لا عبرة للغبار النجس إذا وقع في الماء إنما العبرة للتراب ا هـ ونظمه المصنف في أرجوزته وعلله في شرحها بالضرورة . ( قوله : ومحل كلاب ) في المنية مشى كلب على الطين فوضع رجل قدمه على ذلك الطين تنجس ، وكذا إذا مشى على ثلج رطب ولو جامدا فلا . ا هـ . قال في شرحها : وهذا كله بناء على أن الكلب نجس العين وقد تقدم أن الأصح خلافه ذكره ابن الهمام ا هـ ، ومثله في الحلية .

( قوله : وانتضاح غسالة إلخ ) ذكر المسألة في شرح المنية الصغير عن الخانية ، وقد رأيتها في الخانية ذكرها في بحث الماء المستعمل ، لكن غسالة النجاسة كغسالة الحدث بناء على القول بنجاسة الماء المستعمل ، ويدل لها ما قدمناه عن القهستاني عن التمرتاشي . وفي الفتح : وما ترشش على الغاسل من غسالة الميت مما لا يمكنه الامتناع عنه ما دام في علاجه لا ينجسه لعموم البلوى ، بخلاف الغسلات الثلاث إذا استنقعت في موضع فأصابت شيئا نجسته ا هـ أي : بناء على ما عليه العامة من أن نجاسة الميت نجاسة خبث لا حدث كما حررناه في أول فصل البئر ، واحترز بالثلاث عن الغسالة في المرة الرابعة فإنها طاهرة




الخدمات العلمية