الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وحكمها ) ( الخروج عن عهدة الواجب ) في الدنيا ( والوصول إلى الثواب ) بفضل الله تعالى ( في العقبى ) مع صحة النية إذ لا ثواب بدونها ( فتجب ) التضحية : أي إراقة الدم من النعم عملا لا اعتقادا [ ص: 314 ] بقدرة ممكنة هي ما يجب بمجرد التمكن من الفعل ; فلا يشترط بقاؤها لبقاء الوجوب لأنها شرط محض لا ميسرة ، هي ما يجب بعد التمكن بصفة اليسر فغيرته من العسر إلى اليسر ، فيشترط بقاؤها لأنها شرط في معنى العلة كما مر في الفطرة بدليل وجوب تصدقه [ ص: 315 ] بعينها أو بقيمتها لو مضت أيامها ( على حر مسلم مقيم ) بمصر أو قرية أو بادية عيني ، فلا تجب على حاج مسافر ; فأما أهل مكة فتلزمهم وإن حجوا ، وقيل لا تلزم المحرم سراج ( موسر ) يسار الفطرة ( عن نفسه لا عن طفله ) على الظاهر ، بخلاف الفطرة ( شاة ) بالرفع بدل من ضمير تجب أو فاعله ( أو سبع بدنة ) هي الإبل والبقر ; سميت به لضخامتها ، ولو لأحدهم أقل من سبع [ ص: 316 ] لم يجز عن أحد ، وتجزي عما دون سبعة بالأولى ( فجر ) نصب على الظرفية ( يوم النحر إلى آخر أيامه ) وهي ثلاثة أفضلها أولها .

التالي السابق


( قوله بفضل الله تعالى ) هذا مذهب أهل الحق إذ لا يجب عليه تعالى شيء ( قوله مع صحة النية ) أي بخلوصها بقصد القربة ( قوله إذ لا ثواب بدونها ) أي بدون النية لأن ثواب الأعمال بالنيات أو بدون صحتها ، إذ لو خالطها رياء مثلا فلا ثواب أيضا وإن سقط الواجب ، لأن الثواب مفرع على القبول وبعد جواز الفعل لا يلزم حصول القبول في المختار كما في شرح المنار . قال في الولوالجية : رجل توضأ وصلى الظهر جازت صلاته والقبول لا يدري هو المختار لأن الله تعالى قال - { إنما يتقبل الله من المتقين } - وشرائط التقوى عظيمة ا هـ وتمامه في [ نسمات الأسحار ] ( قوله فتجب التضحية ) إسناد الوجوب إلى الفعل أولى من إسناده إلى العين كالأضحية كما فعله القدوري ط . والوجوب هو قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف . وعنه أنها سنة وهو قول الشافعي هداية ، والأدلة في المطولات ( قوله أي إراقة الدم ) قال في الجوهرة : والدليل على أنها الإراقة لو تصدق بين الحيوان لم يجز ، والتصدق بلحمها بعد الذبح مستحب وليس بواجب ا هـ

( قوله عملا لا اعتقادا ) اعلم أن الفرض ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه كالإيمان والأركان الأربعة ، وحكمه اللزوم علما : أي حصول العلم القطعي بثبوته وتصديقا بالقلب : أي لزوم اعتقاد حقيته وعملا بالبدن حتى يكفر جاحده ويفسق تاركه بلا عذر . والواجب ما ثبت بدليل فيه شبهة كصدقة الفطر والأضحية ، وحكمه اللزوم عملا كالفرض لا علما على اليقين للشبهة ، حتى لا يكفر جاحده ويفسق تاركه بلا تأويل كما هو مبسوط في كتب الأصول . ثم إن الواجب على مراتب كما قال القدوري بعضها آكد من بعض . فوجوب سجدة التلاوة آكد من وجوب صدقة الفطر ، ووجوبها آكد من وجوب الأضحية ا هـ وذلك باعتبار تفاوت الأدلة في القوة . وقد ذكر في التلويح أن استعمال الفرض فيما ثبت بظني ، والواجب فيما ثبت بقطعي شائع مستفيض كقولهم الوتر فرض ونحو ذلك ويسمى فرضا عمليا ، وكقولهم الزكاة واجبة ونحوه ، فلفظ الواجب يقع على ما هو فرض علما وعملا كصلاة الفجر ، وعلى ظني هو في قوة الفرض في العمل كالوتر حتى يمنع تذكره صحة الفجر كتذكر العشاء ، وعلى ظني هو دون الفرض في العمل وفوق السنة كتعيين الفاتحة حتى لا تفسد الصلاة بتركها بل تجب سجدة السهو ا هـ وتمام تحقيق ذلك بما لم يوجد مجموعة في كتاب مذكور في حاشيتنا على المنار بتوفيق الملك الوهاب . [ ص: 314 ] إذا علمت ذلك ظهر لك أن كلا من الفرض والواجب اشتركا في لزوم العمل وإن تفاوتت مراتب اللزوم كما تفاوتت مراتب الوجوب .

واختلفا في لزوم الاعتقاد على سبيل الفرضية ولهذا يسمى الواجب فرضا عملا فقط ، وقد علمت أن كلا منهما يطلق على الآخر . فقول الشارح عملا لا اعتقادا احتراز عن الفرض القطعي ولهذا قال في المنح أي فلا يكفر جاحده ، فأفاد أن المراد به الواجب الظني كالوتر ونحوه ، لا القطعي الذي هو فرض علما وعملا فإن منكره كافر كما مر ، بخلاف منكر الواجب الظني : أي منكر وجوبه فإنه لا يكفر للشبهة فيه . أما إذا أنكر أصل مشروعيته المجمع عليها بين الأمة فإنه يكفر ، فقد صرح المصنف في باب الوتر والنوافل أن من أنكر سنة الفجر يخشى عليه الكفر . ثم رأيته في القنية في باب ما يكفر به نقل عن الحلواني : لو أنكر أصل الوتر وأصل الأضحية كفر ، ثم نقل عن الزندوستي أنه لو أنكر الفرضية لا يكفر ، ثم قال : ولا تنافي بينهما لأن الأصل مجمع عليه والفرضية والوجوب مختلف فيهما ا هـ فافهم ( قوله بقدرة ) متعلق بتجب ( قوله ممكنة ) بصيغة اسم الفاعل من التمكين ط ( قوله هي ما يجب ) الأوضح أن يقول والواجب بهذه القدرة ما يجب إلخ ط . بيان ذلك أن القدرة التي يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه نوعان : مطلق ، وهو أدنى ما يتمكن به العبد من أداء ما لزمه ، وهو شرط في وجوب أداء كل مأمور به ، وكامل وهو القدرة الميسرة للأداء بعد التمكن ، ودوامها شرط لدوام الواجب الشاق على النفس كأكثر الواجبات المالية ، حتى بطلت الزكاة والعشر والخراج بهلاك المال بعد التمكن من الأداء ، لأن القدرة الميسرة وهي وصف النماء قد فاتت بالهلاك فيفوت دوام الوجوب لفوات شرطه ، بخلاف الأولى فليس بقاؤها شرطا لبقاء الواجب ، حتى لا يسقط الحج وصدقة الفطر بهلاك المال لوجوبهما بقدرة ممكنة وهي القدرة على الزاد والراحلة وملك النصاب ، ولا يقع اليسر فيهما إلا بخدم ومراكب وأعوان في الأول وملك أموال كثيرة في الثاني وليس بشرط بالإجماع

( قوله بمجرد التمكن من الفعل ) أي بالتمكن من الفعل المجرد عن اشتراط دوام القدرة ط ( قوله لأنها شرط محض ) أي ليس فيه معنى العلة ، والشرط يكفي مطلق وجوده لتحقق وجوده لتحقق المشروط ا هـ ط ( قوله هي ما يجب إلخ ) الأوضح أن يقول والواجب بها ما يجب إلخ ط ( قوله بصفة اليسر ) الباء للمصاحبة ط ( قوله فغيرته من العسر ) وهو الوجوب بمجرد التمكن إلى اليسر وهو الوجوب بصفة اليسر بعد التمكن ، وهذا منه بيان لوجه التسمية بميسرة والتغيير تقديري ، إذ ليس المراد أنه كان واجبا بالعسرة بقدرة ممكنة ثم تغير إلى اليسر ، بل المراد أنه لو وجب بالممكنة كباقي الواجبات بها لكان جائزا فلما توقف عليها صار كأنه تغير ( قوله لأنها شرط في معنى العلة ) لأن العلة هي المؤثرة ، ولما أثر هذا الشرط بتغيير الواجب إلى صفة اليسر كان في معنى العلة والعلة مما لا يمكن بقاء الحكم بدونها إذ لا يسر بدون قدرة ميسرة ، والواجب الذي لم يشرع إلا بصفة اليسر لا يبقى بدونها ( قوله بدليل ) علة لكونها بقدرة ممكنة لا ميسرة ا هـ ح . قال في العناية : وهي واجبة بالقدرة الممكنة ، بدليل أن الموسر إذا اشترى شاة للأضحية في أول يوم النحر ولم يضح حتى مضت أيام النحر ثم افتقر كان عليه أن يتصدق بعينها ولا تسقط عنه الأضحية ، فلو كانت بالقدرة الميسرة كان دوامها شرطا كما في الزكاة والعشر والخراج حيث تسقط بهلاك المال ا هـ . [ ص: 315 ] واعترض بأنه إذا افتقر بعد مضي أيام النحر كانت القدرة الميسرة حاصلة فيها فلذا لم تسقط بعد .

واعترضه في الحواشي السعدية أيضا بأن قول الهداية وتفوت بمضي الوقت يدل على أن الوجوب ليس بالقدرة الممكنة وإلا لم تسقط وكان عليه أن يضحي وإن لم يشتر شاة في يوم النحر ، وبأنها تسقط بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة تسقط بهلاك النصاب ، بخلاف صدقة الفطر فإنها لا تسقط بهلاك المال بعدما طلع الفجر من يوم الفطر وهذا كالصريح في أن المعتبر فيها هو القدرة الميسرة ا هـ . أقول : قد يجاب بأن الأضحية لها وقت مقدر كالصلاة والصوم والعبرة للوجوب في آخره كما يأتي ، فمن كان غنيا آخره تلزمه ، ومن كان فقيرا آخره لا تلزمه ولو كان في أوله بخلاف ذلك ، فمن اشتراها غنيا ثم افتقر بعد أيامها كان في آخر الوقت متمكنا بالقدرة الممكنة حتى لزمه القضاء لا بالقدرة الميسرة وإلا لاشترط دوامها بأن تسقط عنه إذا افتقر ، والواقع خلافه ; ومعنى قول الهداية وتفوت بمضي الوقت فوات أدائها بدليل أن عليه التصدق بقيمتها أو بعينها كما يأتي في بيانه ، وسقوطها بهلاك المال قبل مضي أيامها لا يفيد أن القدرة ميسرة لأن العبرة لآخر الوقت ولم توجد القدرة فيه أصلا ، بخلاف الزكاة وصدقة الفطر إذ ليس لهما وقت يفوت الأداء بفوته فإن الزكاة في كل وقت زكاة وكذا صدقة الفطر ، بخلاف الأضحية فإن الواقع بعد وقتها خلف عنها ، فحيث سقطت الزكاة بالهلاك في وقت وجوب الأداء ولم تسقط صدقة الفطر علم أن الأولى وجبت بقدرة ميسرة والثانية بقدرة ممكنة ، وهلاك المال في الأضحية لا يمكن حمله على واحد من هذين إلا إذا كان بعد وجوب الأداء وذلك في آخر أيام النحر ، لأن وقتها مقدر كما علمت ; فحيث هلك المال بعد أيامها وألزمناه بالتصدق بعينها أو بقيمتها علمنا أنها لم تسقط به كصدقة الفطر وكان وجوبها بقدرة ممكنة .

وأما إذا هلك قبل مضي أيامها كان الهلاك قبل وجوب الأداء فلا يمكن حمله على واحد منهما ، فتدبر هذا التحقيق فهو بالقبول حقيق ، والله ولي التوفيق ( قوله بعينها ) أي لو نذرها أو كان فقيرا شراها لها ، وقوله أو بقيمتها أي لو كان غنيا ولم ينذرها كما يأتي فتأمل ( قوله فتلزمهم وإن حجوا ) اقتصر عليه في البدائع وذلك لأنهم مقيمون ( قوله وقيل لا تلزم المحرم ) وإن كان من أهل مكة جوهرة عن الخجندي ، وحمله في الشرنبلالية على المسافر وفيه نظر ظاهر ( قوله لا عن طفله ) أي من مال الأب ط ( قوله على الظاهر ) قال في الخانية : في ظاهر الرواية أنه يستحب ولا يجب ، بخلاف صدقة الفطر . وروى الحسن عن أبي حنيفة يجب أن يضحي عن ولده وولد ولده الذي لا أب له ، والفتوى على ظاهر الرواية ا هـ ولو ضحى عن أولاده الكبار وزوجته لا يجوز إلا بإذنهم . وعن الثاني أنه يجوز استحسانا بلا إذنهم بزازية . قال في الذخيرة : ولعله ذهب إلى أن العادة إذا جرت من الأب في كل سنة صار كالإذن منهم ، فإن كان على هذا الوجه فما استحسنه أبو يوسف مستحسن ( قوله شاة ) أي ذبحها لما مر أن الواجب هو الإراقة ( قوله بدل من ضمير تجب أو فاعله ) كذا في المنح وهذا بالنظر إلى مجرد المتن ، وإلا فالشارح ذكر فاعل تجب فيما مر وهو التضحية تبعا للمنح أيضا ، فبالنظر إلى الشرح تكون شاة بدلا من التضحية أو خبرا لمبتدإ محذوف مع تقدير مضاف : أي الواجب ذبح شاة فافهم ( قوله لضخامتها ) أي عظم بدنها ( قوله ولو لأحدهم ) أي أحد السبعة [ ص: 316 ] المعلومين من قوله أو سبع بدنة ، لأن المراد أنها تجزي عن سبعة بنية القربة من كل منهم ولو اختلفت جهات القربة كما يأتي

( قوله لم يجز عن أحد ) من الجواز أو من الإجزاء والثاني أنسب بما بعده ( قوله وتجزي عما دون سبعة ) الأولى عمن لأن ما لما لا يعقل ، وأطلقه فشمل ما إذا اتفقت الأنصباء قدرا أو لا لكن بعد أن لا ينقص عن السبع ، ولو اشترك سبعة في خمس بقرات أو أكثر صح لأن لكل منهم في بقرة سبعها لا ثمانية في سبع بقرات أو أكثر ، لأن كل بقرة على ثمانية أسهم فلكل منهم أقل من السبع ولا رواية في هذه الفصول ولو اشترك سبعة في سبع شياه لا يجزيهم قياسا لأن كل شاة بينهم على سبعة أسهم . وفي الاستحسان يجزيهم وكذا اثنان في شاتين ، وعليه فينبغي أن يكون في الأول قياس واستحسان ، والمذكور فيه جواب القياس بدائع ( قوله نصب على الظرفية ) أي لقوله تجب ، وهذا بيان لأول وقتها مطلقا للمصري والقروي كما يأتي بيانه فافهم ( قوله إلى آخر أيامه ) دخل فيها الليل وإن كره كما يأتي ، وأفاد أن الوجوب موسع في جملة الوقت غير عين . والأصل أن ما وجب كذلك يتعين الجزء الذي أدى فيه للوجوب أو آخر الوقت كما في الصلاة وهو الصحيح وعليه يتخرج ما إذا صار أهلا للوجوب في آخره ، بأن أسلم أو أعتق أو أيسر أو أقام تلزمه ، لا إن ارتد أو أعسر أو سافر في آخره ، ولو أعسر بعد خروج صار قيمة شاة صالحة للأضحية دينا في ذمته ، ولو مات الموسر في أيامها سقطت ، وفي الحقيقة لم تجب ، ولو ضحى الفقير ثم أيسر في آخره عليه الإعادة في الصحيح لأنه تبين أن الأولى تطوع بدائع ملخصا ، لكن في البزازية وغيرها أن المتأخرين قالوا لا تلزمه الإعادة وبه نأخذ

( قوله وهي ثلاثة ) وكذا أيام التشريق ثلاثة ، والكل يمضي بأربعة أولها نحر لا غير وآخرها تشريق لا غير والمتوسطان نحر وتشريق هداية . وفيه إشعار بأن التضحية تجوز في الليلتين الأخيرتين لا الأولى ، إذ الليل في كل وقت تابع لنهار مستقبل إلا في أيام الأضحية فإنه تابع لنهار ماض كما في المضمرات وغيره ، وفيه إشكال لأن ليلة الرابع لم تكن وقتا لها بلا خلاف ، إلا أن يقال المراد فيما بين أيام الأضحية قهستاني ( قوله أفضلها أولها ) ثم الثاني ثم الثالث كما في القهستاني عن السراجية




الخدمات العلمية