الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ولو قبضت ألف المهر ووهبته له فطلقها قبل الوطء رجع عليها بالنصف ) ; لأنه لم يصل إليه بالهبة عين ما يستوجبه ; لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود والفسوخ ، ولذا لو سمى لها دراهم ، وأشار إليها له أن يحبسها ويدفع مثلها جنسا ونوعا ، وقدرا وصفة كذا في البدائع ولا يلزمها رد عين ما أخذت بالطلاق قبل الدخول ، ولذا قال الولوالجي في فتاويه من باب الزكاة ولو تزوج رجل امرأة على ألف درهم وقبضت وحال الحول ثم طلقها قبل الدخول بها زكت الألف كلها ; لأنه وجب في ذمتها مثل نفس المقبوض لا عين المقبوض والدين بعد الحول لا يسقط الواجب ولو كانت سائمة غير الأثمان زكت نصفها ; لأنه استحق نصفها من غير اختيارها فصار كالهلاك ولا يزكي الزوج شيئا ; لأن ملك الزوج الآن عاد في النصف ا هـ .

                                                                                        وأشار المصنف إلى أن حكم المكيل والموزون إذا لم يكن معينا حكم النقد لعدم التعيين ، وأما المعين منه فكالعرض وفي البدائع وإن كان تبرا أو نقرة ذهبا أو فضة فهو كالعرض في رواية فيجبر على تسليم العين وفي رواية كالمضروب فلا يجبر .

                                                                                        ( قوله فإن لم تقبض الألف أو قبضت النصف ووهبت الألف أو وهبت العرض المهر قبل القبض أو بعده فطلقت قبل الوطء لم يرجع عليها بشيء ) بيان لمفهوم المسألة المتقدمة وهي ثلاث مسائل الأولى إذا لم تقبض شيئا من المهر ثم وهبته كله له ثم طلقها قبل الدخول فإنه لا رجوع له عليها بشيء وفي القياس يرجع عليها بنصف الصداق وهو قول زفر ; لأنه سلم له بالإبراء فلا تبرأ عما يستحقه بالطلاق ، ووجه الاستحسان أنه وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وهو براءة ذمته عن نصف المهر ولا يبالى باختلاف السبب عند حصول المقصود وله نظائر منها ما في معراج الدراية الغاصب إذا وهب المغصوب للمغصوب منه ومثله ما إذا قال إنك غصبت مني ألف درهم ، فقال المدعى عليه بل استقرضتها ا هـ . وتمامه في التلخيص

                                                                                        ومنها ما إذا باع بيعا فاسدا وقبض المشتري المبيع ثم وهبه للبائع لا يضمن قيمته لحصول المقصود بخلاف ما لو وصل المبيع إليه من جهة غير المشتري حيث لا يبرأ من الضمان ; لأنه لم يصل إليه من الجهة المستحقة ومنها ما إذا اشترى جارية بعبد ثم وهب الجارية من مشتري العبد ثم استحق العبد من يده فإنه لا يرجع على المشتري للجارية بقيمتها استحسانا ومنها مريض وهب جارية من إنسان لا مال له غيرها وسلم الجارية إليه ثم وهب الموهوب له الجارية من المريض ثم مات من مرضه فإنه لا يضمن الموهوب له قيمة ثلثي الجارية للورثة استحسانا بخلاف ما لو وهب المريض لأحد بنيه عبدا ثم وهبه الأخ لأخيه ثم مات الأب فإنه يرجع على أخيه الواهب بنصف قيمة العبد ; لأنه ما وصل إليه من جهة أبيه ومنها المرتهن إذا أبرأ الراهن عن الدين ثم هلك الرهن في يد المرتهن لا يضمن ومنها المسلم إليه إذا وهب رأس المال وهو عرض من رب السلم ثم تقايلا السلم لا يغرم المسلم إليه شيئا استحسانا

                                                                                        ويلزمه قيمته قياسا وهو قول زفر [ ص: 170 ] كذا في المحيط ويرد على هذا الأصل أعني أنه لا اعتبار لاختلاف السبب إذا حصل المقصود ما ذكره في التبيين من باب التحالف لو قال بعتني هذه الجارية فأنكر ، فقال ما بعتكها ، وإنما زوجتكها فإنه لا يجوز له أن يطأها لاختلاف الحكم فإن حكم ملك اليمين خلاف حكم الزوجية ا هـ .

                                                                                        إلا أن يقال إنه ليس من قبيل حصول المقصود ; لأن المقصود منهما مختلف وينبغي أن يكون داخلا تحت الأصل المذكور ما إذا أقر له بألف من ثمن متاع ، فقال المقر له هي غصب قال الزيلعي من باب التحالف أنه يؤمر بالدفع إليه لاتحاد الحكم وفي تلخيص الجامع من باب الإقرار بما يكون قصاصا قال أودعتني هذه الألف ، فقال بل لي ألف قرض فقد رد ; لأن العين غير الدين إلا أن يتصادقا ; لأن المقر كالمبتدئ ولو قال أقرضتكها أخذ الألف ; لأن التكاذب في الزوال ولو قال غصبتك أخذ ألفا ; لأن موجبه الضمان فاتفقا على الدين واختلفا في الجهة فلغت ، وكذا لو أقر بالقرض وهو ادعى الثمن ا هـ . وفي المعراج

                                                                                        فإن قيل يلزم على هذا ما إذا اشترى عبدا بألف ثم حط البائع عشر الثمن ثم وجد به عيبا بنقص عشر الثمن حيث يرجع بنقصان العيب وإن حصل له هذا بالحط قلنا موجب العيب سقوط بعض الثمن ، وهذا لا يحصل له بالحط ; لأن المحطوط خرج عن كونه ثمنا ا هـ .

                                                                                        المسألة الثانية : ما إذا قبضت النصف ثم وهبت الكل المقبوض وغيره ثم طلقها قبل الدخول بها فإنه لا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء عند أبي حنيفة وقالا يرجع عليها بنصف ما قبضت اعتبارا للبعض بالكل ; لأن الحط يلتحق بأصل العقد وله أن مقصوده سلامة النصف بالطلاق ، وقد حصل والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح كالزيادة ، ولذا لا تتنصف الزيادة مع الأصل اتفاقا هكذا في الهداية وغاية البيان والتبيين وكثير من الكتب واستشكله في فتح القدير بأن التحاق الزيادة بأصل العقد هو الدافع لقول المانعين لها لو صحت كان ملكه عوضا عن ملكه فإذا لم تلتحق بقي إبطالهم بلا جواب فالحق أنها تلتحق كما يعطيه كلام غير واحد من المشايخ ، وإنما لا تتنصف ; لأن الانتصاف خاص بالمفروض في نفس العقد حقيقة كما قدمناه ا هـ .

                                                                                        وحاصله أنه تناقض كلامهم فصرحوا هنا بعدم الالتحاق وفي مسألة زيادة المهر بالالتحاق فرجح المحقق ما صرحوا به في المسألة السابقة وأبطل كلامهم هنا والحق أن كلامهم في الموضعين صحيح ; لأن قولهم هناك بالالتحاق إنما هو من وجه دون وجه لتصريحهم بأنها لو حطت من المهر حتى صار الباقي أقل من عشرة فإنه لا يضر ولو التحق الحط بأصل العقد من كل وجه للزم تكميلها ولوجب مهر المثل لو حطت الكل كأنه لم يسم شيئا وقولهم هنا بعدمه إنما هو من وجه دون وجه عملا في كل موضع بما يناسبه فروعي جانب الالتحاق لتصحيح الزيادة حتى لا يكون ملكه عوضا عن ملكه للنص المفيد لصحتها كما أسلفناه وروعي جانب عدمه هنا ; لأنه لا داعي إليه ; لأن المقصود سلامة النصف للزوج ، وقد حصل فلا ضرورة إلى القول بالالتحاق الذي هو خلاف الأصل ; لأنه مغير للعقد ، والله الموفق للصواب .

                                                                                        وقوله ووهبت الألف عائد إلى المسألتين مع أن هبة الألف ليس بقيد في الثانية ; لأنها لو وهبت النصف الذي في ذمته فالحكم كذلك من أنه لا رجوع له عليها عنده خلافا لهما وقيد بقبض النصف للاحتراز عما إذا قبضت أكثر من النصف ووهبت الباقي فإنها ترد عليه ما زاد على النصف عنده كما لو قبضت ستمائة ووهبت أربعمائة فإنه يرجع بمائة وعندهما يرجع بنصف المقبوض فترد ثلثمائة كما في غاية البيان ولو وهبته مائتين رجع بثلاث مائة تتميما للنصف كما في النهاية ، وأما إذا قبضت أقل من النصف ووهبت الباقي فهو معلوم بالأولى فعلم أن التقييد بالنصف للاحتراز عن الأكثر لا عن الأقل وحكم المثلي الغير المعين حكم النقد هنا أيضا .

                                                                                        [ ص: 169 - 170 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 169 - 170 ] ( قوله هو الدافع لقول المانعين لها ) يعني أن قوله كالزيادة يفيد أنها لا تلتحق بأصل العقد مع أنه قد مر في الجواب عن قول زفر والشافعي أن الزيادة بعد العقد لا تصح إذ لو صحت لزم كون الشيء عوضا عن ملكه أنه إنما يلزم ذلك لو قلنا بعدم الالتحاق ونحن نقول بالتحاقها بأصل العقد وحينئذ فقد تناقض كلامهم في الموضعين وعلى ما هنا بقي قول زفر والشافعي إذ لو صحت إلخ بلا جواب .




                                                                                        الخدمات العلمية