الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ونجسها منذ ثلاث فأرة منتفخة جهل وقت وقوعها ، وإلا مذ يوم وليلة ) أي نجس البئر منذ ثلاثة أيام بلياليها فأرة ميتة منتفخة لا يدرى وقت وقوعها ، وإن لم تكن منتفخة نجسها مذ يوم وليلة قال المصنف في المستصفى أي مذ ثلاث ليال إذ لو أريد به الأيام لقال مذ ثلاثة لكن الليالي تنتظم ما بإزائها من الأيام كما أن الأيام تنتظم ما بإزائها من الليالي كقوله تعالى { أربعة أشهر وعشرا } أي وعشر ليال بأيامها ا هـ .

                                                                                        فعلم أنه لا حاجة إلى ما ذكره الزيلعي هنا اعلم أن البئر تنجس من وقت وقوع الحيوان الذي وجد ميتا فيها إن علم ذلك الوقت ، وإن لم يعلم فقد صار الماء مشكوكا في طهارته ونجاسته فإذا توضئوا منها وهم متوضئون أو غسلوا ثيابهم من غير نجاسة ، فإنهم لا يعيدون إجماعا ; لأن الطهارة لا تبطل بالشك ، وإن توضئوا منها وهم محدثون أو اغتسلوا من جنابة أو غسلوا ثيابهم عن نجاسة ففي الثالث لا يعيدون ، وإنما يلزمهم غسلها على الصحيح ويحكم بنجاستها في الحال من غير إسناد لأنه من باب وجود النجاسة في الثوب ومن وجد في ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم ولم يدر متى أصابته لا يعيد شيئا من صلاته بالاتفاق ، وهو الصحيح كذا في المحيط والتبيين وتعقبه شارح منية المصلي بأنه إذا كان يلزمهم غسلها لكونها مغسولة بماء البئر فيما تقدم حال العلم باشتمال البئر على الفأرة بدون يوم وليلة أو بدون ثلاثة أيام [ ص: 131 ] كيف يكون الحكم بنجاسة الثياب من باب الاقتصار على التنجس في الحال لا مستندا إلى ما تقدم فلا يتجه هذا على قوله ; لأنه يوجب مع الغسل الإعادة لا على قولهما لأنهما لا يوجبان غسل الثوب أصلا ا هـ .

                                                                                        وفي الأول والثاني خلاف فعند أبي حنيفة التفصيل المذكور في الكتاب وقالا يحكم بنجاستها وقت العلم بها ولا يلزمهم إعادة شيء من الصلوات ولا غسل ما أصابه ماؤها قبل العلم ، وهو القياس ; لأن اليقين لا يزول بالشك ; لأنا نتيقن بطهارتها فيما مضى وقد شك في النجاسة لاحتمال أنها ماتت في غير البئر ثم ألقتها الريح العاصف فيها أو بعض السفهاء أو الصبيان أو بعض الطيور كما حكي عن أبي يوسف أنه كان يقول بقوله إلى أن رأى حدأة في منقارها فأرة ميتة فألقتها في البئر فرجع عن قوله إلى هذا القول وقياسا على النجاسة إذا وجدها في ثوبه وعلى ما إذا رأت المرأة في كرسفها دما ولا تدري متى نزل وعلى ما لو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت أسلمت قبل موته وقالت الورثة بعده فالقول لهم والجامع بينهما أن الحادث يضاف إلى أقرب أوقاته ولأبي حنيفة ، وهو الاستحسان أن الإحالة على السبب الظاهر واجب عند خفاء المسبب والكون في الماء قد تحقق ، وهو سبب ظاهر للموت والموت فيه في نفس الأمر قد خفي فيجب اعتباره مات فيه إحالة على السبب الظاهر عند خفاء المسبب دون الموهوم ، وهو الموت بسبب آخر كمن جرح إنسانا ولم يزل مصاحب الفراش حتى مات يضاف موته إلى الجرح حتى يجب القصاص ، وإن احتمل موته بسبب آخر وكذا إذا وجد قتيل في محلة يضاف القتل إلى أهلها حتى تجب القسامة والدية عليهم

                                                                                        وإن احتمل أنه قتل في موضع آخر غير أن الانتفاخ دليل التقادم فيقدر بالثلاث ولهذا يصلى على القبر إلى ثلاث أيام على ما قيل وعدم الانتفاخ دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة لأن ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها لتفاوتها ، وأما مسألة النجاسة فقد قال المعلى بن منصور الرازي تلميذهما أنها على الخلاف ، فإن كانت يابسة يعيد صلاة ثلاثة أيام ، وإن كانت طرية يعيد صلاة يوم وليلة عنده فلا يحتاج إلى الفرق ، ولو سلم أنها على الوفاق كما قدمنا أنه الأصح فالفرق له واضح ، وهو أن الثوب بمرأى عينه يقع عليه بصره فلو كانت النجاسة أصابته قبل ذلك لعلم بها بخلاف البئر فإنها غائبة عن بصره فلا يصح القياس وما ذكره المعلى رحمه الله كونه رواية عن الإمام ، وهو ظاهر ما ذكره القاضي الإسبيجابي وصاحب البدائع ويحتمل أنه تفقه منه بطريق القياس على مسألة البئر ، وهو ظاهر ما في المحيط ، وهو الحق فقد قال الحاكم الشهيد إن المعلى [ ص: 132 ] قال ذلك من دأب نفسه

                                                                                        وأما مسألة الميراث فالمرأة محتاجة إلى الاستحقاق والظاهر لا يصلح حجة لها وإنما يصلح للدفع والورثة هم الدافعون وفي المجتبى وحكم ما عجن به حكم الوضوء والغسل ، وكان الصباغي يفتي بقول أبي حنيفة فيما تعلق بالصلاة وبقولهما فيما سواه كذا في معراج الدراية وفي غاية البيان وما قاله أبو حنيفة احتياط في أمر العبادة وما قالاه عمل باليقين ورفق بالناس وفي تصحيح الشيخ قاسم رحمه الله وفي فتاوى العتابي المختار قولهما قلت هو المخالف لعامة الكتب فقد رجح دليله في كثير من الكتب وقالوا إنه الاحتياط فكان العمل عليه وذكر الإسبيجابي أن ما عجن به قال بعضهم يلقى إلى الكلاب وقال بعضهم يعلف المواشي وقال بعضهم يباع من شافعي المذهب أو داودي المذهب ا هـ .

                                                                                        واختار الأول في البدائع وجزم به بصيغة قال مشايخنا يطعم للكلاب .

                                                                                        [ ص: 130 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 130 ] ( قوله : المصنف فأرة منتفخة ) قال في النهر : زاد بعض المتأخرين أو متفسخة إذ الاقتصار على الانتفاخ يوهم أنه في التفسخ يعيد أكثر من ثلاث ; لأن إفساد الماء معه أكثر كما أن الاقتصار على المزيد يوهم إعادة الأقل فالجمع أولى ( قوله : فعلم أنه لا حاجة إلى ما ذكر الزيلعي هنا ) وذلك حيث قال عادة الأصحاب أن يقدروه بالأيام ، وهو قدره بالليالي حيث حذف التاء من الثلاث ولا فرق بينهما في الحقيقة ; لأنه إذا تم أحدهما ثلاثة فقد تم الآخر ا هـ .

                                                                                        والفرق بين التوجيهين أن المقصود ذكر الليالي ويلزم منه دخول الأيام بناء على ما قاله الزيلعي وعلى ما قاله المصنف في المصفى المقصود كل منهما وذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر فلذا كان أولى تأمل .

                                                                                        قال في النهر ولقائل أن يقول لا نسلم أن حذف التاء يعين ذلك مطلقا بل إذا كان المعدود مذكرا أما إذا كان محذوفا جاز تقديره مذكرا أو مؤنثا وقد جوزوا في حديث { بني الإسلام على خمس } تقدير المحذوف أركانا أو دعائم ا هـ .

                                                                                        ومثله في بعض شروح الكافية زاد ما إذا قدم المعدود وجعل اسم العدد صفة فيجوز حينئذ في اسم العدد إلحاق التاء وحذفها وقال : فاحفظها ، فإنها عزيزة وخرج عليه بعضهم قول الأجرومية والمضارع ما كان في أوله إحدى الزوائد الأربع والزوائد جمع زائدة وحينئذ فلا يرد على قول الهداية فرائض الصلاة ستة قول الأكمل القياس أن يقول ست ; لأن الفرائض جمع فريضة ( قوله : لكونها مغسولة بماء البئر فيما تقدم ) أقول : ما بمعنى وقت والظرف متعلق بقوله " مغسولة " وقوله " حال " مفعول تقدم مثل : " واتقوا يوما " لا ظرف وقوله باشتمال متعلق بالعلم وقوله بدون متعلق بتقدم والمعنى إذا كان يلزمها غسلها لكونها مغسولة بماء البئر في زمن سابق بدون يوم وليلة أو بدون ثلاثة أيام على زمن العلم بالفأرة كيف لا يكون تنجس الثياب مستندا مع التيقن بتقدم الغسل على الحال ، وإنما قيد التقدم بكونه بدون يوم وليلة أو بدون ثلاثة أيام ; لأنه لو كان أكثر من ذلك من حين وجودها لم يلزم شيء لعدم الحكم بوقوعها حينئذ ويشكل أيضا أن النجاسة التي كانت بالثوب موقنة وفي زوالها بهذا الماء شك فما الفرق بينها وبين الطهارة عن حدث وأيضا إذا كان لزوم غسلها لكونها مغسولة بماء البئر لا للنجاسة التي كانت بها كما هو ظاهر كلام شارح المنية فما الفرق بين هذه الثياب وبين ما إذا غسلت لا عن نجاسة ، فإن ظاهر كلامه أنه لا يجب غسلها لكن ظاهر كلام الزيلعي وجوب غسلها مطلقا ، فإنه قال : وقوله نجسها منذ ثلاث يعني في حق الوضوء حتى يلزمهم إعادة الصلاة إذا توضئوا منها ، وأما في حق غيره ، فإنه يحكم بنجاستها من غير إسناد ; لأنه من باب وجود النجاسة في الثوب حتى إذا كانوا غسلوا الثياب بمائها لا يلزم إلا غسلها على الصحيح ا هـ .

                                                                                        ومثله في الدرر والمنح وشرح الملتقى للبهنسي ونحوه في معراج الدراية وكذا قال القدوري في مختصره أعادوا صلاة يوم وليلة إذا كانوا توضئوا منها وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها ا هـ .

                                                                                        وذكر في المنية عبارة القدوري بحروفها لكن يعود إيراد شارح المنية على عبارة الزيلعي ومن تابعه بأنه إذا حكم بالنجاسة في الحال يجب غسل هذه الثياب ولهذا قال بعض الفضلاء في حواشي صدر الشريعة في كلام الزيلعي اشتباه حتى حذف بعضهم حرف الاستثناء من كلامه لكن وجهه العلامة نوح أفندي محشي الدرر والغرر بما حاصله أن في البئر المذكورة اعتبارين الأول الاحتياط والتنزه ومقتضاه [ ص: 131 ] الحكم بنجاستها منذ ثلاثة أيام في حق الوضوء وغيره فتعاد الصلاة وتغسل الثياب ولا يؤكل العجين ، وهو اختيار الإمام .

                                                                                        والثاني : نفي الحرج ومقتضاه عدم الحكم بالنجاسة مطلقا فلا يجب شيء مما مر ، وهو اختيارهما والأول في نهاية الحرج والثاني في نهاية التوسعة فتوسط بينهما بأن خص رأي الإمام بالتوضؤ والاغتسال احتياطا بالعبادة ورأيهما بما عداه لنفي الحرج ولكن أمعن النظر في الثياب فقال يجب غسلها حذرا عن النجاسة المتوهمة ، وإن لم يجزم بسبقها ولم يجزم بإعادة ما صلاه بتلك الثياب نفيا للحرج ولا بأس بأكل العجين ا هـ .

                                                                                        ويقرب من هذا ما سيأتي عن الصباغي قال بعد هذا اعلم أن في قولهم إذا غسلوا ثيابهم عن النجاسة لا يلزمهم إلا غسلها على الصحيح بحثا وذلك أن الحال لا يخلو إما أن يكونوا صلوا في المدة المذكورة في الثياب التي غسلت بماء تلك البئر أو صلوا في غيرها من الثياب ، وكان الوضوء منها

                                                                                        فإن كان الثاني وقلنا بوجوب إعادة الصلاة في تلك المدة فأولى أن نقول بوجوب الإعادة في الثياب ; لأنه إذا وجبت الإعادة في ثياب طاهرة فمن باب أولى أن تجب في ثياب نجسة ، وهو مما لا نزاع لا حد فيه فعلى هذا إن قلنا إن مقابل الصحيح عدم غسل الثياب المسألة بحالها فحينئذ تظهر الفائدة لكن لا يتم ذلك ; لأن الفرض أنها نجسة فكيف يقال لا يجب غسلها وإن قلنا إن مقابل الصحيح عدم وجوب إعادة الصلاة في الثياب المغسولة بمائها وقد صلوا فيها ، وهذا أيضا مما لا قائل به إذ لم يقل أحد إنه يصلي بالنجاسة من غير عذر ولا يعيد والفرق بين هذا الثوب وبين البئر أن الثوب مرئي له ولغيره بخلاف البئر ، فإنها غائبة عن الأعين فافترقا وبخلاف الثياب التي غسلت بماء البئر فإن حكمها حكم البئر والزيلعي ومن حذا حذوه توهموا استواء حكم النجاسة المرئية على الثوب والثوب الذي غسل بماء البئر بجامع أن في كل منهما وجود النجاسة في الثوب لكن الفرق ما أسلفناه ا هـ .

                                                                                        لكن الصواب إسقاط لفظ عدم من قوله ، وإن قلنا أن مقابل الصحيح عدم وجوب إعادة الصلاة وعلى هذا لا يظهر تعليل الدفع بما ذكره على أنه لا يرد على هذا الوجه شيء .

                                                                                        والحاصل أن قوله على الصحيح إما قيد للزوم الغسل أو لعدم الإعادة أو لهما ومقابل الأول عدم لزوم الغسل مع عدم الإعادة ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ومقابل الثاني لزوم الإعادة مع لزوم الغسل ووجهه ظاهر ومقابل الثالث عدم لزوم الغسل مع لزوم الإعادة وفيه ما تقدم والله تعالى أعلم .

                                                                                        ( قوله : فلا يتجه هذا على قوله ; لأنه يوجب مع الغسل الإعادة ) أقول : هذا مخالف لقول المؤلف سابقا ، فإنهم لا يعيدون إجماعا تأمل ( قوله : وفي الأول والثاني ) وهما إن توضئوا منها وهم محدثون أو اغتسلوا من جنابة ( قوله : وأما مسألة النجاسة ) أي المذكورة في دليل الإمامين [ ص: 132 ] ( قوله : وفي المجتبى وحكم ما عجن به حكم الوضوء والغسل ) ينظر ما الفرق بين هذا العجين والثوب إذا غسل لا عن نجاسة حيث حكم في العجين بتنجسه دون الثوب .




                                                                                        الخدمات العلمية