الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وينفذ القضاء بشهادة الزور في العقود والفسوخ ظاهرا وباطنا لا في الأملاك المرسلة ) أي المطلقة وهي التي لم يذكر لها سبب معين وهذا عند أبي حنيفة وقالا لا ينفذ إلا ظاهرا ; لأن شهادة الزور حجة ظاهرا فصار كما لو كان غير أهل لها وله قول علي رضي الله عنه لتلك المرأة شاهداك زوجاك ولأن القضاء لقطع المنازعة بينهما من كل وجه فلو لم ينفذ باطنا كان تمهيدا لها وفي فتح القدير ، وأما الاستشهاد بتفريق المتلاعنين فليس بشيء ا هـ .

                                                                                        يعني : باعتبار أن الكذب ليس هو في الإخبار بالفرقة وإنما هو في الرمي بالزنا أو نفي الولد وقال الفقيه أبو الليث الفتوى على قولهما وفي فتح القدير من النكاح وقول أبي حنيفة هو الوجه ومن فروع المسألة ادعى على امرأة نكاحا وهي جاحدة وأقام بينة زور فقضى بالنكاح بينهما حل للمدعي وطؤها ولها التمكين عنده .

                                                                                        وكذا إذا ادعت نكاحا على رجل وهو يجحد ومنها قضى ببيع أمة بشهادة زور حل للمنكر وطؤها وكذا في الفسوخ بالبيع والإقالة ومنها ادعت أنه طلقها ثلاثا وهو ينكر وأقامت بينة زور فقضى بالفرقة فتزوجت بآخر بعد العدة حل له وطؤها عند الله تعالى وإن علم بحقيقة الحال وحل لأحد الشاهدين أن يتزوجها [ ص: 15 ] ويطأها ولا يحل للأول وطؤها ولا يحل لها تمكينه ومن صور التحريم صبي وصبية سبيا فكبرا وأعتقا ثم تزوج أحدهما بالآخر فجاء حربي مسلما وأقام بينة أنهما ولداه قضى القاضي بينهما بالفرقة فإن رجع الشهود أو تبين أنهم شهود زور لا يحل للزوج وطؤها عنده ; لأن القضاء بالحرمة نفذ باطنا وظاهرا ومحمد في هذا الفرع مع أبي حنيفة ; لأنه لا يعلم حقيقة كذب الشهود .

                                                                                        كذا في فتح القدير وفي الولوالجية وأثم الشاهدان إثما عظيما وللنفاذ باطنا عنده شرطان الأول عدم علم القاضي بكذبهم فلو علم القاضي كذب الشهود لم ينفذ ذكره في فتح القدير من النكاح الثاني كون المحل قابلا فإذا كانت المرأة تحت زوج أو كانت معتدة أو مرتدة أو محرمة بمصاهرة أو برضاع لم ينفذ لأنه لا يقبل الإنشاء وإنما لا يشترط حضور الشهود للنكاح على قول بعض المشايخ وفي شرح الجامع لقاضي خان ولم يشترط محمد حضور الشهود وذكر الزعفراني أنه شرط وبه أخذ عامة المشايخ . ا هـ .

                                                                                        فالمعتمد الاشتراط وإذا قلنا بعدمه وهو أوجه كما في فتح القدير من النكاح فوجهه أنا نجعل حكم الحاكم إنشاء مقتض في ضمن صحة القضاء والثابت اقتضاء لا تراعى فيه شرائطه وكذا لا يشترط قبض رأس المال وبدل الصرف قبل الافتراق كما في القنية قيد بشهادة الزور ; لأن القاضي لو قضى بشهادتهم فظهر أنهم عبيد أو كفار أو محدودون في قذف لم ينفذ إجماعا ; لأنها ليست بحجة أصلا بخلاف الفساق على ما عرف ولإمكان الوقوف عليهم فلم تكن شهادتهم حجة .

                                                                                        وقيد بالشهادة ; لأن القضاء باليمين الكاذبة لا ينفذ قالوا لو ادعت أن زوجها أبانها بثلاث فأنكر فحلفه القاضي فحلف والمرأة تعلم أن الأمر كما قالت لا يسعها الإقامة معه ولا أن تأخذ من ميراثه شيئا وهذا لا يشكل إذا كان ثلاثا لبطلان المحلية للإنشاء قبل زوج آخر وفيما دون الثلاث مشكل ; لأنه يقبل الإنشاء وأجيب بأنه إنما يثبت إذا قضى القاضي بالنكاح وهنا لم يقض به لاعترافهما به وإنما ادعت الفرقة كذا ذكر الشارح وفي الخلاصة ولا يحل وطؤها إجماعا وفي البزازية قبيل الإيمان سمعت بطلاق زوجها إياها ثلاثا ولا تقدر على منعه إلا بقتله إن علمت أنه يقربها تقتله بالدواء ولا تقتل نفسها وذكر الأوزجندي أنها ترفع الأمر إلى القاضي فإن لم يكن لها بينة تحلفه فإن حلف فالإثم عليه وإن قتلته فلا شيء عليها والبائن كالثلاث . ا هـ .

                                                                                        وأطلق في العقود فشمل عقود التبرعات قالوا وفي الهبة والصدقة روايتان وكذا في البيع بأقل من قيمته في رواية لا ينفذ باطنا ; لأن القاضي لا يملك إنشاء التبرعات في ملك الغير والبيع بالأقل تبرع من وجه وإطلاق الكتاب يقتضي أن المعتمد النفاذ فيها باطنا أيضا ; لأن النفاذ في ضمن صحة القضاء فلا يشترط فيه شرائطه ولا يختص بمحل والبيع بالأقل يملكه من لا يملك التبرع كالمكاتب والعبد المأذون وفي إيضاح الإصلاح أراد بالفسخ إبطال العقود بأي وجه كان فيعم الطلاق ا هـ .

                                                                                        وليس بصحيح ; لأن الطلاق لا يبطل النكاح وإنما يرفع القيد الثابت بالنكاح فالأولى أن يقال أراد بالفسخ ما يرفع حكم العقد فيشمل الطلاق كما لا يخفى وفي القنية ادعى عليه جارية أنه اشتراها بكذا فأنكر فحلف فنكل فقضى عليه بالنكول تحل الجارية للمدعي ديانة وقضاء كما في شهادة الزور ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا القضاء بالنكول كالقضاء بشهادة الزور وظاهر اقتصاره على نفي الأملاك المرسلة أنه لا ينفذ باطنا في النسب وقدمنا أنه ينفذ فيه وصرح به الولوالجي فقال إذا شهدوا زورا أنه أقر أن أمته بنت له فجعلها القاضي بنتا له تثبت جميع أحكام البنتية عند أبي حنيفة وأبي يوسف في قوله الأول ولا يحل له أن يطأها وترث منه وهذا بناء على أن القضاء بالنسب بشهادة الزور هل ينفذ باطنا فهو على الاختلاف ا هـ .

                                                                                        وفي المحيط ومن مشايخنا من قال القضاء بالنسب بشهادة الزور لا ينفذ باطنا بالإجماع ونص الخصاف على أنه ينفذ عند أبي حنيفة ففي النسب والهبة عن أبي حنيفة روايتان وكان هذا حيلة لمن لا وارث له أن يثبت النسب من نفسه بأن يدعي شخصا مجهول النسب أنه ابنه أو ابنته ويقيم على ذلك شاهدي زور فيقضي القاضي [ ص: 16 ] بالنسب له ا هـ .

                                                                                        ما في المحيط وفيه والشهادة بعتق الأمة كالشهادة بطلاق المرأة ا هـ .

                                                                                        قلت : وينبغي أن يكون الشهادة بالوقف كالعتق ولم أر نقلا في الشهادة بأن الوقف ملك أو بتزوير شرائط الوقف أو بأن الواقف أخرج فلانا وأدخل فلانا زورا إذا اتصل به القضاء وظاهر ما في الهداية أن ما عدا الأملاك المرسلة فإنه ينفذ باطنا حيث قال وكل شيء قضى به القاضي إلى آخره بناء على أن التحريم يشمل القصدي والضمني خصوصا إذا قلنا بأن الوقف من قبيل الإسقاط فهو كالطلاق والعتاق فعلى هذا فاللقب ليس بعام لخروج النسب عن العقود والفسوخ مع أن في دخول الطلاق والعتاق تحت الفسخ إشكالا ; لأن الطلاق مقابل الفسخ ; لأن الفسخ لا ينقص العدد والطلاق ينقصه وقدمنا ما في الإيضاح وقولهم إن المسألة ملقبة بالقضاء بالعقود والفسوخ يقتضي أن لا ينظر فيه إلى المعنى لكونه علما فيه ولو حذف الأملاك لكان أولى ليشمل ما إذا شهدوا بزور بدين لم يبينوا سببه فإنه لا ينفذ وإذا لم ينفذ باطنا في الأملاك المرسلة لم يحل للمقضي له الوطء والأكل واللبس وحل للمقضي عليه لكن يفعل ذلك سرا ; لأنه لو فعله جهرا فسقه الناس أو عزروه كذا في الولوالجية .

                                                                                        واعلم أن الإرث حكمه حكم الأملاك المطلقة فلا ينفذ القضاء بالشهود زورا فيه باطنا اتفاقا وإن كان ملكا بسبب وسيأتي الاختلاف في باب اختلاف الشاهدين في أن الإرث مطلق أو بسبب والمشهور أنه مطلق واختار في الكنز أنه بسبب ولذا قال في البدائع في الجواب عن حديث البخاري مرفوعا { إنما أنا بشر فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار } أنه قاله عليه الصلاة والسلام في مواريث درست والميراث ومطلق الملك سواء في الدعوى وبه نقول . ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أنهما لما قالا بعدم النفاذ باطنا اختلفا فقال محمد لا يحل للزوج الأول وقال أبو يوسف يحل للزوج الأول وطؤها في الظاهر ، وأما في الباطن فلا يحل لأن قول أبي حنيفة بوقوع الفرقة باطنا صار شبهة له فيحرم الوطء احتياطا وصار كما إذا تزوج امرأة ثم طلقها ثلاثا ثم تزوجها بعد ذلك كره محمد له أن يطأها قبل المحلل بقول أبي حنيفة كذا في الولوالجية وفيها ولو تزوجها الثاني ودخل بها وفارقها وانقضت عدتها فلا بأس أن يتزوجها الأول أما عندهما فلأن نكاح الأول قائم لكنهما يجددان النكاح حتى لا يتهما ، وأما عند أبي حنيفة فإن الفرقة بالثلاث واقعة فيكون الزوج الثاني مثبتا للحل هذا إذا فارقها الزوج الثاني بطلاق باختياره فأما إذا شهدا عليه زورا بالثلاث وقضى القاضي بالفرقة حل لها أن تتزوج من شاءت من الزوج الأول والشاهدين عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأول وعند أبي يوسف الآخر وهو قول محمد لا يحل ; لأنها كانت منكوحة الأول فلا تتزوج إلا من الأول . ا هـ .

                                                                                        وأشار المصنف إلى أن قضاء القاضي يحل ما كان حراما في معتقد المقضى له ولذا قال في الولوالجية ولو قال لها أنت طالق ألبتة فخاصمها إلى قاض يراها رجعية بعد الدخول فقضى بكونها رجعية والزوج يرى أنها بائنة أو ثلاثا فإنه يتبع رأي القاضي عند محمد فيحل له المقام معها وقيل إنه قول أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف لا يسعه المقام معها وإن ترافعا إلى قاض آخر بعد القضاء الأول فإنه لا ينقضه وإن كان على خلاف رأيه وهذا إذا قضى له فإن قضى عليه بالبينونة أو الثلاث والزوج لا يراه يتبع رأي القاضي إجماعا .

                                                                                        وهذا كله إذا كان الزوج عالما له رأي واجتهاد فإن كان عاميا اتبع رأي القاضي سواء قضى له أو عليه وهذا إذا قضى له أما إن أفتى له فهو على الاختلاف السابق ; لأن قول المفتي في حق الجاهل بمنزلة رأيه واجتهاده كذا في الولوالجية وفي آخر النتف اعلم أن القضاء لا يهدم القضاء والرأي لا يهدم الرأي والقضاء يهدم الرأي والرأي لا يهدم القضاء مثال الأول ظاهر [ ص: 17 ] وأما مثال الثاني فإن يعتقد الثلاث في قوله أنت طالق ألبتة فإنها تحرم عليه فإن تحول رأيه إلى أنها رجعية لم تحل ومثال الثالث أن يحكم القاضي بكونها رجعية فإن هذا القضاء يهدم رأيه من أنها ثلاث ومثال الرابع إذا قضى قاض ثم تحول رأيه فإنه لا ينقض ما مضى ; لأن الرأي لا يهدم القضاء وإنما يعمل برأيه في المستقبل ا هـ . مختصرا .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قول المصنف وينفذ القضاء ) انتهت إلى هنا كتابة النهر ولا حول ولا قوة إلا بالله المستعان على كل أمر ونسأله التيسير لكل عسير [ ص: 15 - 16 ] ( قوله حيث قال وكل شيء قضى به القاضي إلخ ) عبارة الهداية وكل شيء قضى به القاضي في الظاهر بتحريمه فهو في الباطن كذلك ( قوله فقال محمد لا تحل وقال أبو يوسف يحل للزوج الأول وطؤها ) كذا في بعض النسخ وفي أغلب النسخ فقال محمد يحل للزوج الأول وطؤها وقال أبو يوسف لا يحل وهو الصواب وقوله في الظاهر صوابه في الباطن وقوله : وأما في الباطن فلا يحل الصواب إسقاطه والاقتصار على التعليل وعبارة الولوالجية هكذا ، وأما الزوج الأول عند أبي حنيفة لا يحل له وطؤها في الظاهر ، وأما في الباطن عند محمد يحل وعند أبي يوسف لا يحل ; لأن قول أبي حنيفة إلخ ا هـ . ملخصا .

                                                                                        وقوله وصار كما إذا تزوج امرأة إلخ هكذا رأيته في الولوالجية كما هنا فتأمله ولعل معنى قوله ثم طلقها ثلاثا أي شهدا زورا بطلاقها ثلاثا ثم رأيت المسألة في شرح أدب القضاء حيث قال إذا تزوج امرأة بغير ولي ثم طلقها ثلاثا إلخ فسقط من عبارة الولوالجية قوله بلا ولي فوقع الخلل ( قوله من الزوج الأول والشاهدين عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأول ) كذا في الولوالجية وفي بعض النسخ من الزوج الأول والثاني عند أبي يوسف الأول ( قوله فإنه يتبع رأي القاضي عند محمد إلخ ) قال في الفتح والوجه عندي قول محمد ; لأن اتصال القضاء بالاجتهاد الكائن للقاضي يرجحه على اجتهاد الزوج والأخذ بالراجح متعين وكونه لا يراه حلالا إنما يمنعه من القربان قبل القضاء أما بعده وبعد نفاذه باطنا كما فرضت المسألة فلا ا هـ .

                                                                                        ( قوله فإن كان عاميا ) ظاهر المقابلة أن المراد بالعامي غير المجتهد سواء كان عالما أو جاهلا .




                                                                                        الخدمات العلمية