الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وقيء ملأ فاه ) أي وينقضه قيء ملأ فم المتوضئ أفرده بالذكر ، وإن كان داخلا في الأول لمخالفته في حد الخروج كذا في التبيين ، وإنما لم يفرد الخارج من غير السبيلين مع مخالفته للخارج منهما [ ص: 36 ] كما في الوافي لما أن السيلان مستفاد من الخروج كما قدمناه بخلاف ملء الفم وقد تقدم الدليل لمذهبنا ، وهو مذهب العشرة المبشرين بالجنة ومن تابعهم واختلف في حد ملء الفم فصحح في المعراج وغيره أنه ما لا يمكن إمساكه إلا بكلفة وصحح في الينابيع أنه ما لا يقدر على إمساكه ، ووجهه أن النجس حينئذ يخرج ظاهرا ; لأن هذا القيء ليس إلا من قعر المعدة فالظاهر أنه مستصحب للجنس بخلاف القليل ، فإنه من أعلى المعدة فلا يستصحبه ; ولأن للفم بطونا معتبرا شرعا حتى لو ابتلع الصائم ريقه لا يفسد صومه كما لو انتقلت النجاسة من محل إلى آخر في الجوف وظهورا حتى لا يفسد الصوم بإدخال الماء فيه فراعينا الشبهين فلا ينقض القليل ملاحظة للبطون ، وينقض الكثير للآخر الخروج النجس ظاهرا

                                                                                        ( قوله : ، ولو مرة أو علقا أو طعاما أو ماء ) بيان لعدم الفرق بين أنواع القيء ، والعلق ما اشتدت حمرته وجمد أطلق في الطعام والماء قال الحسن إذا تناول طعاما أو ماء ثم قاء من ساعته لا ينقض ; لأنه طاهر حيث لم يستحل وإنما اتصل به قليل القيء فلا يكون حدثا فلا يكون نجسا وكذا الصبي إذا ارتضع وقاء من ساعته وصححه في المعراج وغيره ومحل الاختلاف ما إذا وصل إلى معدته ولم يستقر أما لو قاء قبل الوصول إليها ، وهو في المريء ، فإنه لا ينقض اتفاقا كما ذكره الزاهدي وفي فتح القدير لو قاء دودا كثيرا أو حية ملأت فاه لا ينقض ; لأن ما يتصل به قليل ، وهو غير ناقض ا هـ .

                                                                                        وقد يقال ينبغي على قول من حكم بنجاسة الدود أن ينقض إذا ملأ الفم

                                                                                        ( قوله : لا بلغما ) عطف على مرة أي لا ينقضه بلغم أطلقه فشمل ما إذا كان من الرأس أو من الجوف ملأ الفم أو لا مخلوطا بطعام أو لا إلا إذا كان الطعام ملء الفم ، وعند أبي يوسف ينقض المرتقي من الجوف إن ملأ الفم كسائر أنواع القيء ; لأنه يتنجس في المعدة بالمجاورة بخلاف النازل من الرأس ، فإنها ليست محل النجاسة ولهما أنه لزج صقيل لا يتداخله أجزاء النجاسة ، فصار كالبزاق ، وما يتصل به من القيء قليل ولا يرد ما إذا وقع البلغم في النجاسة ، فإنه يحكم بنجاسته ; لأن كلامنا فيما إذا كان في الباطن وأما إذا انفصل قلت ثخانته وازدادت رقته فقبلها هكذا في كثير من الكتب ، وهو ظاهر في أن البلغم ليس نجسا اتفاقا ، وإنما نجسه أبو يوسف للمجاورة ، وهما حكما بطهارته ، وأن الخلاف في الصاعد من المعدة فاندفع به قول من قال إن البلغم نجس عند أبي يوسف ; لأنه إحدى الطبائع الأربع حتى قال في الخلاصة إن من صلى ومعه خرقة المخاط لا تجوز صلاته عند أبي يوسف إن كان كثيرا فاحشا إذ لو كان كذلك لاستوى النازل من الرأس والمرتقي من الجوف ، وقد قالوا لا خلاف في طهارة الأول واندفع به ما في البدائع أنه لا خلاف في المسألة في الحقيقة بأن جواب أبي يوسف في الصاعد من المعدة ، وأنه حدث بالإجماع ; لأنه نجس وجوابهما في الصاعد من حواشي الخلق وأطراف الرئة وأنه ليس بحدث إجماعا لأنه ظاهر فينظر إن كان صافيا غير مخلوط بالطعام تبين أنه لم يصعد من المعدة فلا يكون حدثا ، وإن كان مخلوطا بشيء من ذلك تبين أنه صعد منها ، فيكون حدثا وهذا هو الأصح ا هـ .

                                                                                        ويدل على ضعفه أن المنقول في الكتب المعتمدة أن البلغم إذا كان مخلوطا بالطعام لا ينقض إلا إذا كان الطعام غالبا بحيث لو انفرد ملأ الفم

                                                                                        أما إذا كان الطعام مغلوبا فلا ينقض مع تحقق كونه من المعدة قال في الخلاصة : فإن استويا لا ينقض وفي صلاة المحسن قال العبرة للغالب ، ولو استويا يعتبر كل على حدة قال في فتح القدير وعجز هذا أولى من عجز ما في الخلاصة وفي شرح الجامع الصغير لقاضي خان الخلاف في البلغم ، وهو ما كان منعقدا متجمدا أما البزاق ، وهو ما لا يكون متجمدا فلا ينقض بالإجماع وذكر العلامة يعقوب باشا أن في قولهما إن ما يتصل بالبلغم من القيء قليل ، وهو غير ناقض إشارة إلى أنه ينبغي أن ينتقض الوضوء بقيء البلغم إذا تكرر جدا مع اتحاد المجلس أو السبب [ ص: 37 ] ويبلغ بالجمع حد الكثرة ا هـ .

                                                                                        وقد يقال الظاهر عدم اعتباره ; لأنه إنما يجمع إذا كان غير مستهلك أما إذا كان مغلوبا مستهلكا فلا وصرحوا في باب الأنجاس أن نجاسة القيء مغلظة وفي معراج الدراية وعن أبي حنيفة قاء طعاما أو ماء فأصاب إنسانا شبرا في شبر لا يمنع ، وفي المجتبى الأصح أنه لا يمنع ما لم يفحش . ا هـ .

                                                                                        وهو صريح في أن نجاسته مخففة وحمله في فتح القدير على ما إذا قاء من ساعته ، وهو غير صحيح ; لأنه حينئذ طاهر كما قدمنا أنه غير ناقض وألحقوا بالقيء ماء فم النائم إذا صعد من الجوف بأن كان أصفر أو منتنا ، وهو مختار أبي نصر وصحح في الخلاصة طهارته وعند أبي يوسف نجس ، ولو نزل من الرأس فظاهر اتفاقا وفي التجنيس أنه طاهر كيفما كان وعليه الفتوى .

                                                                                        [ ص: 36 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 36 ] ( قوله : وصححه في المعراج وغيره ) أقول : قال في شرح المنية والصحيح ظاهر الرواية أنه نجس لمخالطته النجاسة وتداخلها فيه بخلاف البلغم . ا هـ .

                                                                                        ( قوله ; لأنه إحدى الطبائع الأربع ) قال في غاية البيان وما قيل إن السوداء إحدى الطبائع الأربعة ففيه نظر عندي ; لأنها تعد من الأخلاط لا من الطبائع ألا يرى أن الأطباء قالوا الأخلاط أربعة الدم والمرة السوداء والمرة الصفراء والبلغم فطبع الأول حار رطب والثاني بارد يابس والثالث حار يابس والرابع بارد رطب فعلم أن لكل واحد من الأربعة طبعا لا أن ذاته طبع ا هـ .

                                                                                        فما ذكره في السوداء يجري في البلغم والله تعالى أعلم .

                                                                                        ( قوله : لا ينقض إلا إذا كان الطعام غالبا إلخ ) ظاهره أن الضمير في قوله لا ينقض راجع إلى البلغم ، وهو غير صحيح ; لأنه إذا كان الطعام غالبا يكون الناقض هو الطعام لا البلغم وعبارة التتارخانية ، وإن قاء طعاما أو ما أشبهه مختلطا بالبلغم ينظر إن كانت الغلبة للطعام وكان بحال لو انفرد الطعام بنفسه كان ملء الفم نقض وضوءه ، وإن كانت الغلبة للبلغم ، وكان بحال لو انفرد البلغم بلغ ملء الفم كانت المسألة على الاختلاف ا هـ . أي بين أبي يوسف وبينهما .

                                                                                        [ ص: 37 ] ( قوله : ويبلغ بالجمع حد الكثرة ) أي يبلغ ما يتصل به من القيء حدها ( قوله : وحمله في فتح القدير ) عبارته هكذا ويمكن حمله على ما إذا قاء من ساعته بناء على أنه إذا فحش غلب على الظن كون المتصل به القدر المانع ، وبما دونه ما دونه انتهت فالذي يفهم من كلامه أن الناقض هو الذي يغلب على الظن من اتصال القدر المانع ، وهو ملء الفم فلا وجه للرد والتخطئة ومثله في النهر لكن نظر فيه العلامة نوح أفندي في حاشية الدرر بأن النجس إذا اتصل بالطاهر يصير نجسا ا هـ .

                                                                                        أي بخلاف البلغم على قولهما ; لأنه للزوجته لا تتداخله أجزاء النجاسة كما مر ; فلذا اعتبر ملء الفم فيما خالطه .




                                                                                        الخدمات العلمية