الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله فيقطع إن أقر مرة أو شهد رجلان ) بيان لحكمها وسبب ثبوتها وفي قوله مرة رد على أبي يوسف في قوله لا يقطع إلا بإقراره مرتين ويروى عنه أنهما في مجلسين مختلفين ; لأنه أحد الحجتين فتعتبر بالأخرى وهي البينة كذلك اعتبرنا في الزنا ولهما أن السرقة ظهرت بإقراره مرة واحدة فيكتفى به كما في القصاص وحد القذف ولا اعتبار بالشهادة فيها ; لأن الزيادة تفيد فيها تقليل تهمة الكذب ولا تفيد في الإقرار شيئا ; لأنه لا تهمة وباب الرجوع في حق الحد لا ينسد بالتكرار ، والرجوع في حق المال لا يصح أصلا ; لأن صاحب المال يكذبه واشتراط الزيادة في الزنا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع ومن مسائل الإقرار لو قال : أنا سارق هذا الثوب بالإضافة قطع ولو نون القاف لا يقطع ; لأنه على الاستقبال ، والأول على الحال وفي عيون المسائل قال سرقت من فلان مائة درهم بل عشرة دنانير يقطع في العشرة دنانير ويضمن مائة هذا إن ادعى المقر له المالين وهو قول أبي حنيفة ; لأنه رجع عن الإقرار بسرقة مائة وأقر بعشرة دنانير فصح رجوعه عن الإقرار بالسرقة الأولى في حق القطع ولم يصح في حق الضمان وصح الإقرار بالسرقة الثانية في حق القطع وبه ينتفي الضمان بخلاف ما لو قال سرقت مائة بل مائتين ، فإنه يقطع ولا يضمن شيئا لو ادعى المقر له المائتين ; لأنه أقر بسرقة مائتين ووجب القطع فانتفى الضمان ، والمائة الأولى لا يدعيها المقر له بخلاف الأولى ولو قال سرقت مائتين بل مائة لم يقطع ويضمن المائتين ; لأنه أقر بسرقة مائتين ورجع عنها فانتفى الضمان ولم يجب القطع ولم يصح الإقرار بالمائة إذ لا يدعيها المسروق منه ولو أنه صدقه في الرجوع إلى المائة لا ضمان كذا في فتح القدير .

                                                                                        ولم يذكر المصنف صحة الرجوع عن الإقرار للعلم بأنه يصح الرجوع عن الإقرار بالحدود كلها إلا حد القذف قال في الذخيرة وإذا أقر بالسرقة ثم هرب لا يتبع وإن كان في فوره . ا هـ .

                                                                                        بخلاف ما إذا شهد عليه ثم هرب ، فإنه يتبع كذا في الظهيرية ولم يشترط المصنف عدم التقادم في هذه الحجة ; لأنه ليس بشرط في الإقرار وشرط في البينة فلو أقر بسرقة متقادمة قطع ولو شهدا عليه بذلك لا كما في البدائع وقدمناه وحد التقادم في السرقة هو حده في الزنا كذا في الذخيرة وأطلق في المقر فشمل الحر ، والعبد وسيأتي تفاصيلها في العبد وقيد بالرجلين ; لأن شهادة النساء غير مقبولة فيه وكذا الشهادة على الشهادة وإن قبلت في حق المال وأفاد المصنف بحصر الحجة فيما ذكر أنه يقطع بالنكول وإن ضمن المال وأن العبد لا يقطع بإقرار مولاه عليه بها ، وإن لزم المال ولم يقيد المصنف الإقرار بالطواعية قال في الظهيرية وإذا أقر بالسرقة مكرها فإقراره باطل ومن المتأخرين من أفتى بصحته وسئل الحسن بن زياد أيحل ضرب السارق حتى يقر قال ما لم يقطع اللحم ولا يتبين العظم ولم يزد على هذا . ا هـ .

                                                                                        وفي التجنيس لا يفتى بعقوبة السارق ; لأنه جور ولا يفتى به وفي الظهيرية هل ينبغي للسارق أن يعلم صاحب المتاع أنه سرق متاعه إن كان لا يخاف أن يظلمه متى أخبره يخبره ليصل إلى حقه ، وإن كان يخاف لا يخبره ; لأنه معذور في ترك الإخبار ولكن يوصل الحق إليه بطريق آخر وإذا قضى القاضي بالقطع ببينة أو إقرار ثم قال المسروق منه هذا [ ص: 57 ] متاعه لم يسرقه مني إنما كنت أودعته أو قال شهد شهودي بزور أو قال أقر هو بباطل أو ما أشبه ذلك سقط عنه القطع ويستحب للإمام أن يلقن السارق حتى لا يقر بالسرقة لما روي أن { النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقال أسرق ما إخاله سرق } ولأنه احتيال للدرء وقوله إخاله بكسر الهمزة معناه أظنه وبالفتح كذلك وكلاهما فعل مضارع من المخيلة وهي الظن إلا أن الحديث جاء بالكسر وإذا شهد كافران على كافر ومسلم بسرقة مال لا يقطع الكافر كما لا يقطع المسلم ولو شهد أنه سرق من فلان ثوبا فقال أحدهما : إنه هروي وقال الآخر : إنه مروي بسكون الراء ذكر في نسخ أبي سليمان أنه على خلاف اعتبارا باختلاف الشاهدين في لون البقرة وذكر في نسخة أبي حفص أنه لا تقبل الشهادة إجماعا . ا هـ .

                                                                                        ولم يذكر المصنف سؤال الشاهدين وفي الهداية وينبغي أن يسألهم الإمام عن كيفية السرقة وماهيتها وزمانها ومكانها لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود ويحبسه إلى أن يسأل عن الشهود للتهمة . ا هـ .

                                                                                        زاد في الكافي أنه يسألهما عن المسروق إذ سرقة كل مال لا توجب القطع فالسؤال عن الكيفية لاحتمال أنه سرق على كيفية لا يقطع معها كأن نقب الجدار وأدخل يده فأخرج المتاع ، فإنه لا يقطع ، والسؤال عن الماهية لإطلاقها على استراق السمع ، والنقص من أركان الصلاة ، والسؤال عن الزمان لاحتمال التقادم وعلى المكان لاحتمال السرقة في دار الحرب من مسلم وفي المبسوط لم يذكر محمد السؤال عن المسروق منه ; لأنه حاضر يخاصم ، والشهود يشهدون على السرقة منه فلا حاجة إلى السؤال عنه وفيه نظر لاحتمال أن يكون قريب السارق أو زوجا فلا بد من السؤال عنه كما في التبيين ، وأما سؤال المقر ، فإنه عن جميع ما ذكرنا إلا عن السؤال عن الزمان وفي فتح القدير ولا يسأل المقر عن المكان وهو مشكل للاحتمال المذكور ، واعلم أنه لا بد من حضور الشاهدين وقت القطع كحضور المدعي حتى لو غابا أو ماتا لا قطع وهذا في كل الحدود إلا في الرجم ويمضي القصاص ، وإن لم يحضروا استحسانا كذا في كافي الحاكم ، وإن شرط بداءة الشهود بالرجم

                                                                                        [ ص: 56 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 56 ] ( قوله : وباب الرجوع إلخ ) جواب عما قد يقال فائدته رفع احتمال كونه يرجع عنه ( قوله : لأنه على الاستقبال ) والأول على الحال قال في النهر كذا في الفتح والظاهر أن يقال : إن مع التنوين يحتمل الحال والاستقبال فلا يقطع بالشك لكن بقي أن هذا الاحتمال ثابت مع الإضافة أيضا فكان ينبغي أن لا يقطع أيضا فتدبره . ا هـ .

                                                                                        هذا وفي شرح الوهبانية لابن الشحنة قلت : والقطع المذكور بإحرازه وعدم رجوعه أما لو رجع قبل رجوعه كما تقدم وينبغي أن لا يجري في هذا الإطلاق ; لأن العوام لا يفرقون فيفرق بين العالم والجاهل اللهم إلا أن يقال يجعل هذا شبهة في درء الحد وفيه بعد والله تعالى أعلم . ا هـ .

                                                                                        ( قوله : لأنه أقر بسرقة مائتين ورجع عنها ) قال الرملي يعني فوجب ضمانهما بالإقرار ولا يجتمع قطع وضمان ورجوعه عن المائة صح في حق القطع ولم يصح في حق الضمان ، والمسروق منه يدعي المائتين المقر بهما أولا ولا يدعي المائة التي أضرب عنها بانفرادها فقط تأمل

                                                                                        ( قوله : فانتفى الضمان ولم يجب القطع ) كذا في عامة النسخ وفي نسخة فلا ينتفي وهو الموافق لما في الفتح حيث قال فلا يجب الضمان ( قوله : وحد التقادم في السرقة هو حده في الزنا ) قال الرملي وتقدم أن الفتوى على أنه مقدر بشهر وتقدم أنه إذا كان لعذر تقبل ( قوله : ومن المتأخرين من أفتى بصحته ) ظاهر إطلاقه صحته في حق المال والقطع وفيه نظر ، فإن في ذلك شبهة قوية فكيف يقطع معها والظاهر أنه خاص في حق تضمينه المال فقط لما مر أنه لا يقطع بالنكول [ ص: 57 ] وأنه لو أقر ثم هرب لا يتبع ( قوله : وفي فتح القدير ولا يسأل المقر عن المكان ) ذكر في النهر أن ذلك وقع في بعض النسخ قال وكأنه تحريف والصواب أنه يسأل ( قوله : واعلم أنه لا بد من حضور الشاهدين إلخ ) قال الرملي وفي شرح منظومة ابن وهبان لابن الشحنة ولا يشترط حضور الشهود للقطع على الصحيح الأخير من قول الإمام وكذا عندهما وكذلك بعد موت الشهود ففي المسألة قولان قياس واستحسان والله تعالى أعلم .

                                                                                        ( قوله : وهذا في كل الحدود سوى الرجم ) قال في الشرنبلالية بعد أن ذكر أن ذلك وقع في النهر أيضا وأن المؤلف وأخاه تبعا صاحب الفتح قلت استثناء الرجم مخالف لما تقدم لهم في حد الزنا بالرجم أنه إذا غاب الشهود أو ماتوا سقط الحد فلا يتجه إلا استثناء الجلد فيقام حد الغيبة والموت بخلاف الرجم لاشتراط بداءة الشهود به وهذه عبارة الحاكم في الكافي ، وإذا كان أي المسروق منه حاضرا والشاهدان غائبان لم يقطع أيضا حتى يحضروا وقال أبو حنيفة بعد ذلك يقطع وهو قول صاحبيه وكذلك الموت وكذلك هذا في كل حد وحق سوى الرجم ويمضي القصاص ، وإن لم يحضروا استحسانا ; لأنه من حقوق الناس ا هـ .

                                                                                        فهذا تصريح الحاكم . ا هـ . ملخصا .

                                                                                        قلت وكان المؤلف رحمه الله تعالى استشعر بذلك فقال بعدما نقله عن الكافي ، وإن شرط بداءة الشهود بالرجم ومراده بذلك دفع المنافاة بين ما ذكره في الكافي وبين ما مر في الحدود بأن المراد بما مر حضورهم في ابتدائه وبداءتهم وما هنا حضورهم إلى تمامه ، فإنه لا يشترط أما في القطع فلا يتأتى هذا التفصيل لكن بعد هذا بقيت المنافاة في حالة الغيبة والموت ، فإن ما هنا ظاهره أنه يرجم مع أنه ليس كذلك على أنك قد علمت من عبارة الحاكم المنقولة آنفا أن استثناء الرجم من القطع الذي هو القول الأخير للإمام لا من عدم القطع وذلك لا غبار عليه وأظن أنه في نسخة الكافي التي نقل عنها صاحب الفتح وتبعه المؤلف وأخوه سقطا فسقط منها القول الثاني فلذا اقتصروا على القول الأول مع أنك علمت عن شرح الوهبانية تصحيح القول الثاني المرجوع إليه .




                                                                                        الخدمات العلمية