الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب العبد يعتق بعضه ) .

                                                                                        لا شك في كثرة وقوع عتق الكل وندرة عتق البعض وفي أن ما كثر وجوده فالحاجة إلى بيان أحكامه أمس منها إلى ما يندر وجوده وأن دفع الحاجة الماسة تقدم على النادرة فلذا أخر هذا عما قبله .

                                                                                        ( قوله : من أعتق بعض عبده لم يعتق كله وسعى فيما بقي وهو كالمكاتب ) وهذا عند أبي حنيفة ، وقالا يعتق كله واختلف المشايخ في تحرير محل النزاع فذهب صاحب الهداية وكثير إلى أنه مبني على أن الإعتاق يتجزأ عنده فيقتصر على ما أعتق ، وعندهما لا يتجزأ وأقام الدليل من الجانبين وفي غاية البيان والمراد من تجزؤ الإعتاق والملك أن يتجزأ المحل في قبول حكم الإعتاق وهو زوال الملك بأن يزول في البعض دون البعض وأن يتجزأ المحل في قبول حكم الملك وهو أن يكون البعض مملوكا لواحد والبعض الآخر لآخر وليس معناه أن ذات الإعتاق أو ذات الملك تتجزأ ; لأن معناه واحد لا يقبل التجزؤ ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير والذي يقتضيه النظر أن هذا غلط في تحرير محل النزاع فإنهم لم يتواردوا على محل واحد في التجزؤ وعدمه فإن القائل العتق أو الإعتاق يتجزأ لم يرده بالمعنى الذي يريد به قائل إنه لا يتجزأ وهو زوال الرق أو إزالته إذ لا خلاف بينهم في عدم تجزئه ، بل زوال الملك وإزالته ولا خلاف في تجزئه فلا ينبغي أن يقال اختلف في تجزؤ العتق وعدمه ولا الإعتاق ، بل الخلاف في التحقيق ليس إلا فيما يوجبه الإعتاق أولا وبالذات فعنده زوال الملك ويتبعه زوال الرق فلزم تجزؤ موجبه غير أن زوال الرق لا يثبت إلا عند زوال الملك عن الكل شرعا كحكم الحدث لا يزول إلا عند غسل كل الأعضاء وغسلها متجزئ .

                                                                                        وهذا لضرورة أن العتق قوة شرعية هي قدرة على تصرفات شرعية ولا يتصور ثبوت هذه في بعضه شائعا فقطع بعدم تجزئه والملك متجزئ قطعا فلزم ما قلنا من زوال الملك عن البعض وتوقف زوال الرق على زوال الملك عن الباقي وحينئذ فينبغي أن يقام الدليل من الجانبين على أن الثابت به أولا زوال الملك أو الرق ; لأنه محل النزاع والوجه منتهض لأبي حنيفة ، أما المعنى فلأن تصرف الإنسان يقتصر على حقه ، وحقه الملك ، أما الرق فحق الله أو حق العامة ، أما السمع فما في الصحيحين مرفوعا { من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل } فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد عليه وإلا فقد عتق منه ما عتق إلى آخره ، وقد أطال رحمه الله إطالة حسنة هنا كما هو دأبه ولسنا بصدد الدلائل ، وقد صرح في البدائع بأن العتق يتجزأ عنده سواء كان بمعنى زوال الملك أو زوال الرق وأن الرق يتجزأ ثبوتا وزوالا ; لأن الإمام إذا ظهر على جماعة من الكفرة وضرب الرق على أنصافهم ومن على الأنصاف جاز ويكون حكمهم وحكم معتق البعض في حالة البقاء سواء ا هـ .

                                                                                        وهو بعيد كما قرره المحقق ووفق في المجتبى بين عبارات المشايخ فمن قال إن العتق يتجزأ عنده لا يريد به والله أعلم أنه يسقط ملك المعتق عن الشقص الذي أضاف إليه العتق ويبقى الملك في الباقي فإن قلت : إذا سقط ملكه عن الشقص المعتق يصير حرا كسائر الأحرار قلت : هذا يشكل بالمكاتب إذا مات مولاه فإنه يسقط الملك ولا يصير حرا [ ص: 254 ] كسائر الأحرار ومن قال بأن العتق لا يتجزأ عندنا أراد أن خروجه عن كونه محلا للتمليك والتملك كالبيع والهبة والإرث لا يتجزأ وأنه عبارة صحيحة ; لأنه من لوازم حقيقة العتق وذكر الملزوم وإرادة اللازم جائز وخروجه عن محلية التمليك والملك متفق عليه بين أصحابنا لكن عندهما بزوال الرق أصلا ، وعنده بسقوط الملك عن الشقص المعتق وفساده في الباقي هذا ما تضمنه شروح الأسلاف والأخلاف في هذا الباب ا هـ .

                                                                                        والحاصل أن من أعتق بعض عبده عتق منه ذلك القدر أي زال ملكه عن ذلك القدر وبقي الرق فيه بتمامه .

                                                                                        وإذا لزم شرعا أن لا يبقى في الرق لزم أن يسعى العبد في باقي قيمته لاحتباس مالية الباقي عنده وما لم يؤد السعاية فهو كالمكاتب حيث يتوقف عتق كله على أداء البدل وكونه أحق بمكاسبه ولا يد للسيد عليه ولا استخدام وكونه رقيقا كله إلا أنه يخالفه في أنه لو عجز لا يرد إلى الاستخدام بخلاف المكاتب بسبب أن المستسعى زوال الملك عن بعضه لا إلى مالك صدقة عليه به وإنما يلزم المال ضرورة الحكم الشرعي وهو تضمينه قهرا بخلاف المكاتب فإن عتقه في مقابلة التزامه بعقد باختياره يقال ويفسخ بتعجيزه نفسه ، وقد ذكروا مسألة في الجنايات يخالف معتق البعض فيها المكاتب أيضا هي أن المكاتب إذا قتل عمدا ولم يترك وفاء وله وارث غير المولى يجب القصاص على القاتل ; لأنه مات رقيقا لانفساخ المكاتبة بموته عاجزا بخلاف معتق البعض إذا قتل ولم يترك وفاء حيث لا يجب القصاص ; لأن العتق في البعض لا ينفسخ بموته عاجزا وذكروا في البيوع كما في الحقائق أن الجمع بين العبد ومعتق البعض في بيعهما صفقة واحدة كالجمع بين العبد والحر فيبطل فيهما ; لأن كتابة معتق البعض لا تقبل الفسخ بخلاف المكاتب فهي ثلاث مسائل يخالف فيها معتق البعض المكاتب وإنما لم يذكروها نصا ; لأنهما أثران لعدم قبول الفسخ كما لا يخفى وأطلق في البعض فشمل المعين والمبهم ولزمه بيانه وفي جوامع الفقه الاستسعاء أن يؤاجره ويأخذ قيمة ما بقي من أجره قالوا وعلى هذا الخلاف التدبير والاستيلاد .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( باب العبد يعتق بعضه )




                                                                                        الخدمات العلمية