الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذا ) لا إثم عليه ( لو ذكر مساوئ أخيه على وجه الاهتمام لا يكون غيبة إنما الغيبة أن يذكر على وجه الغضب يريد السب ) ولو اغتاب أهل قرية فليس بغيبة لأنه لا يريد به كلهم بل بعضهم وهو مجهول خانية فتباح غيبة مجهول [ ص: 409 ] ومتظاهر بقبيح ولمصاهرة ولسوء اعتقاد تحذيرا منه ، ولشكوى ظلامته للحاكم شرح وهبانية ( وكما تكون الغيبة باللسان ) صريحا ( تكون ) أيضا [ ص: 410 ] بالفعل وبالتعريض وبالكتابة وبالحركة وبالرمز و ( بغمز العين والإشارة باليد ) وكل ما يفهم منه المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام ; ومن ذلك ما قالت عائشة رضي الله عنها " { دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أي قصيرة فقال عليه الصلاة والسلام اغتبتيها } " ومن ذلك المحاكاة كأن يمشي متعارجا أو كما يمشي فهو غيبة بل أقبح لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ومن الغيبة أن يقول : بعض من مر بنا اليوم أو بعض من رأيناه إذا كان المخاطب يفهم شيخا معينا لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم ، وأما إذا لم يفهم عينه جاز وتمامه في شرح الوهبانية ، وفيها : الغيبة أن تصف أخاك حال كونه غائبا بوصف يكرهه إذا سمعه . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام ، { أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال : ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته } " وإذا لم تبلغه يكفيه الندم وإلا شرط بيان كل ما اغتابه به

التالي السابق


( قوله لا يكون غيبة ) لأنه لو بلغه لا يكرهه لأنه مهتم له متحزن ومتحسر عليه ، لكن بشرط أن يكون صادقا في اهتمامه وإلا كان مغتابا منافقا مرائيا مزكيا لنفسه ، لأنه شتم أخاه المسلم وأظهر خلاف ما أخفى وأشعر الناس أنه يكره هذا الأمر لنفسه وغيره ، وأنه من أهل الصلاح حيث لم يأت بصريح الغيبة ، وإنما أتى بها في معرض الاهتمام فقد جمع أنواعا من القبائح نسأل الله تعالى العصمة .

( قوله فليس بغيبة ) قال في المختار ولا غيبة إلا لمعلومين ( قوله لأنه لا يريد به كلهم ) مفهومه أنه لو أراد ذلك كان غيبة تأمل ( قوله فتباح غيبة مجهول إلخ ) اعلم أن الغيبة حرام بنص الكتاب العزيز وشبه المغتاب بآكل لحم أخيه [ ص: 409 ] ميتا إذ هو أقبح من الأجنبي ومن الحي ، فكما يحرم لحمه يحرم عرضه قال صلى الله عليه وسلم " { كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه } ; رواه مسلم وغيره ، فلا تحل إلا عند الضرورة بقدرها كهذه المواضع .

وفي تنبيه الغافلين للفقيه أبي الليث : الغيبة على أربعة أوجه : في وجه هي كفر بأن قيل له لا تغتب فيقول : ليس هذا غيبة ، لأني صادق فيه فقد استحل ما حرم بالأدلة القطعية ، وهو كفر ، وفي وجه : هي نفاق بأن يغتاب من لا يسميه عند من يعرفه ، فهو مغتاب ، ويرى من نفسه أنه متورع ، فهذا هو النفاق ، وفي وجه : هي معصية وهو أن يغتاب معينا ويعلم أنها معصية فعليه التوبة ، وفي وجه : هي مباح وهو أن يغتاب معلنا بفسقه أو صاحب بدعة وإن اغتاب الفاسق ليحذره الناس يثاب عليه لأنه من النهي عن المنكر ا هـ .

أقول : والإباحة لا تنافي الوجوب في بعض المواضع الآتية ( قوله ومتظاهر بقبيح ) وهو الذي لا يستتر عنه ولا يؤثر عنده إذا قيل عنه إنه يفعل كذا ا هـ ابن الشحنة قال في تبيين المحارم : فيجوز ذكره بما يجاهر به لا غيره قال صلى الله عليه وسلم " { من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له } " وأما إذا كان مستترا فلا تجوز غيبته ا هـ .

قلت : وما اشتهر بين العوام من أنه لا غيبة لتارك الصلاة إن أريد به ذكره بذلك وكان متجاهرا فهو صحيح وإلا فلا ( قوله ولمصاهرة ) الأولى التعبير بالمشورة : أي في نكاح وسفر وشركة ومجاورة وإيداع أمانة ونحوها فله أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح ( قوله ولسوء اعتقاد تحذيرا منه ) أي بأن كان صاحب بدعة يخفيها ويلقيها لمن ظفر به أما لو تجاهر بها فهو داخل في المتجاهر تأمل .

والأولى التعبير بالتحذير ، ليشمل التحذير من سوء الاعتقاد ولما مر متنا ممن يصلي ويصوم ويضر الناس ( قوله ولشكوى ظلامته للحاكم ) فيقول ظلمني فلان بكذا لينصفه منه .

[ تتمة ]

يزاد على هذه الخمسة ستة أخرى مر منها في المتن ثنتان ، الأولى : الاستعانة بمن له قدرة على زجره ، الثانية : ذكره على وجه الاهتمام ، الثالثة : الاستفتاء قال في تبيين المحارم : بأن يقول للمفتي ظلمني فلان كذا وكذا وما طريق الخلاص ، والأسلم أن يقول ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو ابنه أو أحد من الناس كذا وكذا ولكن التصريح مباح بهذا القدر ا هـ لأن المفتي قد يدرك مع تعيينه ما لا يدرك مع إبهامه كما قاله ابن حجر ، وقد جاء في الحديث المتفق عليه أن هند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : { إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه ، وهو لا يعلم قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } " الرابعة : بيان العيب لمن أراد أن يشتري عبدا ، وهو سارق أو زان فيذكره للمشتري ، وكذا لو رأى المشتري يعطي البائع دراهم مغشوشة فيقول : احترز منه بكذا ، الخامسة : قصد التعريف كأن يكون معروفا بلقبه كالأعرج والأعمش والأحول ، السادسة : جرح المجروحين من الرواة والشهود والمصنفين فهو جائز بل واجب صونا للشريعة فالمجموع إحدى عشرة جمعتها بقولي : بما يكره الإنسان يحرم ذكره سوى عشرة حلت أتت تلو واحد     تظلم وشر واجرح وبين مجاهرا
بفسق ومجهولا وغشا لقاصد     وعرف كذا استفت استعن عند زاجر
كذاك اهتمم حذر فجور معاند [ ص: 410 ]

( قوله بالفعل ) كالحركة والرمز والغمز ونحوه مما يأتي ( قوله وبالتعريض ) كقوله منذ ذكر شخص الحمد لله الذي عافانا من كذا وهذا مقابل لقوله صريحا ( قوله وبالكتابة ) لأن القلم أحد اللسانين وعبر في الشرعة بالكناية بالنون والمثناة التحتية ( قوله وبالحركة ) كأن يذكر إنسان عنده بخير فيحرك رأسه مثلا إشارة إلى أنكم لا تدرون ما انطوى عليه من السوء تأمل ( قوله وبالرمز ) قال في القاموس الرمز ويضم ويحرك الإشارة أو الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو الفم أو اللسان أو اليد ( قوله أي قصيرة ) تفسير لأومأت ط ( قوله اغتبتيها ) بياء الإشباع ط ( قوله الغيبة أن تصف أخاك ) أي المسلم ولو ميتا وكذا الذمي لأن له مالنا وعليه ما علينا ، وقدم المصنف في فصل المستأمن أنه بعد مكثه عندنا سنة ، ووضع الجزية عليه كف الأذى عنه وتحرم غيبته كالمسلم ، وظاهره أنه لا غيبة للحربي ( قوله حال كونه غائبا ) هذا القيد مأخوذ من مفهومها اللغوي ولم يذكر في الحديث الآتي ، والظاهر أنه لو ذكر في وجهه ، فهو سب وشتم ، وهو حرام أيضا بالأولى ، لأنه أبلغ في الإيذاء من حال الغيبة سيما قبل بلوغها المغتاب وهو أحد تفسيرين - { ولا تلمزوا أنفسكم } - فقيل هو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وقيل في وجهه ( قوله عن أبي هريرة إلخ ) رواه مسلم في صحيحه وجماعة .

( قوله بما يكره ) سواء كان نقصا في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه حتى في ثوبه أو داره أو دابته كما في تبيين المحارم قال ط : وانظر ما لو ذكر من الصغير غير العاقل ما يكره لو كان عاقلا ولم يكن له من يتأذى بذلك من الأقارب ا هـ وجزم ابن حجر بحرمة غيبة الصبي والمجنون ( قوله فقد بهته ) أي قلت فيه بهتانا أي كذبا عظيما والبهتان : هو الباطل الذي يتحير من بطلانه وشدة ذكره كذا في شرح الشرعة ، وفيه أن المستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه ، فإن خاف فبقلبه وإن كان قادرا على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعله لزمه كذا في الإحياء ا هـ . وقد ورد " { بأن المستمع أحد المغتابين } " وورد " { من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله تعالى أن يعتقه من النار } " رواه أحمد بإسناد حسن وجماعة ( قوله وإذا لم تبلغه إلخ ) ليس هذا من الحديث بل كلام مستأنف .

قال بعض العلماء : إذا تاب المغتاب قبل وصولها تنفعه توبته بلا استحلال من صاحبه فإن بلغت إليه بعد توبته قيل لا تبطل توبته ، بل يغفر الله تعالى لهما جميعا للأول بالتوبة وللثاني لما لحقه من المشقة ، وقيل بل توبته معلقة فإن مات الثاني قبل بلوغها إليه فتوبته صحيحة ، وإن بلغته فلا بل لا بد من الاستحلال والاستغفار ، ولو قال بهتانا فلا بد أيضا أن يرجع إلى من تكلم عندهم ويكذب نفسه وتمامه في تبيين المحارم ( قوله وإلا شرط بيان كل ما اغتابه به ) أي مع الاستغفار والتوبة والمراد أن يبين له ذلك ويعتذر إليه ليسمح عنه بأن [ ص: 411 ] يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه ، وإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة يقابل بها سيئة الغيبة في الآخرة وعليه أن يخلص في الاعتذار ، وإلا فهو ذنب آخر ويحتمل أن يبقى لخصمه عليه مطالبة في الآخرة ، لأنه لو علم أنه غير مخلص لما رضي به .

قال الإمام الغزالي وغيره وقال أيضا : فإن غاب أو مات فقد فات أمره ، ولا يدرك إلا بكثرة الحسنات لتؤخذ عوضا في القيامة ، ويجب أن يفصل له إلا أن يكون التفصيل مضرا له كذكره عيوبا يخفيها فإنه يستحل منها مبهما ا هـ .

وقال منلا علي القاري في شرح المشكاة : وهل يكفيه أن يقول اغتبتك فاجعلني في حل أم لا بد أن يبين ما اغتاب قال بعض علمائنا في الغيبة إلا بعلمه بها ، بل يستغفر الله له إن علم أن إعلامه يثير فتنة ، ويدل عليه أن الإبراء عن الحقوق المجهولة جائز عندنا ، والمستحب لصاحب الغيبة أن يبرئه عنها وفي القنية تصافح الخصمين لأجل العذر استحلال قال في النووي .

ورأيت في فتاوى الطحاوي أنه يكفي الندم والاستغفار في الغيبة ، وإن بلغت المغتاب ولا اعتبار بتحليل الورثة .




الخدمات العلمية